إلى عبد الحليم فضل الله.. كيفَ نُواجه “الأولويّة التّكنولوجيّة”؟ (2/2)

في الجزء السّابق، اقترحنا توسيع الزّوايا التّأمّليّة والتّفكّريّة التي يُمكن استخراجها من كتاب "العِلم والعَولمة: قراءة في الأزمة من منظور اقتصاديّ ومعرفيّ"، لكاتبه الدّكتور عبد الحليم فضل الله.. حتّى تشمل عدداً من الأسئلة الأساسيّة والكبرى على مستوى الانسانيّة والعقل الانسانيّ- والذّهن الانسانيّ- ككلّ. ولكي نُراعيَ المساحة المُتاحة لنا، ولكي نُراعيَ المقام كما يُقال، فسنركّز في هذا الجزء الثّاني على الأسئلة المرتبطة بعالم التّأمّل والتّفكّر في الوجود وفي طبيعته. يُمكننا بالطّبع الحديث عموماً عن العَالَم- أو البُعد- الأنطولوجيّ (Ontologique).

قبل هذا النّوع من التّساؤلات واقعاً، وبالنّسبة إلى الأسئلة والمواضيع التي نهتمّ بها تحديداً، يتوجّب في المبدأ طرح النّوع من التّساؤلات المتعلّق “بِمَن هو الذي يَعرف؟ أو مَن (هو) الذي يعرف في داخلنا كبشر؟” (مثلاً: الرّوح الأبديّة؟ النّفس، أيّ نفس؟ الدّماغ؟ الذّهن إلخ.؟). ومحاولة الإجابة على هذا النّوع الأخير من الأسئلة، هي التي ستحدّد- إلى حدّ كبير- تموضعنا المادّيّ أو الرّوحيّ أو ما إلى ذلك. وهذا التّموضع مهمّ في فهم ظاهرة الهَوَس أو شبه الهَوس بالتّراكم المادّيّ-الرّأسماليّ وبما سمّيناه “أولويّة السّوق” كنتيجة طبيعيّة لبعض التّموضعات المادّيّة إن صحّت التّعابير، والتي يُركّز عليها كتاب الدّكتور فضل الله كما سبق أن أشرنا.

غير أنّ التّأمّل والتّفكّر في الأسئلة المتعلّقة بـ”موضوع المعرفة” أو بـ”المَعلوم” أو بـ”الأشياء”، أي بـ”المَوجود” كما نُعبّر عادةً.. قد يوصلانا إلى فهم مُعمّق أكثر لظاهرة أخرى يُشدّد عليها الكتاب، وهي التي سمّيناها بـ”الأولويّة التّقنيّة أو التّكنولوجيّة” تحديداً. وهذا الفهم من شأنه أن يُبيّن لنا أنّ القضيّة تتخطّى على الأرجح: ثنائيّة “المادّيّة VS الرّوحانيّة” أو ثنائيّة “المادّيّة VS المثاليّة” وما إلى ذلك.

لنغص إذن في هذا البحر، أو في هذه البحور، لا سيّما مع مارتن هايدغر (ت. ١٩٧٦ م)، الفيلسوف الألمانيّ الوجوديّ الكبير (إن لَم يكن الأكبَرَ في الغرب وعلى الاطلاق)، وعالِم الأنطولوجيا المعروف.. وانطلاقاً من أحد أسئلته المركزيّة:

النّقطة الأولى؛ تتمحور حول السّؤال المستوحى من أعمال لايبنيتز (كما نذكّر عادةً):

-لماذا هناك “شيء” بدلاً من “لا شيء”؟

Pourquoi, (d’ailleurs,) y a-t-il : “quelque chose” plutôt que “rien” ?

