المساعدات العربية.. هكذا تنظر السعودية إلى لبنان

المملكة العربية السعودية تقاطع لبنان. هي فرضية أشبه بقناعةٍ ترسّخت لسنواتٍ عند شريحةٍ كبيرة من اللبنانيين، لا سيّما في محطاتٍ سياسيةٍ مفصليةٍ في لبنان، تزامنت مع استدعاء المملكة لسفيرها الحالي الدكتور وليد البخاري "للتشاور" في العام ٢٠٢١، وطلبها مغادرة السفير اللبناني في الرياض، وهو ما كان يُفسَّر في الشارع اللبناني على أنه انعكاسٌ للمقاطعة الدبلوماسية مع لبنان بعد مقاطعته سياسياً ثم اقتصادياً بفعل تعليق استيراد السلع اللبنانية. لكن للمملكة روايتها حول المراحل التي شهدت فيها العلاقة بين البلدين فتراتٍ من الفتور وفقدان الثقة وربما الخصومة.

في سياق سلسلة مقالات بعنوان “المساعدات العربية”، أقدّم في هذا المقال مراجعةً عامة للعلاقات اللبنانية ـ السعودية من بوابة الدعم الاقتصادي للبنان، بعدما تطرقنا في المقال الأول للعلاقات القطرية اللبنانية.

***

لم تُقاطع المملكة لبنان يوماً، حتى في ذروة الالتباس في العلاقة بين قيادة المملكة والحكومات اللبنانية المتعاقبة، لكن المعضلة بالدرجة الأولى كانت في الأداء الحكومي نفسه على مرّ السنوات، لا سيّما في ما يتعلّق بالإهمال والفساد والمحسوبيات وغيرها من الأمور. فعلى سبيل المثال، لا يعرف كثيرون من اللبنانيين أنه بعد الانهيار المالي الذي بدأ في نهاية العام ٢٠١٩، بسبب فساد وفشل الطبقة السياسية بكل أحزابها، حاولت المملكة أن تساعد لبنان برغم الفتور السياسي بين البلدين في تلك المرحلة. وفي إشارة واضحة إلى نهجها الجديد في السياسة الخارجية والقائم على العمل المؤسساتي، أرسلت المملكة، حينذاك، وفداً كبيراً يضمّ شخصياتٍ وزاريةً ورسميةً للقاء المسؤولين اللبنانيين، هو الأرفع في تاريخ العلاقات بين البلدين، من حيث الشكل والعدد والاختصاصات، حيث تمّ تقديم خارطة طريقٍ لكيفية معالجة الانهيار في القطاعات الأساسية المختلفة. غير أن المفاجأة الكبرى تمثلت في إهمال المسؤولين المعنيين لهذه المقترحات، ومحاولة كل طرفٍ لبناني أن يحصل على مساعداتٍ من المملكة تخدم مصلحته السياسية الفئوية.

من هنا، فإن المشكلة بالنسبة للمملكة هي في العقلية الرسمية اللبنانية نفسها، وفي الإدارة السياسية التي تعاني من الفساد والمحسوبيات واعتادت المساعدات المباشرة دون أي مساءلة. غير أن هذا النهج ولّى في القاموس السعودي.

ماذا عن “رؤية ٢٠٣٠”؟

لا بدّ هنا من فتح نافذةٍ على التغيير الكبير الذي بدأه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والذي رسم إطار العمل في النهج والأهداف والمنهجية من خلال “رؤية ٢٠٣٠”. فهذه الرؤية عند السعوديين لا تعني الداخل السعودي فقط، وإن كان الأساس فيها التنمية والإصلاح وتطوير العمل المؤسساتيّ وغيرها من الأهداف، بل تشكّل أيضاً الإطار العام للسياسة الخارجية السعودية، وبخاصةً في مجالات المساعدات للدول العربية جميعها.

