

الواقع أنّ سنوات الصراع في سوريا قد شهِدت تقسيماً فعليّاً للبلاد وتطوّر تجارب سلطات محليّة أدارت مناطقَ خلال عقد ونيف من الزمن بشكلٍ منفصِل، وأوجدت تجاربها الخاصّة. هناك تجارب “الإدارة الذاتية” في الشمال الشرقي، وتجربة “حكومة الإنقاذ” في الشمال الغربي، وأقلّ منهما تجربة “الحكومة الانتقاليّة” في شمال حلب وغيرها مما سمّي حينها “المناطق المحرّرة” والتي لم يعُد يتحدّث عنها أحد برغم كلّ الدعم الدولي الذي عرفته سابقاً.
واللافت للانتباه اليوم هو أنّ الحديث عن اللامركزيّة يأتي بعد سيطرة “حكومة الإنقاذ” على مناطق سوريا التي كانت تخضع للدولة ولإدارتها المركزيّة، وفي هذه المناطق بالذات، وليس حقّاً في سياق تفاوضٍ لإعادة توحيد البلاد مع “الإدارة الذاتية”.
***
جميع الدول التي عرفت حروباً أهليّة وصراعات إثنيّة أو طائفيّة، أو حتّى طبقيّة، حادّة وعنيفة شهدت نقاشات واصطفافات حول اللامركزية والفدراليّة لغياب الثقة بين أطياف المجتمع وحيال السلطة المنتصِرة أو سلطات الأمر الواقع القائمة. مضمون هذه النقاشات هو إعادة بناء عقد اجتماعي بين الدولة والمواطنين وتوزيع السلطة والثروة. وكثيرٌ من الحلول التي ابتُكِرت في هذا السياق لإنهاء الصراع، من البوسنة والهرسك إلى العراق، خلقت أوضاعاً هشّة غير مستقرّة مع استمرارٍ ضمنيّ للصراعات وتبعيّة للخارج لضمان عدم انفجارها مجدّداً.
هذا في حين لا يعني استخدام تعبير “فدرالية” أو “اتحاد” في صيغة دساتير دولٍ راسخة الكثير، طالما هناك تداولٌ للسلطة السياسيّة عبر الانتخاب الشعبيّ. ألمانيا دولة فدراليّة، والولايات المتحدة اتحاد دول، وهناك تداولٌ على السلطة السياسيّة في الإثنتين، في المركز كما في الأقاليم.
والسؤال الجوهريّ في جميع الحالات: هل الأمر يتعلقّ بتقاسم السلطة بين أمراء حرب أو زعامات أم توزيعٌ لصلاحيات الدولة كمؤسسة أو مجموعة مؤسسات على المستويات المختلفة حتّى الأقرب منها للمواطنين؟
لا يأخذ استفراد منتصِرٍ بسلطة مطلَقة إلى حلٍّ مستدام يحافظ على وحدة البلاد ولا تقاسمها بين زعامات تعتمد على هويّات أو مناطق معيّنة. سواءً أكان التقاسم ضمنيّاً أو مؤسّساً على “شرعيّة” دستورٍ “فدراليّ”. ذلك أنّ جميع هذه الصيغ تأخذ إلى الخروج من منطق الدولة بمعنى كونها جسمٌ مؤسساتي دوره أن يخدم المواطنين وليس الأفراد الذين يستأثرون بالحُكم، مركزيّاً أو محليّاً. ولأنّ توزيع الثروة، وهو دورٌ أساسيّ للدولة بين الأغنياء والفقراء، وبين المناطق الغنيّة والمناطق الأكثر فقراً، يغدو استجلاباً للثروة نحو السلطة للحفاظ على الهيمنة، أكانت سلطة واحدة مطلقة أو سلطة موزّعة بين زعامات. ومثالا لبنان بعد اتفاق الطائف (1989) والعراق بعد الدستور الذي وضعه الاحتلال الأمريكي (2003) حاضران في أذهان السوريين.
***
إشكاليّة انتقال سوريا من الصراع نحو الاستقرار هي قبل كلّ شيء إشكاليّة داخليّة، وليست إشكاليّة الخارج مهما كان نفوذه. إنّها إشكاليّة مجتمع ودولة وسلطة. المجتمع بحاجة لدولة على الصعيد المركزي والمحلّي تؤمّن له الأمان والعيش والخدمات. والدولة بحاجة إلى صون مؤسساتها وتطويرها لمواكبة مرحلة انتقالية صعبة. إذ لا يُمكِن لا للامركزيّة ولا للفدراليّة أن تكون حلاًّ إلاّ مع دولة مركزيّة قويّة وفعّالة، دولةٌ عادلة وحياديّة تجاه كلّ المجتمع وكافّة المناطق
الدولة هي مؤسّسة، بل مجموعة مؤسسات. هدفها الأوّل والأخير هو تنظيم حياة المواطنين لخدمتهم.. ولخدمتهم فقط. مؤسسة عسكريّة وأمنيّة تمنح الأمان للجميع، وتصون وحدة البلاد، وتحميها من التهديدات الخارجيّة. مؤسسةٌ لا تقوم بانتهاكات حريّات المواطنين الفرديّة أو الجماعيّة، ولا تستنفِر عصبيّات هويّات فئةٍ ضدّ فئةٍ أخرى، مهما كانت طبيعتها. مؤسّسة قضائيّة تطبّق القانون وتصون الحقوق حتّى، أو خاصّةً، تجاه أعضاء السلطة القائمة. مؤسسة تشريعيّة تضع القوانين وتطوّرها تبعاً لتطوّر الأوضاع. مؤسّسة تنفيذيّة تعمل ضمن القانون وتحت سلطة القضاء، بما فيه الإداري، لأجل خدمة المواطنين وتمثيلهم.
