أميركا بعد “وقف إطلاق النار”: إدارة “الاستقرار التابع” في لبنان!

منذ لحظة سقوط النظام السوري في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، بدا واضحًا أن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة، يُعاد فيها رسم الخرائط وتنظيم موازين القوى بما يعكس الرؤية الأميركية الإسرائيلية للشرق الأوسط، الذي ما زال يصارع للاستقرار على وقع التوحّش الإسرائيلي والقلق الإقليمي.

في قلب هذا المشهد، يأتي لبنان بموقعه الجيوسياسي البالغ الحساسية، بوصفه ساحة رسائل إقليمية ودولية ومنطلقًا لتغيير موازين القوى في المنطقة، ليشهد على محاولة الولايات المتحدة الأميركية الاستفراد بالساحة اللبنانية.

إذًا، لم يكن وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 نهاية للحرب، بل انتقالًا إلى نمط جديد منها، تكون فيه الولايات المتحدة الضامن والحامي والمساند لإسرائيل في خرقها للقرار 1701، وممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على لبنان لحمله على الرضوخ والاستجابة للشروط الإسرائيلية، وليس أقلّها إلحاق لبنان باتفاقيات أبراهام.

هذه المقاربة للدور الأميركي في لبنان يمكن أن نُطلق عليها مفهوم “الاستقرار التابع”؛ أي الاستقرار الموجَّه سياسيًا واقتصاديًا بما يضمن مصالح واشنطن وتفوّق إسرائيل الأمني والعسكري، بينما يُترك لبنان عالقًا في أزماته الاقتصادية والسياسية وتعقيداته الأمنية وهشاشته العسكرية.

فمنذ الأيام الأولى لوقف إطلاق النار، دخلت واشنطن على الخط في سباق دبلوماسي ـ أمني لفرض خطوط حمر على لبنان لجهة التحريض المستمر على سلاح المقاومة والمطالبة بنزعه من قبل الدولة اللبنانية، مقابل رفع القيود والحصار وتقديم المعونات والمساعدات الاقتصادية، والإيحاء بأنّ السلاح هو عِلّة العِلَل في لبنان، وهو السبب الرئيسي في العزلة الدولية، في مشهد يعكس انقلاب الصورة وتزوير الحقائق أمام ما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي وعدسات الكاميرات من توحّش إسرائيلي يطال الحجر والبشر في فلسطين، ومن مشاهد الطائرات الحربية والاستطلاعية وهي تخرق اتفاق 1701 وتُمعن في قتل الأبرياء والعزّل في لبنان وصولًا حتى ضاحية بيروت الجنوبية. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على الجهد الأميركي لضبط الوضع اللبناني في محاولة للحفاظ على تفوّق إسرائيل من دون السماح لها بالذهاب بعيدًا في المواجهة وتفجير المنطقة.

إنه “استقرار تابع”، يقوم على منع الحرب لا منع أسبابها، وتثبيت التفوّق الإسرائيلي لا موازنة القوى، وضبط الجبهة اللبنانية لا حماية لبنان، وإدارة الأزمة لا حلّها. وبين هذه الخطوط العريضة، يبقى لبنان محاصرًا في موقع لا يمكنه الخروج منه بسهولة: موقع الدولة التي تُدار من الخارج، بينما يسعى شعبها إلى دولة تُبنى من الداخل

من هنا، تُدير الولايات المتحدة المعادلة بثلاثة مبادئ أساسية:

-منع الحرب الشاملة لأنّها تضرّ بالمصالح الأميركية في المنطقة وتهدّد أمن الملاحة والطاقة والاستثمارات.

-عدم السماح لحزب الله بإعادة التقاط أنفاسه وترميم قدراته بما يعيده إلى قوّته السابقة كقوة إقليمية.

-منح إسرائيل مساحة حركة محسوبة تردع خصومها، لكن من دون أن يؤدّي ذلك إلى انهيار قواعد الاشتباك.