علينا أن نقرأ السّؤال واقعاً مع التّقطيع التّالي: لماذا/ هناك (Y a-t-il, There is)/ “شيء”/ بدلاً من “لا شيء”؟

لقد تحدّثنا حول هذا السّؤال- أو سؤال الأسئلة الوجوديّة- في مقالات وكتب سابقة وبتعمّق كافٍ في ما يخصّ الاشكاليّات التي نتناولها. ولكن، لنركّز على الفكرة الهايديغريّة التي تهمّنا هنا تحديداً، أو بالأحرى على المفهوم الهايديغريّ التّالي والأساسيّ في تاريخ الفكر الانسانيّ لا سيّما منه الحديث والمعاصر: مع التّبسيط لكن المدروس، بحسب هايديغر وعدد من الوجوديّين الكبار من تلامذته وغيرهم.. إنّ تركيز عقلنا الانسانيّ على “الـ – لماذا” في السّؤال المذكور.. لطالما حَجَبَ هذا العقل- وحجب وعيَنا بشكل عامّ- عن الـ”هناك”، أي عن مقاربة سرّ أو لغز الوجود نفسه، عن مقاربة أنّ “هناك” (There is)، وهذا ما يختصر الاشكاليّات الكبرى المتعلّقة بالتّفكير الميتافيزيقيّ واللّاهوتيّ بشكل خاصّ (بحسب هذه النّظرة الفلسفيّة إذن).

أمّا تركيز عقلنا الانسانيّ، لا سيّما منه المعاصر بل الرّاهن، أيضاً على “ال-شّيء” في السّؤال السّابق، أي على “الأشياء” (أو الموجود/الموجودات إذا ابتغَينا دقّة أكبر).. فهو المسؤول الأوّل حاليّاً عن تواجد هذا الحجاب الذّهنيّ-التّقنيّ المُعمّم إلى حدّ بعيد حول العالم (وهذا ما سنراه في النّقطة الثّانية حول الاشكاليّة التّكنولوجيّة تحديداً والتي تُغرق عقلنا إذن، بل تجعله يستغرق بشكل مبالِغ، في مقاربة الموجودات والأشياء، بدلاً من الالتفات إلى “سرّ” أو “لغز” أو “معاني” الوجود نفسه، وهو ما يُفترض أنّه المستوى أو البُعد الأهمّ بالنّسبة إلى كائنات واعية مثلنا-وواعية بأنّها واعية طبعاً).

إنّنا هنا إذن أمام المفهوم الهاديغريّ الأساسيّ حول: الغَفلة، المقرونة بغَفلةٍ عن الغَفلة. فنحن كبشر، لا سيّما في العالم الرّاهن، غافلون عمّا هو أكثر أهمّيّة- أو “أساسيّة” أو مصيريّة.. وغافلون أيضاً عن أنّنا غافلون. لاحظ معي عمق هذا المفهوم، وإلى أيّ درجة يُقرّبنا من فهم جذور “الأولويّة التّقنيّة” التي يتحدّث عنها الدّكتور فضل الله.. وربّما من فهم المخارج منها كما سنرى.

نقترح على الدّكتور فضل الله، واقعاً، أن نتنبّه معاً إلى مقاربة الاشكاليّات المركزيّة المذكورة من خلال الاستعانة بالجهد الفكريّ والتّأمّليّ والفلسفيّ والمفاهيميّ والبحثيّ الذي قامت به المدارس الوجوديّة المعاصرة تحديداً. فبالإضافة إلى ما سبق أن تحدّثنا حوله، وما سنعود إليه في ما يلي، في ما يخصّ جان بول سارتر وغابرييل مارسيل خصوصاً إنّ دعوة الشّيخ الوجوديّ المعاصر الأكبر هايدغر إلى العودة إلى سؤال الوجود (أو “الكينونة”) بدلاً من الاكتفاء بالاستغراق في الموجودات (أو “الكائنات”) قد تلقّاها، ووسّعها، وانتقدها عدد من المفكرين الأساسيّين اللّاحقين[1].

وقد دشّنت هذه الدّعوة ما يُعرف غالباً بـ”الاختلاف الأنطولوجيّ”، أي التّمييز بين الوجود والمَوجود (وهو تمييز حاضر قبل ذلك طبعاً في الكتابات الفلسفيّة والعرفانيّة الاسلاميّة).

