عندما يدفع إقتصاد لبنان ثمن خيارات عون السياسية

لم يطل الزمن كثيرا عن 31 تشرين الاول/أكتوبر 2016 تاريخ دخول الجنرال ميشال عون الى قصر بعبدا بصفته رئيسا للجمهورية، حتى لمس العهد بخياراته السياسية التي تبناها على مدى عشر سنوات (2006 ـ 2016)، ان المهمة الرئاسية ستكون صعبة جدا.

معظم المؤشرات الدولية والعربية وتحديدا الخليجية التي واجهت بداية الولاية الرئاسية لميشال عون، قبل ثلاث سنوات، بيّنت وجود تعامل حذر، سياسيا واقتصاديا واستثماريا، وذلك على غير عادة تعامل الكثير من العواصم الغربية والعربية مع بداية عهد رئاسي جديد في لبنان.

هذه الحقيقة المرة واجهها الرئيس اللبناني منذ اليوم الأول، ولكن بجرعات متلاحقة، الأمر الذي بيّن أن سياسة حسن النوايا تجاه الآخر، وتحديدا الخليجي، لا تقابل بالمثل، لكنه، وبرغم تلك المؤشرات، كان عازما على كسر اعراف معتمدة منذ عقود.

كانت البداية من أول رحلة رئاسية يقوم بها الرئيس المنتخب حديثا إلى الخارج. إختار ميشال عون وجهة مختلفة، وبدلا من دمشق، حليفته منذ العام 2006، حطت الطائرة الرئاسية في الرياض، وتعمّد لمرة ثانية ترؤس وفد لبنان الى اعمال مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في مدينة الظهران السعودية، وزار معظم الدول الخليجية، باستثناء دولة الامارات العربية المتحدة، وذلك لظروف تتعلق بالقيادة الاماراتية وليس بالرئاسة اللبنانية.

عبّرت كل من دمشق وطهران مراراً عن إمتعاضهما من عدم تلبية الرئيس اللبناني الدعوات الرسمية المتتالية لزيارة هاتين العاصمتين، وصولا إلى فتح الباب أمام زيارة “الوزير الأول” جبران باسيل، ولكن رئاسة الجمهورية اللبنانية، حاذرت الإقدام على هكذا زيارات، برغم خطوطها المفتوحة مع هاتين الدولتين، مخافة أن تتحول هكذا خطوة ذريعة للضغط على لبنان، وصولا إلى إدراج أسماء محسوبة على العهد في لوائح العقوبات الأميركية.

لكأن القبول الدولي والعربي (على مضض) بتسهيل إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان الذي إمتد لسنتين وخمسة اشهر، لم يكن فاتحة صفحة جديدة مع عون، بل مقدمة لحصار مالي واقتصادي للبنان

كان اللافت للإنتباه أن هذا الحذر الرئاسي، أقله البروتوكولي، إزاء كل من دمشق وطهران، قوبل بواقع متدحرج لم يألفه لبنان من قبل، إذ تبين ان القرار الدولي ببعده الاميركي وبإمتداده العربي، يقضي بحصار لبنان اقتصاديا وماليا، “ليس لسبب، الا لكون من وصل إلى بعبدا، قد جاء من خارج إرادة هذه بعض عواصم القرار، لكأن القبول الدولي والعربي (على مضض) بتسهيل إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان الذي إمتد لسنتين وخمسة اشهر، لم يكن فاتحة صفحة جديدة مع عون، بل مقدمة لحصار مالي واقتصادي للبنان”.

ترجم ذلك بحظر سفر الرعايا الخليجيين الى لبنان، وبحراك لبناني قاده سفيرا السعودية والامارات في لبنان، خلافاً للأعراف الديبلوماسية، حيث راحت تتشكل جبهة سياسية في مواجهة العهد، “ترجمت بتعطيل معظم المشاريع الاساسية التي كانت تطرح في جلسات الحكومة اللبنانية برئاسة عون، وبحملة تحريض بلغت ذروتها مع واقعة إحتجاز رئيس حكومة لبنان (سعد الحريري) في الرياض في خريف العام 2017، ومرة جديدة، تحرك عون ومعه وزير الخارجية، بدعم من القوى السياسية الحليفة، فكان اوسع تحرك دولي، فرنسي تحديدا، فرض الافراج عن الحريري، واعادته الى لبنان حيث تراجع عن الاستقالة التي فرض عليه تقديمها من الخارج”.

منذ ذلك التاريخ، “صار الصراع مكشوفا”، وترجم ذلك بمواقف اطلقها ميشال عون من على منبر الامم المتحدة وجامعة الدول العربية إزاء ملفات حساسة مثل سوريا وفلسطين وقضية النازحين السوريين وصفقة القرن والتوطين وسلاح المقاومة في لبنان، ما زاد من منسوب الضغط المالي والاقتصادي على لبنان من خلال حظر بعض اللقاءات مع رئيس جمهورية لبنان ووزير الخارجية، في مناسبات دولية، وأيضا بفرض المزيد من العقوبات المالية على قيادات ووزراء ونواب من حزب الله وعلى مؤسسات اقتصادية وتجارية ومالية وشخصيات لبنانية بذريعة تمويلها لحزب الله”.

