في مدح.. الحروب!

يُكتب هذا المقال على وقع الزيارة التي قام بها قداسة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان على مدى ثلاثة أيام. أقولُ على وقعه اعترافاً بأنّه المُلهِم، وانسحاباً من اعتباره رداً مباشراً أو تعليقاً على خطابٍ بعينه صادرٍ منه وعنه، ذلك أنَّ فضاء الشّيء، أحياناً، يكون أهمّ في التّداول من الشيء بحدّ ذاته، ويكون أدعى إلى الفحص والإثارة.

أتى البابا لاوون الرابع عشر، لمّا أتى، حاملاً الفضاء قبل الكلمة، وواهباً الإطار قبل الحدث. لكنه متى وطئ لبنان، حُدِّد، فنُمِّطَ بمعزوفة السلام قبل تجويدها، وأُوِّل على الطريقة اللبنانية التي تقلب الخطاب مباشرةً إلى لغة الثنائيات والاصطفافات قبل أن يُنطق به، وتُرجِمت إحداثيات تنقلاته المناطقية قبل أن تُصاغ باللغة البابوية.

ولأنّ الفضاء الشاعريّ والرومانسي للسلام مغري، وهو حاجة إنسانية من صنف حاجة الإنسان للفنون هروباً من حتمية واقعٍ لا يُبدّل، أو أقلّه لم يُبدّل بعد، فإنّ الفضاء الواقعيّ للحروب، وهي آخذةٌ بالتوسّع في العالم، هو بديهةٌ وجودية من صنف طبيعة الإنسان ببعديه الفردي والاجتماعي. ولأنه كذلك، كانت السياسة، والإدارة، كوسائل، تستبق النّزاع وتحاول التضييق عليه، في حين غالباً ما يكون الفنّ والشّعر وسائل لاحقة.

والكلام عن السياسة، هو على الطرف المقابل تماماً من ذاك المتأتي عن النوايا والأخلاق، لأنّ النوايا ونوازع الأخلاق والحب لا تصنع عالماً أفضل. وحدها السياسة الجيدة ما تُحسن الصّنع. لذلك، غالباً ما يكون الخطاب الأخلاقيّ فخاً للخلوقين أنفسهم، خصوصاً عندما يحصرون المشهد في زوايا ضيقة، ويعزلون ما تبقى منه. بل قد يُنتج الخطاب الشاعري والأخلاقي والمُحبّ أسوأ النتائج، عندما يُلقى بطريقة جوهرانية، ويُعمل به وفقاً للطريقة ذاتها. المسألة دائماً هي في الـ”كيف”. كيف تنتج بيئةً لا تكون على النقيض من القيم، وكيف تواجه التحديات في هذا الإطار بعيداً عن فخّ الشعارات العريضة أيضاً، وقريباً من حكمة التفاصيل؟

معضلةُ فضاء السلام، خصوصاً في زمن الحروب، أنّه يحصّن أرضيّة النوايا والأخلاق، ولا يرمّم أو يصحّح أو يحمي أرضية السياسية، فتُصبح النوايا حاكمة، هنا وهناك، وتغدو فضائل بذاتها، ليكون ما في قبالتها رذائل بذاتها أيضاً. وفي ذلك خطورة لا يُستهان بها، بدلاً عن أن يكون مساهمةً في تحقيق الصالح العام كما الخاص.

من هذه الزاوية، أمكن للإنسان أن يمدح الحرب، في الوقت نفسه الذي يذمّها. لأن الحرب شكلٌ آخر للسياسة، أكثر عنفاً، لكنها شكلٌ آخر أيضاً للمعرفة، للانكشاف، لامتحان البُنى التي نتوهّم أنها صُلبة. إذ ليست الحرب، في جوهرها، حدثاً عسكرياً محضاً، بل أداة كشفٍ كبرى، تُسقط الأقنعة عن الدول والأفراد، وتفضح حقيقة المجتمعات، وتعيد ترتيب الوعي الإنساني بما هو أعمق من الخطابات المُخدِّرة.

