تشاورت مع طبيبة متخصصة حول احتمال أن يخف الذكاء أو يتراخى منهكاً بعد عديد سنوات تشغيله. أنكرت هذا الاحتمال ورفضته طبياً وعلمياً. زميل، باعه في علم السياسة وممارستها طويل، طلبت رأيه في أن صُنّاع السياسة صاروا يخترعون أهدافاً أصعب وأكثرهم صار يأتي من خارج السياسة، بمعنى أنه لم ينشأ في قصور الحكم وبيوت الأحزاب. اعترض زميلي قائلاً إن هذا الرأي صحيح ولكنه لا يُبرّر وحده حال الفوضى السياسية الناشبة في كل مكان. عدنا نسأل لنفهم، نسأل عن تفاصيل تتعلق بأمور أو قضايا ثلاث على الأقل.
أولاً؛ أمر سوريا. أبدأ من “الزيارة التاريخية” التي يقوم بها في هذه اللحظة السيد أحمد الشرع للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض. الطرفان صاحبا العلاقة هما اللذان اختارا لها الصفة التاريخية، هي الأولى منذ حوالي ثمانين عامًا. ولكنها بالنسبة إليهما، وربما للعالم بأسره، صفة مستحقة لأسباب لا علاقة لها بالزمن الطويل بقدر ما هي مستحقة لأسباب غير مفهومة لنا، وربما للعالم كله. نما إلى علمنا، علناً ومن مصادر أمريكية أو تابعة لأمريكا أن الرئيس السوري الجديد كان حتى الليلة السابقة على وصوله للبر الأمريكي يعيش تحت التهديد بالاعتقال لممارسته الإرهاب وقيادته لجماعة إرهابية.
نسأل ومن حقنا أن نسأل لنطبق الإجابة على أسئلة مشابهة عن رجال آخرين وجماعات أخرى كلهم وكلها موصوفة بالإرهاب أو مدانة بارتكاب جرائم إرهابية. نسأل ولا أحد يجيب عن حقائق وخلفيات هذا الأمر السياسي الخطير. الرجل يحكم والدول تصطف في انتظار دورها لتعفو عنه وتمحو من سجلاتها الأمنية صفة الإرهاب، وهي الصفة التي لا دخل لمعظم هذه الدول في إطلاقها ولا في إلغائها. نشاهد صوراً تعلن عن علاقة وثيقة وودودة وربما حميمة بين الرجل السوري ورجال في مناصب عليا في دول أخرى في الإقليم. لا نعرف شيئاً عن مضمون هذه العلاقات ولا عن دوافعها ومُحرّكها ولا عن تاريخ نشأتها. خرج علينا من حيث لا ندري شخص بريطاني أعلن الزعم بأنه كُلف بتأهيل هذا الرجل لمنصب الزعيم والرئيس لسوريا ولدور أو أدوار في الإقليم.
لماذا نسأل؟ وهل سألنا عندما فوجئنا بحافظ الأسد رئيساً لسوريا، لم نعرفه قبلاً وبالتأكيد لم يكن معروفاً لساسة الإقليم أو للعالم الخارجي أو حتى لشعب سوريا. ومع ذلك عاش وعائلته يحكمون سوريا لأكثر من سبعين عامًا. من قرر ومتى أن يكون الرئيس الشرع متطرفاً وممارساً للإرهاب؟ وما مصلحة من تعمد أن يكشف عن دول بعينها ألحت على واشنطن لتدعوه لزيارتها، وكأن أمريكا غير راضية عنه؟ هل كانت أمريكا من الدول التي ساهمت في تمويل إقامته بالخارج، ولعلها تساهم الآن في الدعوة لتمويل تكلفة إنقاذ سوريا من ورطاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ تابعنا لقطات تلفزيونية. استأنا فسألنا أتيتم به لتنتقموا منه فأهنتموه في بيتكم وفي المكتب البيضاوي؟ لماذا لم تعاملوه معاملة الرئيس المضيف للرئيس الضيف؟
يحكون في الدروس عن التحالفات وأهدافها أن تحالفاً نظمته أثينا في العام 478 قبل الميلاد من مدن عديدة لمحاربة الفرس وبالفعل انهزم الفرس. حدث بعد ذلك أن راحت أثينا تطالب المدن المتحالفة بتمويل العجز في ميزانية الحرب وهو العجز الذي كاد يتسبب في إعلان إفلاس أثينا. ترددت المدن الواحدة بعد الأخرى حتى انفض التحالف واستعاد الفرس قوتهم. هل تكمن وراء اتفاقات الإبراهيمي نفس الفكرة سواء لدى جاريد كوشنر وقادة الصهيونية العالمية أم أن وراءها أفكاراً ونوايا أخرى؟
نسأل، وسوف نظل نسأل، لأن سوريا أمر مختلف بالنسبة لمخططي الاستراتيجيات الإقليمية وللمهتمين بمستقبل المنطقة. عندها بدأ قبل قرن الحديث عن إقليم عربي وعند حدودها يبدأ الآن ولا ينتهي الحديث عن شرق أوسط جديد وفي محافظة أو أكثر ينتقل الحديث عن “إسرائيل الكبرى” إلى ساحات التنفيذ.