بهذا المعنى، لم تكن الهدنة هدفًا بحدّ ذاتها، بل أداة لإعادة ضبط ميزان القوى في المنطقة. واشنطن كانت تريد جنوبًا هادئًا، لكنها لم تكن تريد جنوبًا مستقرًا مستقلًا. كانت تريد ساحة يمكن التحكم بها، لا ساحة تُنتج معادلات جديدة. ولذلك بدا المشهد اللبناني أكثر تعقيدًا، لأنّ المفاوض الأميركي لم يكن يبحث عن حلول طويلة الأمد، بل عن ترتيبات موضعية. لذلك ظهرت في لبنان خلال الأسابيع التالية لوقف النار مجموعة ظواهر:

-زيارات متكررة للمبعوثين الأميركيين محمّلين بخرائط وخطوط انسحاب وتقارير تقنية حول الحدود ومراكز الانتشار.

-ضغط على القوى السياسية اللبنانية لضبط خطابها وقراراتها بما ينسجم مع الرؤية الأميركية – الإسرائيلية.

-تنسيق متزايد مع الجيش اللبناني خصوصًا في الجنوب تحت شعار “الوقوف على خط الهدنة”، بينما الهدف الحقيقي كان وضع تحرّكات الجيش تحت المراقبة.

-استدعاء الملف الاقتصادي عند الحاجة لربط المساعدات بخيارات سياسية معيّنة في إطار سياسة “العصا والجزرة”.

بهذا كلّه، تحوّل لبنان إلى مساحة مُراقَبة أكثر منه دولة مدعومة، وأصبح الاستقرار الذي تسعى إليه واشنطن لا يخدم إعادة إنتاج وتفعيل عوامل الازدهار والنهوض، بل هو استقرار مرتبط بحجم الطاعة وتنفيذ الأوامر والتوقيع على أوراق الاستلام، وهذه هي وظيفة المفاوضات في طورها السياسي الجديد، بعنوان “الميكانيزم”.

هكذا أطبقت واشنطن حوكمتها على الملف اللبناني لتجعل منه قفصًا على قياس المقاومة، لتدجينها ودفعها إلى تسليم سلاحها، وجعل إسرائيل تستبيح لبنان وتفرض عليه بالسلم ما عجزت عنه في الحرب، وبالتالي تكون واشنطن قد مهّدت لإسرائيل تحقيق مجموعة نقاط استراتيجية وتكتيكية تُحسب لها في ميزان الصراع على النفوذ في المنطقة:

-حدود هادئة (حماية أمن المستوطنات والمستوطنين).

-قدرة على الضغط على الحزب والبيئة الجنوبية من دون الدخول في مواجهة شاملة.

-أمّا لبنان، فلا يجني سوى هدوء ظاهري لا يملك مقومات الدوام، ولا يؤسّس لحلّ سياسي أو اقتصادي أو أمني مستدام.

وعلى الصعيد الداخلي، يدرك اللبنانيون أن الاستقرار المفروض من الخارج لا يمسّ جوهر أزماتهم، فلا الكهرباء عادت، ولا الانهيار المالي توقّف، ولا المؤسسات استعيدت، ولا الجنوب أمِن بلا شروط. إنه استقرار يجمّد الوضع لكنه لا يعالجه، يسكّن التوتر لكنه لا يلغيه، ويُدار من الخارج لكنه لا ينبع من الداخل.

إقرأ على موقع 180  عربدة نقدية ومالية لبنانية لا مثيل لها دولياً

ختامًا، ينتهي العام 2025 كما انتهى سابقه. لبنان لم يدخل في مرحلة سلام، بل مرحلة إدارة أميركية مُحكمة للأزمة، حيث يُصنع الاستقرار في غرف عمليات إقليمية ثم يُرسل إلى بيروت (أو الناقورة) على شكل تعليمات سياسية وخطوط حمر.

إنه “استقرار تابع”، يقوم على منع الحرب لا منع أسبابها، وتثبيت التفوّق الإسرائيلي لا موازنة القوى، وضبط الجبهة اللبنانية لا حماية لبنان، وإدارة الأزمة لا حلّها. وبين هذه الخطوط العريضة، يبقى لبنان محاصرًا في موقع لا يمكنه الخروج منه بسهولة: موقع الدولة التي تُدار من الخارج، بينما يسعى شعبها إلى دولة تُبنى من الداخل.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحث وأكاديمي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": عملية رفح تهدف لإنشاء وضع جديد بين مصر والقطاع