لا يأخذ استفراد سلطة مطلقة بالجهاز التنفيذي، أو واقع توزيعه على أمراء، حقّاً إلى خدمة المواطنين؛ لا على الصعيد المركزي، أي الوزارات والإدارات، ولا على الصعيد المحليّ، أي المحافظات والإدارات المحليّة. كما أثبتت التجربة أنّ الأجهزة التنفيذيّة الشديدة المركزيّة تفشل في تحقيق التنمية والعدالة في الأطراف. وكان انعدام العدالة في هذه الأطراف أحد الأسباب الرئيسيّة لاندلاع الصراعات الأهليّة وإنّ أخذت لاحقاً صبغةً طائفيّة أو إثنيّة تبعاً للتنوّع السكّاني الموجود. وبما أنّ المشاركة الشعبيّة الفعّالة هي أساس العدالة فإنّ أغلب الدول الحديثة قد اعتمدت مبدأ “القرب” أو “اللامركزيّة الوظيفيّة” (subsidiarity) الذي يفترِض أن تؤخذ القرارات وتنفّذ على المستوى الأقرب للمواطنين بحيث يشاركون في خياراتها وتُنَفّذ بشكلٍ أفضل. ومن هنا نشأت أساساً مؤسسات المجالس المحليّة للمحافظات والمدن والأجهزة التنفيذيّة فيها، بما فيها في سوريا.
وهناك تجربة تاريخيّة لافتة للانتباه للمجالس المحليّة في سوريا قبل الصراع. إذ كان لها ميزانيّاتها التي تُصرَف على أجور موظفيها المعنيين بالخدمات العامّة للمواطنين، ولها أيضاً إيراداتها التي يأتي أغلبها من الرسوم المحليّة الخدميّة والعقاريّة. هذا في حين تُموّل الحكومة المركزيّة المشاريع التنمويّة الأكبر من طاقة المحليّات. هذه التجربة كانت معاقة لأنّ السلطة التنفيذيّة هي بيد المحافظ المعيّن من قبل السلطة وليس المجلس المحليّ المنتخب. وما كان يؤدّي إلى إشكاليات تتفاقَم.
واللافت للانتباه في سوريا حالياً هو نموّ الإرادة الشعبيّة نحو تفعيل الإدارات المحليّة، ليس فقط نتيجةً للاحتقانات التي نتجت عن الأحداث الدامية في بعض المناطق، بل أيضاً لغياب اهتمام السلطة، وبالتالي الدولة المركزيّة، عن تنفيذ الحدّ الأدنى من الخدمات والعدالة بين المناطق. فها هي فعاليّات مدينة حمص الاجتماعيّة تُقصي رئيس مجلس المدينة المعيّن وتقيم احتفالاً (سمّي “أربعاء حمص”) تجمع فيه تبرّعات لمعالجة أولويّات تعافي الخدمات محليّاً. وها هي فعاليّات محافظة درعا، تناقش مع مجالس البلديات أولويّاتها وتقيم هي أيضاً احتفالاً (سمّي “حوران البشائر”) جمعت فيه تبرّعات كبيرة لتنفيذها. ويبدو أنّ مدن ومحافظات أخرى تستلهم هاتين التجربتين، وبخاصّةً أنّ المبالغ التي تمّ الإعلان عنها تخطّت نسبيّاً ما تمّ الإعلان عنه في احتفال “صندوق التنمية” الذي ابتكرته السلطة.
هذه التحرّكات لها دلالتها. المجتمع يحتاج إلى مؤسسات دولتية قريبة منه لتأمين حياته. والمجالس المحليّة وأجهزتها التنفيذية هي أيضاً مؤسسات دولة. المهمّ أن تأخذ هذه التحرّكات حقّاً طريقاً مؤسساتياً، أي أن توضع التبرّعات المجمّعة، أو أي معونات خارجيّة، في ميزانيات المحليّات، وتتمّ مراقبة صرفها وتنفيذ الأولويات. لا أن تكون بالمقابل وسيلةً للنفوذ المباشر أو عبر “جمعيّات”. وهذا ينطبق ليس فقط على تحرّكات حمص ودرعا، بل أيضاً على السويداء المنكوبة والمحاصرة، وعلى طرطوس واللاذقية وحلب وحماة، وعلى محافظات الشمال الشرقي السوري.
***
لا تتميّز الممارسات الحالية للسلطة في سوريا بالشفافيّة وبالحفاظ على الدولة كمؤسسة. وإلا ما معنى أن يقال أن وزارةً ما لها استقلالية إدارية ومالية؟ وما معنى أن تأتي أجور موظفي وزارة أخرى مباشرةً من تمويلات خارجيّة وليس عبر الموازنة العامّة للدولة؟ وما معنى أن يتمّ ربط جميع المؤسسات المنشأة حديثاً مباشرةً برأس السلطة؟
إشكاليّة انتقال سوريا من الصراع نحو الاستقرار هي قبل كلّ شيء إشكاليّة داخليّة، وليست إشكاليّة الخارج مهما كان نفوذه. إنّها إشكاليّة مجتمع ودولة وسلطة. المجتمع بحاجة لدولة على الصعيد المركزي والمحلّي تؤمّن له الأمان والعيش والخدمات. والدولة بحاجة إلى صون مؤسساتها وتطويرها لمواكبة مرحلة انتقالية صعبة. إذ لا يُمكِن لا للامركزيّة ولا للفدراليّة أن تكون حلاًّ إلاّ مع دولة مركزيّة قويّة وفعّالة، دولةٌ عادلة وحياديّة تجاه كلّ المجتمع وكافّة المناطق. والسلطة الحالية بحاجة لـ”الصلاة على النبي”.