هل قرر عون المواجهة أم إطلاق المزيد من المبادرات؟

فتح رئيس الجمهورية الباب أمام محاولة إستنقاذ الوضعين الإقتصادي والمالي، وأعطى الضوء الأخضر لإنعقاد مؤتمر “سيدر” في نيسان/أبريل 2018. ذهب سعد الحريري إلى العاصمة الفرنسية، متتبعا خطى والده، محاولا الحصول على نحو 11 مليار دولار من القروض الميسرة والمخصصة لمشاريع حيوية في لبنان. وقتذاك،  قيل إن لهذا المؤتمر الدولي “أنيابا اقتصادية واصلاحية لا يمكن الافلات منها”.

مع توالي الايام والشهور، تبين انه يستحيل تسييل ولو دولار واحد من أموال “سيدر”، من دون مبادرة السلطات المعنية في لبنان الى اقرار اصلاحات هيكلية تتصل بوقف الهدر ومكافحة الفساد وحماية المالية العامة للدولة، وقد حاولت هذه السلطات كعادتها التحايل على التزاماتها عبر غرقها في مستنقع الخلافات السياسية الداخلية، وصولا إلى التلطي خلفها للقول للجانب الفرنسي إن الأمور تحتاج الى المزيد من الوقت لاقرار الاصلاحات، وبالتالي، لا بد من تسييل بعض مقررات “سيدر” سريعا، لمنع تدهور الوضعين المالي والإقتصادي، وكانت الصدمة برفض فرنسي مطلق عبّر عنه “المفوض السامي” الموكل اليه متابعة مقررات “سيدر” بيار دوكان الذي وصل به الامر الى حد تقريع المسؤولين اللبنانيين على اخلالهم بالتزاماتهم، وترافق ذلك مع تأجيل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زيارته الى لبنان لمرتين متتاليتين.

كيف يكون الحال مع وتيرة من الضغط الأميركي، ضد لبنان، ولو كان عنوانها حزب الله الذي لا وجود له ماديا في كل النظام المصرفي اللبناني؟

ومع ممارسة السلطة السياسية في لبنان “ترف اللامسؤولية”، صعّد الاميركيون ومعهم بعض دول الخليج، اجراءات الحصار ضد لبنان، “وهذه المرة، تم استهداف ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية، من خلال الايعاز الى رؤوس أموال محسوبة على إتجاهات سياسية مناوئة للعهد، بسحب الودائع من المصارف اللبنانية ونقلها الى الخارج، وهذا الامر نفّذ في شهر ايلول/سبتمبر الفائت، حيث بدأت أزمة السيولة في المصارف، وبدأت المعالجات الصامتة حتى لا تخرج الاسواق المالية عن السيطرة، وبالتالي فان أزمة السيولة هي سابقة للحراك الشعبي في الشارع، وما تسبب به الشارع هو كشف الغطاء عن ازمة مزمنة نتيجة سياسات نقدية مدمّرة ثبت انها لا تصمد عند اقل ازمة حقيقية يشهدها لبنان، فكيف يكون الحال مع وتيرة من الضغط الأميركي، ضد لبنان، ولو كان عنوانها حزب الله الذي لا وجود له ماديا في كل النظام المصرفي اللبناني؟

إقرأ على موقع 180  حتى لا نبقى مناضلين فايسبوكيين في زمن أشبه بالثمانينيات.. لنُحرر القضاء أولاً

ما الذي تخشاه السلطة السياسية ولم تصارح اللبنانيين به حتى الآن؟

تكمن الخشية في ورقة اذا أقدم الأميركي على إستخدامها، تكون النتيجة إنهيارا شاملا، وتتمثل في ان هناك كتلة من كبار المودعين الموجودين في الخارج، ممن  اودعوا مبالغ مالية كبيرة في المصارف اللبنانية، وهؤلاء يملكون الكتلة النقدية الاكبر من الودائع بالعملة الصعبة، واقل مودع لديه نحو 300 مليون دولار (ثمة حديث عن مودع خليجي واحد وضع قبل شهرين وديعة بقيمة 500 مليون دولار في أحد المصارف اللبنانية الكبيرة)، فاذا ضغطت عليهم الولايات المتحدة والدول التي تدور في فلكها السياسي، من أجل سحب هذه الودائع، ولم تستطع المصارف اللبنانية تلبية طلباتهم، سيبادر هؤلاء المودعون إلى تقديم دعاوى ضد المصارف اللبنانية التي ستصبح امام خيارين يوصلان الى النتيجة ذاتها، فإما الاستجابة وبالتالي فقدان جزء كبير من السيولة.. وصولا  إلى الاقفال، وإما التمنع عن الصرف أو التحويل، ما يؤدي إلى صدور احكام قضائية دولية باقفال المصارف الممتنعة ومصادرة كل موجوداتها.

هل يمكن أن نصل الى هذه المرحلة من المواجهة؟

قد يظن البعض ان الامر مبالغ فيه، ولكن ما يسرّب يوحي بأن واشطن ماضية في تصفية الحساب مع العهد، على قاعدة تدفيع لبنان أثمان خياراته بالمال والإقتصاد والدولار، وصولا إلى محاولة قلب الطاولة على رأس حزب الله، على أن يصار لاحقا إلى إنعاشه ببضعة مليارات من الدولارات، وعندها، تكون دول الخليج جاهزة للدفع، “بكبسة زر أميركية واحدة”، حسب قراءة أوساط لبنانية موالية للعهد.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ماذا تبقى من مبررات السعودية للتطبيع؟