ومع الاستقلال عام 1943، جاء الميثاق الوطني ليكرّس هذا التوازن ضمن معادلة لتقاسم السلطة بين المسلمين والمسيحيين. لم تكن تلك الصيغة إعلانًا عن مواطنة متساوية، بل إدارة دقيقة للخوف المتبادل والرغبة في تجنّب الصدام. وبدلًا من أن تصبح الدولة مرجعًا أعلى، تحوّلت إلى مسرح يوزّع المنافع والتمثيل بين الطوائف، فيما بقي الولاء الفعلي معقودًا على الجماعات الأضيق، حيث يشعر الفرد أن صوته وحمايته وكرامته مضمونة.
وبرغم ذلك، بقي اللبنانيون يعيشون تحت السقف ذاته. ليس لأنهم اختاروا ذلك، بل لأن الخروج منه بدا دائمًا أخطر من احتماله. فقد لعبت الجغرافيا دورًا حاسمًا: تضاريس متداخلة لا تسمح بحدود واضحة بين جماعة وأخرى، وساحل وجبل وداخل لا يستقيم أي منها بمعزل عن الآخر. كما خلق الاقتصاد تشابكًا يصعب تفكيكه؛ سوق واحدة، مرافئ واحدة، مصارف مترابطة، وشبكات تجارة ومال تَعْبُرُ الطوائف والمناطق. وهكذا بدا البقاء معًا، ببساطة، أقلّ كلفة من الانفصال.
وحين اشتعلت الحرب الأهلية عام 1975، بدا وكأن السقف قد انهار. لكن المفارقة أن الحرب لم تُلْغِ العيش المشترك، بل أعادت إنتاجه وفق توازن جديد أُعْلِنَ في اتفاق الطائف عام 1989. بدا الاتفاق وكأنه يعترف بحقيقة كانت تُدارُ في الظل، أنّ لبنان لا يمكن أن يقوم بدولة مركزية قوية، ولا يمكن أيضًا أنْ يتفكك بلا ثمن. فُرِضَ السقف من جديد، لكن بأعمدة أكثر تعقيدًا، وأكثر ارتباطًا بالتوازنات الإقليمية والدولية منه بإرادة داخلية واضحة.
أما الهوية اللبنانية نفسها فلم تستقر حول مرجعية وطنية واحدة. فهي ليست قاطرة تقود الدولة، بل ميدان مفتوح تتنازع عليه روايات متعددة. فهو تشكّل كنسق هجيني، يجمع بين انتماءات محلية وأطر ثقافية عابرة للحدود، ما يجعل الهوية مشتركة بالقدر نفسه الذي يجعلها قابلة للتشظّي. وحتى محاولة استحضار الفينيقيين لم تكن سوى رغبة في إنشاء رمز يوحِّد، من دون أن يتحول إلى سردية قادرة على بناء مؤسسات أو وعي جمعي ثابت.
وفي ظل ضعف الدولة، صعدت شبكات القرابة والطائفة والحزب لتكون بديلًا عنها. هذه الشبكات وفّرت الأمان اليومي، والوظيفة، والخدمة، والعلاج، وأحيانًا الخبز والكهرباء. ومع الوقت، صارت العلاقة مع الدولة علاقة رمزية أكثر منها عملية، بينما انتقلت العلاقة الفعلية إلى «المرجعية» المحلية. وبذلك، بقي السقف مشتركًا، لكن الغرف تحولت إلى بيوت صغيرة داخل البيت الأكبر.
يضاف إلى ذلك أن الموقع الجغرافي جعل لبنان ساحة تماس دائم. حدود مفتوحة على صراعات إقليمية، وجوار ملتهب، وتنافس بين قوى كبرى. التدخلات الخارجية لم تكن دائمًا عامل تفكيك؛ أحيانًا كانت ما يمنع الانهيار الشامل. لكن هذا البقاء المفروض من الخارج لم يترك مجالًا لبناء سقف داخلي متين، لأن كل محاولة لحسم الخيارات الوطنية كانت تصطدم بميزان القوى الإقليمي.
ومع كل ذلك، يستمر السؤال: كيف يبقى هذا السقف قائمًا برغم كثرة التصدعات؟
الجواب يكمن في مفارقة عميقة، اللبنانيون لا يجمعهم مشروع واحد، بل يجمعهم الخوف من أنْ لا يبقى لهم بيت أصلًا. فالسقف هنا ليس غطاءً ولا ضمانة، بل اختبار دائم لقدرة المجتمع على تجنّب السقوط في العراء.
يبقى المستقبل مفتوحًا على احتمالات متعددة، إصلاح تدريجي يعزز الدولة ويضعف الطائفية، أو استمرار الصيغة الهشّة كما هي، أو انهيار يؤدي إلى إعادة تشكيل عميقة للبيت ذاته. لكن فهم هذا المستقبل لا يبدأ من سؤال «من هم اللبنانيون؟» بل من سؤال «كيف يتعايشون؟» وما الذي يجعلهم يواصلون العيش معًا برغم كل هذا الاختلاف؟
إن البيت المتصدّع ما زال قائمًا. لا لأنه متين، بل لأن ساكنيه يدركون، بوعي أو بحدس، أنّ خراب البيت لا يعني بناء بيوت جديدة، بل يعني العراء. ولذا يبقى السقف، لا بوصفه اختيارًا مكتملًا، بل بوصفه ضرورة معلّقة فوق رؤوس الجميع، تنتظر لحظة قد تتحول فيها الضرورة إلى رغبة، والمساكنة إلى مواطنة، والظل المرتجف إلى وطن.