وبحسب “رؤية ٢٠٣٠”، تنتقل المملكة من اعتماد ثقافة “المساعدة” إلى مفهوم “الاستثمار المؤسساتيّ في الدولة”، بمعنى أنه بدل تقديم منحٍ وهباتٍ مالية (لم تقطعها نهائياً لكنها تؤطّرها مؤسساتياً)، تقوم سياستها الجديدة على الاستثمار في الدول المستفيدة بمشاريع تنمويةٍ طويلة الأمد في قطاعات مثل التعليم، الطاقة، البنية التحتية وغيرها، وذلك لهدفين: تأمين استدامة المشاريع وحمايتها من الفساد.

بناءً على ما تقدّم، فإن ما يعتبره اللبنانيون مقاطعةً سعودية إنما هو في الحقيقة فشلٌ لبنانيٌّ رسميٌّ في العمل المؤسساتيّ بعيداً عن المحسوبيات الطائفية والفئوية، وفشلٌ في إدراك التغيّرات في التوجّه العام الذي رسمته المملكة لسياستها الخارجية، وهو ما باتت تطبّقه بالمناسبة معظم الدول الخليجية في البلدان العربية، ومنها طبعاً لبنان.

وكما بات معلوماً، تتجه معظم الدول العربية إلى تقديم المساعدات للبنان من خلال مشاريع استثمارية وشراكات مع المؤسسات المعنية تكون طويلة الأمد، وذلك تفادياً لتحويل هذه المساعدات إلى أداةٍ للاستغلال السياسي والطائفي وللزبائنية اللبنانية المعتادة في الإدارات العامة.

وعلى الرغم من ذلك، حضرت المملكة لدعم لبنان في أزماته الإنسانية. فمن يراجع الأرشيف الصحفي يمكنه رصد المساعدات التي قدّمتها المملكة للبنان في التعليم (بين الأعوام ٢٠٠٥ و٢٠١٩)، والاقتصادية (وديعة في العام ٢٠٠٦)، وفي إعادة الإعمار بعد عدوان تموز(يوليو) ٢٠٠٦، وتقديم منح مدرسية ومساعدات إغاثية وطبية وغذائية عبر مركز الملك سلمان بعد الانهيار المالي عام ٢٠١٩ وبعد تفجير مرفأ بيروت في صيف العام ٢٠٢٠.

ماذا تغيّر مع حكومة نواف سلام؟

وفي الحديث عن العلاقة مع السعودية، لا يُمكن بالطبع إغفال العامل السياسي، وتحديداً ما يرتبط بأمن المملكة مباشرةً، لا سيّما آفة مادة الكبتاغون التي كانت تُصدَّر من لبنان إلى السعودية، ومسألة الأمن الداخلي اللبناني وتأثيره على أمن المواطنين السعوديين في لبنان من جهة، وضرورة تأمين الأرضية الأمنية اللازمة للاستثمارات السعودية من خلال وقف الحرب والنزاعات وفرض سلطة الدولة وحدها على كامل الأراضي اللبنانية من خلال حصر السلاح من جهة ثانية. هي عناوين تضعها المملكة مقدمة لأي خطوةٍ لها في لبنان، وهي لا تضعها في إطار الشروط أو من باب الخصومة السياسية، فلكل دولةٍ مصالحها واعتباراتها في أمنها القومي، عدا أن ما تطالب به المملكة يشكّل مطلباً عربياً ودولياً ولبنانياً أيضاً.

واللافات للانتباه أنه بعد انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتكليف نواف سلام برئاسة الحكومة في مطلع هذه السنة، أعادت المملكة الانفتاح على لبنان من خلال خطواتٍ عدة، منها اللقاء بين وليّ العهد والرئيس اللبناني، واللقاء الذي جمع وليّ العهد برئيس الحكومة، ومشهد صلاة العيد حيث شارك سلام الصلاة إلى جانب بن سلمان، بالإضافة إلى عودة الحركة الدبلوماسية النشيطة لسفير المملكة وليد البخاري.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": لماذا صارت دول الخليج مُتحمسة للاتفاق النووي؟