إنّه مفهوم الاختلاف الأنطولوجيّ إذن، الذي سعى هايدغر من خلاله إلى تجاوز نسيان “الوجود” (أو “الوجود في ذاته”) والذي طبع تاريخ الميتافيزيقا الغربيّة منذ أفلاطون ربّما بحسب هذا الفهم. وقد عمّق عدد من المتأثّرين بهايدغر هذا التّساؤل حول معنى الوجود/الكينونة كما أشرنا، أو أعادوا توجيهه نحو آفاق لغويّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة. فغادامر مثلاً، جعل سؤال الكينونة متشابكاً مع الفهم والوعي التّاريخيَّين؛ وأمّا دريدا، فقد أعاد تفسيره عبر مفهوم الاختلاف ونقد التّفكير الميتافيزيقيّ؛ بينما أزاحه أو ربّما طوّره ليفيناس لصالح أولويّة العلاقة الأخلاقيّة بالآخر؛ وجعل منه ماركوز أداةً لتشخيص هيمنة العقل التّقنيّ أو الاطار التقنيّ على العقل الانسانيّ ككلّ (أو على العالم الحديث ككلّ).

في الحقيقة، إنّ الدّعوة أو الدّعوى الهايديغريّة هذه أساسيّة جدّاً بالنّسبة إلى الاشكاليّات المذكورة، وبالنّسبة إلى العقل الانسانيّ المعاصر ككلّ. وينبغي في رأيي أن تُرشدنا إلى طريقَين اصلاحيَّين مركزيَّن واضحَين بلا شكّ، مع الدّكتور فضل الله وأمثاله:

  • الأوّل: يتعلّق بإصلاح نظرتنا إلى الوعي والعقل بشكل عامّ، وبدراسة مختلف أنواع تجلّياتهما أو مختلف مستوياتهما أو مختلف أبعادهما (إلخ..) كما أشرنا سابقاً. إنّ الالتفات إلى وجود عدّة تجلّيات أو مستويات أو أبعاد “للعقل”- بدلاً من الإصرار على أحاديّة الذّهن ذي النّزعة التّقنيّة مثلاً- من شأنه أن يُحدث تغييراً جذريّاً في ما يعني فهمنا للعالم الذي يُحيط بنا، وبالتّالي أيضاً في ما يعني فلسفتنا المعرفيّة والعلميّة والبحثيّة. إنّ هذا النّوع من الطّريق الإصلاحيّ أو التّجديديّ لا يحصل فقط على المستوى الفلسفيّ البحت إن جاز التّعبير، ولكن ينبغي بطبيعة الحال أن يكون له جوانب وأطر روحيّة ونفسيّة وتربويّة واجتماعيّة بل وسياسيّة أيضاً.
  • الثّاني: ويتعلّق بدوره بنظرتنا إلى الدِّين والحياة الدّينيّة بشكل عامّ، وقد سبق وتحدّثنا مطوّلاً حول هذا الجانب من خلال التّركيز على أهميّة الجانب الصّوفيّ-العرفانيّ داخل الأديان، وأهمّيّة عودته أو اعادته إلى الصّفوف الأماميّة.. وهي الإعادة التي من شأنها، باختصار، أن توجّه “الطّاقة الدّينيّة”- إن شئت- نحو مقاربة قضايا الوعي الانسانيّ والعقل الانسانيّ ككلّ؛ ونحو التّركيز، قدر الإمكان، على مضمون الأديان لا على مجرّد مظاهرها وصورها وطقوسها وشرائعها (دون انتقاص لأهمّيّة أيّ جانب طبعاً)؛ ونحو إعطاء جانب “السّير والسّلوك” الفرديّ دوره المركزيّ المطلوب؛ ونحو استخدام لغة مفاهيميّة من النّوع العالميّ. لقد شدّدنا في ما سبق على أهمّيّة إبقاء الأديان على بُعدَيها اللّاهوتيّ والشرعيّ-القانونيّ (بالإضافة إلى البُعد الأخلاقيّ طبعاً، والأيديولوجيّ بشكل عامّ)، أقلّه في الوقت الرّاهن.. ولكن، لا ينبغي لهذه الزّوايا المذكورة وغيرها أن تغطّي على قلبِ-قلبِ الديّن إن جاز التّعبير، والمتمثّل بمسألة ارتقاء الانسان المتديّن أو السّالك بنفسه وبروحه وبصفاته.. نحو مراتب تُتيح له الاقتراب من “معرفة الوجود” (أو معرفة نفسِهِ واقعاً، ولكنّ هذا بحثٌ آخر طبعاً).