***
ثانياً؛ أمر غزة. قرأنا بيان، أو اتفاقية، العشرين بنداً. وقرأنا عنه أو عنها. وتناقشنا حوله أو حولها. خرجنا بانطباعات شتى وأسئلة تغطي العشرين بنداً وما وراءها ومن كتبها ومن صاغها ومن يأتمنها على ما يأمل أو يريد، وفي النهاية قررنا أننا لم نفهم تماماً المقصود منها. بنيامين نتنياهو كان هناك وفهمنا أنه حضر مرحلة أو أكثر من مراحل صياغتها. نسأل هل حضر متفرجاً أم كان مشاركاً ونسأل إن كانت تخصنا فلماذا لم نستشر في التحضير لها، ونشارك كما شارك الإسرائيلي؟
نسأل عن حقيقة ما يعد لغزة منذ أن ابتدع سليل المقاولين من اليهود الصهاينة المتنفذين جاريد كوشنر، زوج ابنة ترامب، فكرة غزة امتداداً أو استنساخاً لشاطئ الريفييرا الفرنسية، ريفييرا بدون شعب. حاولوا تهجيره طوعاً وفشلوا، وقسراً بالقتل والتجويع وتجنيد الميليشيات الإرهابية وفشلوا. لم يعلنوا بعد عن مصير من يبقى حياً في غزة. بيان العشرين بنداً لا يشرح ولا يفيد حتى صار في نظر الناس وأصحاب القرار مصدر عذاب جديد وهم ثقيل.
نسأل عن الكيفية التي سوف ينسق بها مجلس السلام وأجهزته التابعة مثل قوة الاستقرار مع إسرائيل، وهي صاحبة الحق المنتزع قسراً أو طوعاً من اختصاصات هذا المجلس لتستمر في إطلاق النار وهدم ما يُشيّد من جديد على أرض غزة المنكوبة وقتل من لا يرحل من سكانها ومواصلة تعقيد إجراءات دخول وتوزيع المعونات الغذائية.
***
ثالثاً؛ نسأل عن أصل وأهداف الاتفاقات الإبراهيمية. نسأل عما تعنيه هذه الاتفاقات اختلافاً مع ما تعنيه العلاقات السياسية التي تقيمها بلاد العالم طوعاً فيما بينها. قرأنا عن اتفاق إبراهيمي أعلن مؤخراً عن تبنيه من جانب دولة آسيوية وإسرائيل. بعد قليل تبين لنا أن العلاقات السياسية بين الدولتين قائمة من زمن غير قصير. نسأل ماذا استجد على العلاقات القائمة يستوجب عقد اتفاقية إبراهيمية؟ بحثنا وراء نموذج لاتفاقية إبراهيمية لم نجد على الفور. قادنا البحث إلى اتفاقيات تعقدها الدول فيما بينها ولأسباب طارئة منذ عصور ما قبل الميلاد.
تذكرت اتفاقية سايكس بيكو التي بدأت بفكرة إمبريالية بريطانية تهدف إلى حض “القوميين العرب” على الثورة ضد العثمانيين مقابل وعد بتسهيل عملية إقامة دولة عربية تتوحد فيها الشعوب العربية. نفذ العربي نصيبه ولم ينفذ البريطاني وعده.
تذكرت أيضاً واقعة قرأت عنها منذ وقت طويل. يحكون في الدروس عن التحالفات وأهدافها أن تحالفاً نظمته أثينا في العام 478 قبل الميلاد من مدن عديدة لمحاربة الفرس وبالفعل انهزم الفرس. حدث بعد ذلك أن راحت أثينا تطالب المدن المتحالفة بتمويل العجز في ميزانية الحرب وهو العجز الذي كاد يتسبب في إعلان إفلاس أثينا. ترددت المدن الواحدة بعد الأخرى حتى انفض التحالف واستعاد الفرس قوتهم. هل تكمن وراء اتفاقات الإبراهيمي نفس الفكرة سواء لدى جاريد كوشنر وقادة الصهيونية العالمية أم أن وراءها أفكاراً ونوايا أخرى؟
***
تبلغت قبل لحظات وفي هذه الآونة المتأخرة من الكتابة أن أمريكا قررت إقامة قاعدة عسكرية تضم آلاف الجنود في موقع بإسرائيل قريب من حدود غزة. فهمت في البداية أن الغرض هو حماية اتفاق إطلاق النار من أجل تثبيته سلاماً يُحسب للرئيس ترامب عند جماعة جائزة نوبل للسلام. واقع الحال من التسريبات والتحليلات خلال الدقائق الماضية يدفعنا لأن نتساءل، وإن كانت اللحظة لا تزال مبكرة، إن كان الهدف الحقيقي من إقامة القاعدة هو حماية مراحل تنفيذ مشروع جاريد الاستثماري تحت عنوان منتجع شاطئ غزة ضد أي أعمال تخريبية متعمدة من الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. على كل حال وكما فهمنا لن تكون القاعدة لحماية إسرائيل ضد خطر خارجي، أراه تفسيراً بعيداً عن الواقع؛ بعيدٌ لاقتناعي بأن إسرائيل لن تقبل بوجود ما يحد من حريتها في ممارسة غزواتها وحروبها الإقليمية المقبلة.
***
أختم أسئلتي بسؤال متعدد الأبعاد والنوايا لم يصدر عني أمام أحد. أسأل، وأنا بالفعل في حيرة مختلطة بألم وحسرة، هل لو كان اجتماعنا، الصديق الدكتور علي الدين هلال وأنا، المقرر انعقاده في سنة 1978 تأجل سبعة وأربعين عاماً لينعقد في هذه الأيام وفي الظروف التي نمر بها الآن، هل كنا اخترنا “النظام الإقليمي العربي” موضوعاً وعنواناً لكتابنا المشترك؟
