لا يأتي المسعى التركي لإعادة أحياء التنظيمات الجهادية في سوريا من باب تمهيد ميداني لطرف رديف موالٍ لتركيا في سوريا على غرار ما حدث في بداية الأزمة السورية، ولكن بهدف إحلال سريع على مستوى عسكري وديموغرافي مكان أكراد شمال شرق سوريا، والعناصر المسلحة الكردية، عبر السعي لنزع الدور الوظيفي للأكراد في تحجيم نفوذ تنظيم “داعش” ومن لف لفه، والذين نالوا بفضله تأييداً واعترافاً دولياً قبل خمسة أعوام إبان معارك كوباني.
وفي هذا السياق، أقدمت عناصر من “الجيش الوطني”، وهو الإطار الذي أعادت به أنقرة تشكيل ما تبقى من فصائل المعارضة السورية المسلحة، بما فيها التنظيمات الجهادية في الشمال السوري، على إطلاق سراح أكثر من 800 عنصر “داعشي” والمئات من ذويهم، ممن كانوا محتجزين في أحد السجون ومخيمات الإيواء في بلدة عين عيسى في منطقة تل أبيض شمال شرق سوريا، وذلك بعد قصف نفذته الطائرات الحربية التركية استهدف القوات الكردية القائمة على حراسة هذه الأماكن.
وتواردت أنباء من شمال شرق سوريا عن قيام عناصر “الجيش الوطني” بتكرار هذا النمط قبيل دخول القوات التركية مختلف المناطق المحاذية للطريق الواصل بين مدينتي منبج والقامشلي، كنوع من التمهيد الميداني، الذي لم يخلُ من تجاوزات تصل إلى حد جرائم الحرب، ومنها تنفيذ إعدامات ميدانية بحق مدنيين أكراد.
في موازاة ذلك، بادر تنظيم “داعش” إلى الإعلانعن إعادة انتشاره في المناطق الكردية، عبر أكثر من عملية، أبرزها تفجير سيارة مفخخة في مدينة القامشلي، وهي العملية التي اعتبرها التنظيم الإرهابي “فاتحة” لعمليات، الهدف منها خلق موطئ قدم من جديد، استغلالاً لحالة السيولة والفوضى الناتجة عن العملية العسكرية التركية التي تدخل أسبوعها الأول برديف محلي يضم فصائل جهادية تحت مظلة “الجيش الوطني”.
وحتى الآن، فإنّ أكثر من 12 ألف عنصر من عناصر “داعش” والتنظيمات الجهادية وأسرهم مقيمين ومحتجزين المحتجزين في أكثر من 50 سجن ومخيم تابعين للإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، أصبحوا قيد رهانات محلية وإقليمية تبدأ من الصراع المباشر بين تركيا والأكراد، ولا تنتهي بأطراف الازمة السورية، وما قد يستجد عليها من تطورات تجعل إمكانية تدوير الجماعات الجهادية من قبل أطراف إقليمية واردة مثلما كانت الحال في بداية الازمة السورية لغاية العام الماضي.
وفي حين تعهدت أنقرة لواشنطن ومختلف القوى الدولية بأنّها ستكون مسؤولة عن عناصر “داعش” المحتجزين، وضمان عدم إعادة نشاط التنظيم في المناطق التي ستحتلها، ذهب القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي إلى اعتبار حراسة أسرى داعش “أولوية ثانية”.
وتأتي هذه التصريحات المتبادلة بين الطرفين في محاولة لاستغلال القلق الإقليمي والدولي من عودة “داعش” لتغيير موقفها من العملية العسكرية التركية سواء بكبح جماحها، أو إعطائها مزيد من الضوء الأخضر، وإقرار المخطط التركي الخاص بمستقبل “المنطقة العازلة” وتحديداً في ما يخص تلميح أردوغان إلى نيته إبقاء عناصر “داعش” ذوي الجنسيات الأوربية في شمال سوريا حال رفض دولهم الأصلية استقبالهم.