وفي الآونة الأخيرة، تُعبّر المملكة ـ وإن بحذر ـ عن التقدّم الملحوظ الذي وجدته في حكومة نواف سلام. فأوساطها تقول إنه للمرة الأولى منذ سنواتٍ طويلة، تتحوّل رئاسة الحكومة إلى خلية نحل، ليس لوضع المشاريع الإصلاحية فحسب، بل للعمل على تطبيقها أيضاً، سواء في البنية التحتية أو أمن مطار بيروت أو تلك التي تتعلّق بقرارات الحكومة السياسية والأمنية الجريئة للمرة الأولى، بالإضافة إلى متابعة المشاريع التي كانت قد طرحتها المملكة بإصرارٍ إيجابيّ على إنجازها.

اتفاقية رئاسية سعودية ـ لبنانية؟
وبالفعل، تستعدّ المملكة ـ كما نُشر في الإعلام ـ إلى إعادة مشهدية الاحتضان والاحتواء من خلال زيارةٍ متوقعةٍ لوفدٍ رفيعٍ برئاسة وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان للإعلان عن توقيع أكثر من ٢٤ اتفاقية تشمل القطاعات الإنتاجية والتنموية والاقتصادية كافة بين الحكومتين اللبنانية والسعودية.

والجدير ذكره أن العلاقات اللبنانية ـ السعودية تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حين عيّن الملك عبد العزيز آل سعود عدداً من اللبنانيين من طوائف ومذاهب مختلفة كمستشارين وسفراء ووزراء داخل المملكة، مثل فؤاد حمزة، حسين العويني، أمين الريحاني، نجيب صالحة، مراد بارود، بدر نوري الحريري، أحمد مختار الصلح، أسعد سهيل الأسعد، وجميل مكاوي (*).

ومنذ خمسينيات القرن الماضي، حضرت السعودية في لبنان من بوابة الدعم الاقتصادي والمساعدات للمؤسسات والجمعيات التنموية والتعليمية، وفي قطاعات التجارة والصناعة والمصارف وإعادة الإعمار. وإذا جمعنا ما صُرف من مالٍ سعودي في لبنان، يمكن القول إن لبنان يجب أن يكون أكثر الدول تقدّماً بفعل طاقاته أولاً والدعم السعودي بشكلٍ خاص والعربي بشكلٍ عام ثانياً، إلا أنه وبفعل الفساد والزبائنية والمحسوبيات، لم تُصرف هذه الأموال في المشاريع التنموية بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى استمرار الأزمات السياسية الداخلية وتكاليف وأعباء إعادة الإعمار بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان منذ العام ١٩٤٨ حتى يومنا هذا.

وينطلق السعوديون من “رؤية ٢٠٣٠” التي تؤكّد على مكانة المملكة بوصفها “قلب العالمين العربي والإسلامي” وركيزة الاستقرار الإقليمي. وهي، وإن تنظر بتفاؤلٍ حذر إلى لبنان بعد أن لمست تغيّراً في الأداء الحكومي وإرادةً فعليةً لإصلاح المؤسسات وتطبيق المشاريع، فإن لسان حال مسؤوليها يُردّد الآتي: على لبنان أن يُقرّر في أي موقعٍ يريد أن يكون، وأن يُقرّر إذا ما كان يريد الاستفادة من الدعم السعودي والعربي الذي ما يزال قائماً حتى الآن.

وتشير مصادر معنية إلى أن لبنان، في حال قيامه بالإصلاحات المطلوبة، لا يُستبعد أن يشهد مشهدية لقاءٍ ثنائيّ بين وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس الجمهورية جوزاف عون للتوقيع على عددٍ من الاتفاقيات التي هي قيد المتابعة مع الحكومة الحالية، والمنتظر إقرارها في حال التزم لبنان بتعهداته.
فهل يستغلّ لبنان هذه الفرصة التي قد لا تتكرّر؟

(*) راجع كتاب حياة الحريري: The Sunni Leadership in Lebanon: The Emergence of Rafic Hariri, 1979-1990.

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عبدالناصر في مواجهة "الإمبراطورية"!