النّقطة الثّانية؛ متعلّقة، بل ومنبثقة، من النّقطة الأولى إلى حدّ كبير. فهي تتمحور بشكل أكثر تحديداً ومباشرةً حول ما يُمكن تسميته إذن “بالإشكاليّة التّكنولوجيّة” أو “بإشكاليّة العقل التّقنيّ” أو “بإشكاليّة العقل الأداتيّ-التّقنيّ”.. إلى ما هنالك من تسميات ممكنة.

والواقع أنّ لعالِم الاجتماع الألمانيّ الكبير ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م) فضلاً تأسيسيّاً لا يُستهان به أبداً في ما يعني الجهد المفاهيميّ العامّ في هذا الاطار. فمن خلال منهجيّته الفَهميّة-التّأويليّة والتي تحدّثنا عنها مراراً وتكراراً، حاول ماكس فيبر بناء عدّة نماذج-مثاليّة (أو تصوّرات أو مفاهيم) تدور في هذا الفلك. يُمكننا التّركيز في هذا السّياق على المفاهيم التّالية: “العَقلَنة” (كطريقة تفكير وتنظيم مُهيمِنة، وكظاهرة فريدة- غربيّة الطّابع- خصوصاً)؛ و”العقل الأداتيّ”؛ وصولاً إلى مفهومنا المفضّل في ما يعني زاوية اهتمامنا في هذا المقام، أي مفهوم “عالم التّقنيّة” (Le monde de la technique).

إقرأ على موقع 180  "ثائرُ" المستقبل الإنساني.. روحيٌّ وكَونيٌّ بالتّأكيد

استفاد مارتن هايدغر إلى حدّ كبير من هذا المفهوم الأخير لكي يبني تحليله العامّ لهذه الظّاهرة التّقنيّة وللمعاني الكامنة وراءها وللإشكاليّات النّاتجة عنها.. وصولاً إلى المخاطر (الوجوديّة والفكريّة) المتعلّقة بها.

في الحقيقة، يُحاول فيبر من جهته دراسة ظاهرة “العَقْلنة” الحديثة إذن، والتي حوّلت العالم إلى نسقٍ من الحسابات والأدوات والوسائل، بحيث غابت القيم الجوهرية (أو الأساسيّة) لصالح منطق الكفاءة والسّيطرة. ومِن هنا، يُمكن بالتّالي اعتبار “العالم التّقنيّ” عند هايدغر تعبيراً أنطولوجيّاً عن العمليّة نفسها التي وصفها فيبر سوسيولوجياً (باسم “العَقلنة الأداتيّة” أيضاً). غير أنّ الفارق الأساسيّ بينهما يكمن في طبيعة السؤال المطروح: فالعَقلنة عند فيبر هي ظاهرة تاريخيّة واجتماعيّة أوّلاً، تعبّر عن سيطرة التّفكير الأداتيّ على أنماط التّنظيم والإدارة والإنتاج، أي إنّها عمليّة تنتمي إلى مجال الفعل الإنسانيّ في التّاريخ.

أمّا عند هايدغر، فـالعالم التّقني ليس مجرّد مرحلة حضاريّة إن شئت، بل هو نمط شامل من الكشف عن الوجود (أو من تجلّي الوجود لنا): يجعل كلّ ما هو موجود قابلاً “للتّشييء” والاستخدام، ويحوّل الإنسان ذاته إلى مَورد ضمن شبكة السّيطرة والفعاليّة. فالتّقنيّة، من زاوية الدّراسة الأنطولوجيّة عند هايدغر، هي في قلبها تعبيرٌ عن نسيان الوجود العميق (ونسيان النّسيان كما رأينا).. إذ تغدو الكائنات أو الموجودات كلّها مجرّد “مخزون” ينتظر الاستهلاك، بينما يُحجب السّؤال عن معنى الوجود في ذاته. وهكذا يتقاطع المنظوران في تشخيص الخطر، ولكنّهما يفترقان في العمق التحليليّ: فبينما يرى فيبر في “العَقلنة” مساراً اجتماعيّاً يمكن نقده أو اصلاحه (اجتماعيّاً أيضاً بشكل أساسيّ، وربّما كذلك سياسيّاً وحتّى اقتصاديّاً)، يرى هايدغر في العالم التّقني حالةً وجوديّةً تستدعي يقظة تَفَكُّر جديدة..