وبينما تفصل جميع الأطراف المعنية بالتطورات الأخيرة في سوريا – باستثناء دمشق وحلفائها- بين “داعش” وباقي التنظيمات الجهادية، بما في ذلك التنظيمات المكوّنة لما يسمى “الجيش الوطني”، فإن هناك احتمالية لتصعيد، يعيد نشر وتوسيع مسرح عمليات هذه التنظيمات بعدما تم حصارها في نطاق إدلب بشكل رئيسي، وخروجها من جيوبها المحاصرة تحت مظلة العملية العسكرية التركية، وهو ما جعل موسكو تسرع في الوساطة بين الأكراد ودمشق، والتي أثمرت تحركاً سريعاً للقوات السورية باتجاه مناطق “روج آفا”، ليس لتحجيم التدخل التركي فحسب، ولكن لقطع الطريق على محاولات إحياء نشاط التنظيمات الجهادية سواء “داعش”، أو التحالف الذي يضم “جبهة تحرير سوريا” مع تلك المنضوية تحت لواء “الجيش الوطني”، وإمكانية عملها بصيغة ما تحت مظلة عسكرية وسياسية تركية تعود بالمشهد إلى سنوات مضت بعد تحرير معظم مدن ومناطق الشمال السوري من سيطرة هذه التنظيمات.
وفي ما يتعلق بالمناورة التركية بمستقبل عناصر “داعش”، تؤكد تصريحات صادرة من عواصم أوربية كباريس وبرلين أن إعادة إحياء “الدواعش” هو بمثابة خط أحمر للعملية التركية التي تتجاوز بهذا الأمر ما أعلنته أنقرة من أن هدفها هو إبعاد العناصر الكردية المسلحة عن الحدود بعمق يتراوح بين 30 إلى 40 كيلومتراً.
من هذا المنطلق، جاء بيان الرئاسة الفرنسية الأخير، والذي جاء فيه أن “فرنسا ستعمل مع شركائها في التحالف الدولي ضد داعش على ضرورة بحث مساعٍ دبلوماسية وسياسية الهدف منها إيقاف العملية العسكرية التركية”، فيما طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنقرة بوقف عمليتها العسكرية في سوريا “خشية انفلات الأوضاع وإعادة احياء تنظيم الدولة الإسلامية من جديد”، وذلك بعد يومين من إعلان برلين وأوسلو واستوكهولم وقف تصدير الأسلحة وبعض المعدات العسكرية إلى تركيا، وهو الموقف الذي تبنته دول الاتحاد الأوروبي على لسان مسؤولة الشؤون الخارجية والأمنية فيدريكا موغريني.
ويعكس الموقف الأوربي عدم ثقة تجاه وعود الرئيس التركي وتطميناته، وخاصة المتعلقة بمسؤولية بلاده عن مصير العناصر الجهادية في منطقة العمليات، وهي الوعود التي تترافق مع تصريحات عن إعادة توطين أكثر من مليوني لاجئ سوري في شمال سوريا بإشراف تركي بدلاً من انتقالهم إلى أوروبا.
ومن ناحية أخرى تتفق كل من موسكو وواشنطن، برغم تباين مصالحهما في سوريا، على أن عودة الفوضى الجهادية في شمال سوريا يعني لكل منهما إخفاقاً في غير توقيته، سواء لدواعي داخلية متعلقة بقرب الانتخابات الأميركية وقرارات ترامب الخاصة بسوريا من سحب قوات أميركية وغيرها، أو في ما يتعلق بأفق العمليات العسكرية الروسية في سوريا التي من المفترض حصرها في المدى القريب ضمن مثلث إدلب وريف حلب وليس توسيعها من جديد بطول الحدود الشمالية السورية مع تركيا والتي تتجاوز 400 كيلومتر.
بشكل عام تعتمد تركيا في خطابها السياسي والإعلامي على مساواة الإدارة الذاتية الكردية وقوات “قسد” بتنظيم “داعش”، وذلك كتبرير معتاد في السنوات الأخيرة لكافة عملياتها العسكرية في سوريا، لكن انعكاس هذا الخطاب ميدانياً أدى مسبقاً، ويؤدي حالياً، إلى تعاون يصل عملياً إلى حد التحالف بين التنظيمات المسلحة المتحالفة مع أنقرة وبين التنظيم الإرهابي، ومن هم على شاكلته بامتداد شمال سوريا.
هذا الأمر يعني أن مسألة إحلال “الجيش الوطني” مكان التنظيمات الكردية في المنطقة العازلة التي تسعى تركيا لخلقها بالقوة العسكرية ليس إلا حلاً متأخراً لاستبدال الأسوأ بالسيء، وهو ما يعني أن صلاحية الاستثمار التركي في خطر “داعش” محدودة، سواء بتوفير ظروف إنعاشه من جديد لتحجيمه مستقبلاً ببديل غير الأكراد، أو بالتهديد بفوضى التنظيمات الجهادية المسلحة الأخرى لكسب أوراق قوة في مفاوضات جارية ومستقبلية مع أطراف إقليمية ودولية.