السلام الحقيقي لا يُبنى بالطّهرانيات، بل بفهم ما تكشفه الحروب من هشاشةٍ في بنانا ووعينا ومساراتنا، لأن الوعي الذي تنتجه لحظات الارتجاج هو ما يجعل السلام ممكناً وقابلاً للحياة. أما السلام الذي يتجاهل ما تعرّيه الحروب، ويتعامى عن مكامن الخلل، فلا يعدو أن يكون تعليقاً مؤقّتاً للصراع في أحسن أحواله، أو غطاءً لتراكم هشاشاتٍ أخرى، تؤدّي لمؤدياتٍ أخطر

فهي، بادئ ذي بدء، تكشف وهم الاستقرار. ذلك أنّ السلام المائع، حين يُفهم على أنّه انتفاء الظاهر للعنف، يموّه الهشاشة التي تتراكم في باطن المجتمع. تُظهر الحرب أن البُنى السياسية التي بدت متماسكة قد تكون مجرد تعليق تناقضات لا أكثر. وعند أول ارتجاج، ينكشف أنَّ ما بدا استقراراً أو تماسكاً لم يكن إلا قشرة رقيقة فوق صفيح يغلي. وهي تغدو بهذا المعنى مرآة اضطرارية يرى فيها المجتمع نفسه أو الجماعة نفسها بلا مُحسِّنات، بلاغية كانت أم منطقية أم كاريزمية.

والحرب هي الوسيلة الأكثر كشفاً لطبائع البشر الأكثر صدقاً. لا في وحشيتهم فقط، وقدرتهم على ارتكاب الفظائع تحت مسميات عديدة وإن كانوا في ذواتهم ميّالين للخير، بل هي كاشفة لهم في شجاعتهم أيضاً، في قدرة بعضهم على العطاء والتضحية، وفي هشاشة البعض الآخر. من جانب معيّن، فإن اللحظات القصوى، تُحرّر الإنسان من زيف حياته اليومية، وتجعله يواجه ذاته مواجهة مباشرة: ماذا يحب؟ ماذا يخاف؟ ماذا يريد فعلاً؟ من يكون عندما تشتدّ العاصفة؟ وهذا بُعد لا تمنحه فترات السلام المطمئنة التي تجعل الأفراد يذوبون في روتينٍ بلا اختبار. ومن جانب آخر، فإنّ هذا الكشف بالتحديد هو ما يبرهن على أن الخير والشر مصطلحان ببعدين ظرفيّين، وليسا طبيعةً جوهرانية خالصة، وإنّما يتأتّيان في سياق من العوامل والتجاذبات والاستلابات التي تنزع الصفات الذاتية للإنسان في لحظة مواجهة قصوى، لتجعله ينصهر في مقدّمات عقدية أو أيديولوجية أو جماعية تعيد تعريف الخير والشر وترجمتهما في الواقع بطرق مختلفة..

والحرب إذ تكشف أيضاً، فهي تُبرز حدود الأفكار والنظريات. إذ إنّ كل منظومة فكرية، سياسية كانت أم دينية أم قومية أم وطنية، تبدو عظيمة في التنظير، مترفعة في الخطاب، صافية في الندوات. لكن الحرب تضعها في مختبرٍ لا يرحم: هل صمدت؟ هل صنعت معنى؟.. إنّها تُعيد ضبط قيم الأفكار، وتطرد منها ما هو شعاراتيّ، وتُبقي ما يصلح للواقع. لذلك، كثيرٌ من التحوّلات الفكرية العميقة في التاريخ جاءت بعد حروب لا بعد مفاوضات.

إقرأ على موقع 180  مايا زيادة، "يا امْرأَةُ، عَظيمٌ إِيمانُكِ.. لِيَكُنْ لَكِ كما تُرِيدينَ"!

وبعد؛ تُجبر الحروب الإنسان على اختراع معنى جديد، وعلى إعادة النظر في علاقته بوجوده، وعلى استحضار الممكن الذي كان دفيناً، وهي بذلك تُظهر الطاقات الكامنة في الإنسان والمجتمع. ليس لأنّها جميلة، بل لأنه من دون الضغوط القصوى، تبقى المجتمعات في منطقة رمادية، بلا ضرورات تولّد جديداً. ثمّ إنها، أي الحروب، تفحص حدود الأخلاق ذاتها. لا بمعنى سقوطها، بل بمعنى اختبارها. فالأخلاق، ترجمةً، وعود على بدء، ليست نوايا طيبة، بل تتمظهر عبر آليات فعل في لحظة الخطر. هنا بالتحديد يظهر الفارق بين الأخلاق كقصيدة، والأخلاق كمسؤولية. وفي بعض اللحظات، تصنع الحرب أخلاقاً جديدة وضرورية، تُعيد تعريف الكرامة، والحماية، والشجاعة، والعدالة، والمظلومية، وتكشف الوهم في أخلاقٍ أخرى كانت مبنية على الرفاه لا على التجربة.