أو يقظة من النّوع الرّوحيّ، بل الصّوفيّ، إذا ما أخذنا الموضوع من النّاحية العرفانيّة المذكورة آنفاً. ولقد عملنا في ما سبق على هذه المواضيع من النّاحية الصّوفيّة-العرفانيّة، الاسلاميّة وغير الاسلاميّة، ولا مجال للعودة إلى تفاصيل ذلك في هذا المقام[2].

ولكنّ هذه النّقاط جميعاً تُحيلنا بالضّرورة إلى طريقة تفكير فلاسفة وجوديّين آخرين، على غرار طريقة تفكير جان بول سارتر (ت. ١٩٨٠ م)، والتي تشدّد بالطّبع على خطورة أيّ نمط فكريّ يوهم الانسان- أو قد يوهمه-بأنّه “ماهيّة” أو “مفهوم”.. وبأيّ شكل من الأشكال. ولقد حاولنا استنباط أو تأويل ما يُمكن أن يكون عليه “النّقد السّارتريّ” للموجات التّقنيّة المعاصرة، في سلسلة حول الذّكاء الاصطناعيّ على موقع 180Post وفي بعض كتبنا. لا شكّ في أنّ العقل التّقنيّ هذا عموماً، لا سيّما ضمن سياق موجة الذكاء الصّناعيّ الحاليّة خصوصاً، يحمل في بنيته وفي طُرُقه ميلاً إلى فهم الانسان على أنّه- بشكل أو بآخر- ماهيّة؛ ضمن ماهيّات لا متناهية العدد أو تكاد تكون كذلك.

غير أنّ الزّاوية الوجوديّة الأكثر محوريّة في نظرنا، بعد ما سبق حول هايدغر، هي بلا شكّ زاوية شيخ الفلاسفة الوجوديّين المسيحيّين المعاصرين، أي الفيلسوف والمسرحيّ الفرنسيّ، غابرييل مارسيل (ت. ١٩٧٣ م). وقد تحدّثنا أيضاً عن هذه الزّاوية وأهمّيّتها في المواضع المذكورة عينها. ولكن، لنتوقّف سريعاً عند بعض النّقاط الأساسيّة التي تهمّنا هنا.

إذ يُحذّر غابرييل مارسيل من أنّ العقل الحديث يميل عموماً إلى التّعامل مع كلّ شيء بوصفه “مُشكلة” ينبغي حلّها، في حين أنّ أعمق شروط وجودنا- علاقاتنا، وايماننا، ومحبّتنا- هي “ألغاز” أو “أسرار” ينبغي أن تُعاش وتُذاق ويُنخرط فيها.

فالمشكلة، عند مارسيل، هي ما يمكن أن يُدرَك من الخارج ويُعالج بوسائل تفكّريّة وموضوعيّة ومفاهيميّة، أمّا السرّ أو اللّغز فهو ما يكون الانسان منخرطاً فيه من الدّاخل، بحيث يستحيل اختزاله من خلال معطيات موضوعيّة. ويُشكّل هذا التّمييز الأساس الذي يقوم عليه مجمل نسقه الفلسفيّ الوجوديّ، في معارضته لروح “العقلانيّة التّقنيّة” السّائدة في العصر الحديث. وقد ألهم فكره تطوّرات لاحقة في الفلسفة الحواريّة والوجوديّة المسيحيّة والأخلاق الفرديّة (أو الشّخصانيّة). وفي أعمال فلاسفة مثل إيمانويل ليفيناس وبول ريكور وجان لويس كريتيان، يعود المعنى المارسيليّ للّغز بوصفه تأكيداً على التّجاوز والمشاركة وعمق العلاقة الإنسانيّة الذي لا يُختزل.

ومن ثمّ، يمثّل إرث مارسيل[3]– في واقع الأمور- تيّاراً مضادّاً دائماً للنّزعة التي تختزل الوجود إلى مقولات وظيفيّة أو أداتيّة، مذكّراً الفلسفة بأنّ الكينونة الأصيلة- أو “الوجود الحقّ” بحسب تعبير بعض الصّوفيّة الاسلاميّة- لا تُدرَك إلا عبر الوفاء والمحبّة (التي تميل إلى الحبّ المسيحيّ والصّوفيّ غير المشروط بشرط طبعاً) والشّراكة.

