من هذا المنظور أعلاه، لا يُمكن مقاربة المواجهة المتجددة بين تنظيم “داعش” والدولة السورية الجديدة بوصفها حربًا بين دولة وتنظيم، بل باعتبارها تُجسّد انشقاقًا داخل بنية فكرية واحدة، انقسمت عند لحظة السلطة لا عند لحظة العقيدة.
في هذا السياق، يتضح أن الطرفين تشكّلا داخل الفضاء الجهادي نفسه، واستندا في بداياتهما إلى المرجعيات ذاتها التي برزت مع تفكك الدولة السورية (وحولهما بعض الدول كالعراق)، وتطييف النزاع، وعسكرة المجتمع. غير أن لحظة الافتراق الحاسمة لم تكن في النصوص أو الشعارات، بل عند سؤال الحكم تحديدًا: هل السلطة غاية عقدية قائمة بذاتها، أم وظيفة سياسية قابلة للإدارة والتفاوض والتبدّل؟
هنا، اختار “داعش” المسار الأول، حيث تتحوّل العقيدة إلى نظام حكم مغلق، ويُعاد تعريف السياسة بوصفها انحرافًا، ويغدو العنف غايةً بحد ذاته لا أداةً لتحقيق غاية عامة. ووفق هذا التصور، لا يُنظر إلى المجتمع بوصفه شريكًا، بل مادةً للضبط والإخضاع. في المقابل، وعلى الضفة الأخرى من البيئة نفسها، اتجه مسار مختلف نحو إعادة تأويل العلاقة بين النص والواقع، وصولًا إلى التخلّي التدريجي عن منطق الجماعة العقائدية لمصلحة منطق الدولة، بما يحمله ذلك من براغماتية ومخاطرة.
غير أن هذا التحوّل لم يُنتج خلافًا سياسيًا عاديًا، بل فجّر ما يمكن تسميته «عداوة القربى الجهادية». ففي منطق التنظيمات العقائدية المغلقة، يُعدّ الانفصال خيانةً، والتكيّف ردّةً، والانتقال من منطق السلاح إلى منطق الدولة جريمةً تستوجب العقاب. من هنا، لم ينظر “داعش” إلى الدولة السورية الجديدة بزعامة أحمد الشرع كخصم سياسي فحسب، بل كتهديد وجودي يطعن شرعيته من الداخل.
ولفهم هذه العداوة على نحو أعمق، لا بد من التوقف عند طبيعة تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه. “داعش” لم يكن ظاهرةً طارئة في السياق السوري، بل التعبير الأكثر تطرفًا عن لحظة انهيار مزدوجة، انهيار الدولة بوصفها إطارًا جامعًا، وانهيار السياسة بوصفها أداةً لإدارة الصراع. في الفراغ الذي خلّفه تفكك السلطة، وانقسام المجتمع، وعجز القوى المحلية عن إنتاج بديل سياسي مقنع، نشأ تنظيم لا يعترف بالسياسة أصلًا، بل يستبدلها بعقيدة مطلقة وعنف غير محدود، مقدّمًا نفسه بوصفه نهايةً للفوضى لا امتدادًا لها.
إلا أنّ هذا الادعاء سرعان ما اصطدم بحدوده البنيوية. فإعلان «الخلافة» لم يكن تتويجًا لقوة التنظيم، بل ذروة مقامرته السياسية. فالدولة لا تُبنى بالصدمة وحدها، ولا تُدار بالخوف الدائم. وما أن انتقل “داعش” من السيطرة العسكرية إلى ادعاء السيادة، حتى تبدى انكشافه البنيوي، غياب المؤسسات، انعدام العقد الاجتماعي، وانفصال الحكم عن المجتمع. وبذلك، لم تكن «الدولة الداعشية” سوى آلة سيطرة مؤقتة، انهارت من الداخل قبل أن تُهزم عسكريًا.
أي فشل في احتواء “داعش” سينعكس مباشرةً على دول الجوار، ما يجعل مكافحته جزءًا لا يتجزأ من معادلة إعادة إدماج سوريا في محيطها الإقليمي. وفي الحالة اللبنانية تحديدًا، لا يكمن الخطر في وجود حاضنة اجتماعية للتنظيم، بل في هشاشة اقتصادية وسياسية تخلق فراغات قابلة للاستغلال، على رغم تنامي الوعي المجتمعي بكلفة المغامرات الجهادية
وعلى خلاف القراءة الشائعة، يُعدّ اختزال التيار الجهادي في سوريا بـ”داعش” وحده خطأً تحليليًا جسيمًا. فقد شهد هذا الفضاء منذ بداياته انقسامات حادة حول مفهوم الحكم، وحدود العنف، وطبيعة العلاقة مع المجتمع. وبينما حسم “داعش” هذه الخلافات بالقوة، ما وضعه في مواجهة مع خصومه وشركائه السابقين على السواء، برز في المقابل مسار آخر اختار الانتقال من منطق الجماعة إلى منطق الدولة، ليتحوّل لاحقًا إلى واجهة مشروع دولة ناشئة.