ولعلّ أهم ما تكشفه الحروب كذلك هو حقيقة الإنسان ككائن يسعى للمعنى. إذ يتخذ السلام معنى عندما يتعرّض للتهديد، وتتخذ الكرامة معنى عندما تُهان، ويتخذ الوطن معنى عندما يصبح في خطر. وبهذا المعنى، الحرب ليست نقيض المعنى؛ بل هي التي تُعرّي معاني الأشياء من غبار التعوّد. ومن لا يمرّ بتجربة التهديد الوجودي، قد يعيش عمراً كاملاً وهو يعتقد أنّه يعرف ما يريده، بينما هو لم يواجه لحظة تُلزمه بأن يعرف حقاً.

ليست المشكلة في “قداسة السلام”، بل في سياسات خطاب السلام التي تميل إلى تحميل الأضعف مسؤولية ضبط النفس في الوقت الذي يترك فيه الطرف الأقوى حرّاً دون مساءلة، يوسِّع بنيران حربه، يهدّد بالمزيد، ويحافظ على حقه في القوة محاطاً بمظلة دولية.. هذا بالتحديد أحد أوجه السلام المائع الفاضحة

وعلى ذلك، لا يكون مدح الحرب تمجيداً لدمارها، بل اعترافاً بدورها في كشف ما نخاف أن نراه، ذلك أن الإنسان لا ينضج بالطمأنينة وحدها، بل بالارتجاج أيضاً. والحضارات لم تنشأ من راحة دائمة، بل من اختبار دائم.. اختبار للذات وللمعنى وللتاريخ! وما يُقال عن الأشخاص يُقال أيضاً عن الأمم.

زيارة البابا، بما حملته من فضاء أخلاقي صافٍ، تضعنا أمام سؤال أبعد من سجال الحرب ونقيضها. فالمقال لا يقصد إقامة زجل بينهما، ولا يدعو إلى تمجيد الحرب على حساب الأُخرى، إنما ينتقد ذاك السلام المائع الذي يُرفع شعاراً عند البعض فيما هو لا يحمي مجتمعاً ولا يصون إنساناً، بل قد يجرّه إلى التفريط بالسيادة والاستسلام باسم “العقلانية السلامية”.

وزبدة القول هنا، أن السلام الحقيقي لا يُبنى بالطّهرانيات، بل بفهم ما تكشفه الحروب من هشاشةٍ في بنانا ووعينا ومساراتنا، لأن الوعي الذي تنتجه لحظات الارتجاج هو ما يجعل السلام ممكناً وقابلاً للحياة. أما السلام الذي يتجاهل ما تعرّيه الحروب، ويتعامى عن مكامن الخلل، فلا يعدو أن يكون تعليقاً مؤقّتاً للصراع في أحسن أحواله، أو غطاءً لتراكم هشاشاتٍ أخرى، تؤدّي لمؤدياتٍ أخطر. فكيف إذا كان المدعوّ إليه هو الطّرف الأضعف حصراً في معادلة الصراع. تلك مفارقة غاية في الأهمية وليست تفصيلاً عابراً. هنا، لا تعود المشكلة في “قداسة السلام”، بل في سياسات خطاب السلام التي تميل إلى تحميل هذا الأضعف مسؤولية ضبط النفس في الوقت الذي يترك فيه الطرف الأقوى حرّاً دون مساءلة، يوسِّع بنيران حربه، يهدّد بالمزيد، ويحافظ على حقه في القوة محاطاً بمظلة دولية.. هذا بالتحديد أحد أوجه السلام المائع الفاضحة.

إن تفكيك السلام الاستعراضي الذي لا يحمي أحداً ولا يُعالج شيئاً هو ضرورة، وإن السلام الحقيقي لا ينطلق من الزاوية الأخلاقية، بل من توزيع عادل للمسؤولية، واعتراف دقيق بمن يصنع الخطر ومن يخضع له.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مع "الميّاس".. ثقافة العرب تغزو الغرب لا العكس!