ومن هنا، نعود إلى ما نطرحه من خطوات اصلاحيّة عامّة-ملموسة أو شبه ملموسة- على الدّكتور عبد الحليم فضل الله وأمثاله من المفكّرين: إن كان على مستوى محاولة القيام بنهضة روحيّة-صوفيّة داخل الأديان تُعيد هذه الأخيرة إلى التّركيز على باطنها من دون نسيان ظاهرها بالضّرورة (إن صحّت التّعابير)؛ أو على مستوى تنظيم جهود فرديّة وجماعيّة ومؤسّساتيّة وبحثيّة وتربويّة- وعلى مستوى عالميّ من التّنسيق- تهدف إلى محاولة “نقد العقل التّقنيّ المعاصر” المهيمِن، نقده وتحدّيه من مختلف الجوانب وبشكل مستمرّ.. لا سيّما من خلال اعادة دلّ الوعي الانسانيّ، بشكل عامّ، على المكانة الأساسيّة والمصيريّة لسؤال المعنى، ولكن أيضاً لسؤال الوجود نفسه.

[1] حول هايدغر تحديداً، يمكن مراجعة:

Heidegger, Martin. Being and Time (German: Sein und Zeit). Translated by John Macquarrie & Edward Robinson. New York: Harper & Row (1962).

بعض أهمّ الأسماء والمراجع المعنيّة إذن:

Gadamer, Hans-Georg. Truth and Method. New York: Continuum, 1989.

Derrida, Jacques. “Ousia and Grammé: Note on a Note from Being and Time.” In Margins of Philosophy, translated by Alan Bass. Chicago: University of Chicago Press, 1982.

Marcuse, Herbert. One-Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advanced Industrial Society. Boston: Beacon Press, 1964.

Levinas, Emmanuel. Totality and Infinity: An Essay on Exteriority. Pittsburgh: Duquesne University Press, 1969.

Nancy, Jean-Luc. Being Singular Plural. Stanford, CA: Stanford University Press, 2000.

Badiou, Alain. Being and Event. London: Bloomsbury / Continuum, 2006.

[2] حول المقاربة الهايديغريّة للاشكاليّة التكنولوجيّة أو لعالم التّقنيّة ان شئت، راجع (بما يشمل عمل ماركوز المحوريّ جدّاً في هذا الإطار):

Heidegger, Martin. The Question Concerning Technology and Other Essays. Translated by William Lovitt. New York: Harper & Row, 1977.

Ellul, Jacques. The Technological Society. Translated by John Wilkinson. New York: Alfred A. Knopf, 1964.

Habermas, Jürgen. The Philosophical Discourse of Modernity: Twelve Lectures. Translated by Frederick Lawrence. Cambridge, MA: MIT Press, 1987.

 Marcuse, Herbert. One-Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advanced Industrial Society. Boston: Beacon Press, 1964.

[3] حول مارسيل تحديداً، يمكن مراجعة:

Marcel, Gabriel. Being and Having: An Existentialist Diary (1949).

Marcel, Gabriel. The Mystery of Being (French: Le Mystère de l’être). Vol. 1 “Réflexion et mystère” (1951) and Vol. 2 “Foi et réalité” (1951). English translation: Reflection and Mystery (1950), Faith and Reality (1951).

Marcel, Gabriel. The Philosophy of Existentialism (1956; English trans. 1966) – includes his essay “On the Ontological Mystery”.

أمّا حول من تأثّر به أو حاول اكمال أعماله الفكريّة والفلسفيّة، فيمكن مراجعة:

Levinas, Emmanuel. Totality and Infinity: An Essay on Exteriority. Pittsburgh: Duquesne University Press, 1969.

Chrétien, Jean-Louis. Hand to Hand: Listening to the Work of Art. New York: Fordham University Press, 2003.

Charlesworth, Max. Religious Inventions: Four Essays. Melbourne: Melbourne University Press, 1997.

(*) راجع الجزء الأول بعنوان: حوار مع عبد الحليم فضل الله.. الإبحار مجدّداً في الأسئلة الكبرى (2/1)

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  بايدن.. لا يرى فلسطين إلا من أوكرانيا