ومن هنا، يمكن فهم سبب اعتبار الدولة السورية الجديدة الخطر الأكبر على “داعش”. فهي ليست خصمًا خارجيًا طارئًا، بل نموذجًا خرج من البيئة نفسها واختار نقيضها. وبهذا المعنى، تسحب من التنظيم احتكار «الشرعية الجهادية»، وتحيل خطابه من دعوة مطلقة إلى أطروحة متجاوزة. لذلك، لا يرى “داعش” في الدولة الوليدة خطرًا عسكريًا بقدر ما يراها تهديدًا (نموجًا) رمزيًا يُقوّض مبررات وجوده.
وبعد خسارة تنظيم “داعش” السيطرة الميدانية، بات هذا المأزق أكثر وضوحًا. لم يعد لدى تنظيم الدولة الإسلامية مشروع حكم، بل قدرة محدودة على التخريب والاستنزاف. وتحول التنظيم إلى شبكة خلايا تعتمد على الاغتيالات، العمليات النوعية، والبيانات التحريضية. وهذا التحول لا يُشير إلى عودة محتملة، بقدر ما يعكس انكماش تنظيم فقد أفقه السياسي، وأصبح يقاتل لتأجيل موته ليس إلا.
في المقابل، يواجه تنظيم “داعش” اليوم خصمًا من طبيعة مختلفة. فلم يعد أمامه فراغ مفتوح أو دولة متداعية، بل محاولة، مهما كانت هشّة، لإعادة بناء الدولة، وتوحيد المؤسسة العسكرية، وضبط السلاح، والانفتاح الإقليمي. لذلك، لم تعد الحرب على “داعش” حرب جبهات، بل معركة استخباراتية وقائية تقوم على تفكيك الشبكات، وقطع التمويل، ومنع إعادة التجنيد.
غير أنّ هذه المواجهة الخارجية تبقى ناقصة ما لم تُعالج المعضلة الداخلية الأخطر. فالتحدي الحقيقي الذي يواجه الإدارة السورية الجديدة لا يأتي من خارج مؤسساتها، بل من داخلها. إذ إنّ دمج مقاتلين سابقين، بينهم من يحمل خلفيات عقائدية متصلبة، أفرز بنيةً هجينة يصعب ضبطها بالكامل. صحيحٌ أنّ وجود عناصر ذات انتماءات أيديولوجية داخل الجيش أمر متوقع بعد حرب طويلة، لكن الخطر يكمن في تحوّلهم إلى شبكات ولاء داخل المؤسسة، بما يخلق ازدواجيةً قاتلة في الانتماء.
أمام هذا الواقع، تجد الإدارة السورية الجديدة نفسها أمام خيارات مكلفة، فأيُّ تطهير واسع قد يفتح جبهات داخلية جديدة، وأيُّ احتواءٍ بطيءٍ قد يُراكم مخاطر الاختراق. لذلك، يبدو أنّ المسار الأكثر ترجيحًا يقوم على تفكيك صامت بشراكة كاملة مع الأميركيين، وإعادة هيكلة تدريجية، واستبعاد غير معلن لشبكات النفوذ العقائدي، من دون إعلان حرب داخلية شاملة. غير أنّ نجاح هذا المسار يبقى مرهونًا بقدرة الأجهزة الأمنية على التحول إلى مؤسسات دولة فعلية، لا امتدادًا لتنظيمات سابقة وبالدعم الدولي والإقليمي ولا سيما الأميركي التركي.
ومع ذلك، لا يمكن حصر هذه المواجهة في الإطار السوري وحده. فأي فشل في احتواء “داعش” سينعكس مباشرةً على دول الجوار، ما يجعل مكافحته جزءًا لا يتجزأ من معادلة إعادة إدماج سوريا في محيطها الإقليمي. وفي الحالة اللبنانية تحديدًا، لا يكمن الخطر في وجود حاضنة اجتماعية للتنظيم، بل في هشاشة اقتصادية وسياسية تخلق فراغات قابلة للاستغلال، على رغم تنامي الوعي المجتمعي بكلفة المغامرات الجهادية.
وختامًا، يمكن القول إنّ “داعش” اليوم لا يقاتل ليحكم، بل ليؤجّل اختفاءه. أما الدولة السورية الجديدة، فهي أمام امتحان وجودي حاسم، إما أنْ تنجح في بناء دولة تحمي المجتمع وتقطع مع ماضي العنف، أو أنْ تعيد، بفعل القسوة أو الفشل، إنتاج الشروط التي أنجبت “داعش” أصلًا. في هذه المعركة، يبقى السلاح عنصرًا ضروريًا، لكن العقل السياسي هو العامل الحاسم. فالانتصار الحقيقي لا يُقاس بعدد العمليات ولا أعداد المقاتلين وجنسياتهم، بل بقدرة الدولة على منع عودة العقيدة العنفية الإلغائية عبر مؤسساتها نفسها، فإما دولة تُنهي الجهاد سياسيًا وأمنيًا، أو جهاد يعيد إنتاج نفسه داخل الدول.
