برغم كل التوضيحات التي صدرت من مقر الرئاسة اللبنانية، في الساعات الأخيرة، لم تتراجع وتيرة حركة الإحتجاج التي عادت إلى الشوارع والساحات، وهذه المرة بدخول أحزاب سياسية واضحة الهوية على خط إستثمار الحراك الشعبي وجعل أولويته إسقاط رئيس الجمهورية ميشال عون، وهي النقطة التي كان قد حذر منها حزب الله منذ اليوم الأول لبدء الحراك، عندما أبلغ حليفه التيار الوطني الحر أن القبول بإزاحة جبران باسيل سيمهد الطريق أمام بعض المكونات السياسية، (وليس الحراك) للمطالبة بإسقاط رئاسة الجمهورية ومن ثم مجلس النواب، وربما تذهب المطالب، عند البعض سياسياً، أبعد من ذلك بكثير.
تكفي تجربة التفاوض مع رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري على مدى أكثر من أسبوعين للتدليل على هذه النتيجة. عمليا، صار الحريري هو الناطق بإسم الحراك في “بيت الوسط” ويتحدث مع حزب الله بوصفه السلطة السياسية التي حكمت البلد وأمسكت بمفاصلها الإقتصادية والمالية والإستثمارية طوال ثلاثة عقود من الزمن، بينما كان الحريري هو رأس حربة المعارضة في كل هذه الحقبة من تاريخ لبنان.
بعد سلسلة جلسات ثلاثية، عقدها كل من المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل مع الحريري، وآخرها يوم السبت الماضي، بدا أن رئيس الحكومة المستقيل مربك وضائع. يقول الشيء وعكسه. يتحدث بإسمه وأحيانا بلغة لا تشي بكل خطابه السياسي في السنوات الثلاث الأخيرة. هل هو مقيد بإعتبارات خارجية أو داخلية لا يعلن عنها، أم أنه يعبر عن قناعاته السياسية البحتة؟ يشترط الحريري، في بداية المفاوضات، ألا يكون جبران باسيل في أية حكومة برئاسته، وعندما يزروه باسيل يقول له إنه لا مشكلة شخصية بينهما وأنه لا يضع “فيتو” على توزيره.
سرعان ما ينقلب المشهد. يعود الحريري إلى المربع ذاته. لا صحة لما يقال أنني لا أريد تمثيل حزب الله سياسياً في الحكومة، ولكن الأولوية عندي هي لإبعاد جبران باسـيل “إذهبوا وإقنعوه بذلك”. طبعا لا يتجاوب “الخليلان” مع مطلبه ويؤكدان أمامه بصريح العبارة “إذهب وتفاهم معه. فأهل مكة أدرى بشعابها”. الرجلان صاغا التسوية التي أمنت وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وسعد الحريري إلى السراي الكبير، فلماذا صار مطلوبا من غيرهما أن يعدل ما كتب أو ما عقد من تسويات تحت الطاولة وفوقها؟
فجأة يطلب الحريري أن يتنحى. تُحترم إرادته. تمر ساعات ثقيلة. يبدأ البحث عن بديل. يتلقى الحريري إتصالا من أحد من وقع عليهم الخيار من بين أكثر من مرشح لرئاسة الحكومة. يطلب الحريري ممن يراجعه من خارج لبنان أن يعتذر عن المهمة. يشي المضمون بأن الحريري “بدو ياها وتفوه عليها”. يربك الآخرين. طارت وظيفة المقابلة الرئاسية لميشال عون مع الزميلين سامي كليب ونقولا ناصيف، والتي كان سيعلن فيها عن موعد الإستشارات النيابية وبدء رحلة البحث عن بديل للحريري. تعود الأمور إلى مربع الحريري الراغب بالشيء وعكسه. تعج دارة رئيس تيار المستقبل بالزوار، كما حشد السفراء والمتربصين أو الطامحين للمقعد السني الأول.
إنتقل الجميع إلى مربع البحث عن بديل للحريري، بعدما سقطت معادلة “حكومة من صنع سعد الحريري وحده من ألفها إلى يائها”. الأمور عالقة في هذه اللحظة عند “نون الجماعة”
آخر الوصفات الحريرية. نعم أريد أن أكون رئيسا للحكومة لكن “أتركوني أؤلف الحكومة على طريقتي”. ما هي الطريقة الحريرية؟ لا أحد يعرف مضمونها. يطلب الرجل عمليا من كل المكونات السياسية أن تفوضه قرارها وصلاحياتها وأن تخلع ثيابها وأن تضع كل أوراقها بعهدته. ما غفل الحريري عنه أن أزمة الثقة به تتعاظم سواء من داخل بيته السياسي الذي يزداد ضياعا وإرباكا أم من باقي القوى السياسية وتحديدا حزب الله والرئيس نبيه بري. في المعادلة السياسية اللبنانية الراهنة، لا أحد يمكنه أن يتصرف كمنتصر. لكن ليست هذه هي حال سعد الحريري. فالرجل، لا قناعة لديه بأن الخسارة وقعت وأن الكل خاسر بنظر كل الناس وجمهوره أولا. إذا إقتنع بالخسارة، تصبح القاعدة المشتركة بين الجميع هي الحد من الخسارة وليس تحقيق أرباح بـ”الزعبرة” أو الإستثمار على ظهر الحراك الشعبي أو “سيدر”.
في هذه اللحظة، إنتقل الجميع إلى مربع البحث عن بديل للحريري، بعدما سقطت معادلة “حكومة من صنع سعد الحريري وحده من ألفها إلى يائها”. الأمور عالقة في هذه اللحظة عند “نون الجماعة”: “نبحث عن شخصية مقبولة سوية”، كما يريد الحريري أو “نبحث عن شخصية مناسبة للمرحلة” كما يريد ميشال عون؟
في هذه اللحظة أيضا، يقول الحريري بلسان مصادره: “موقفي معروف وجرى ابلاغه لكافة الشركاء، وهو يقضي بتشكيل حكومة اختصاصيين تتصدى للملف الاقتصادي والمالي وفقاً لاجندة زمنية لا تتجاوز ستة اشهر، لكن هذا الاقتراح اصطدم بمعارضة جهات سياسية اخرى بينها قصر بعبدا والتيار الوطني الحرّ”. تضيف “أما بالنسبة لترويج فكرة الاعتذار، فإن الاعتذار يرتبط بالتكليف ولم يتم تكليف الرئيس الحريري حتى يعتذر، انما هو يرفض ان يكون على رأس حكومة تستنسخ الحكومة المستقيلة مع بعض التجميل”.
عملياً، عادت الأمور إلى نقطة الصفر، وباتت الإستشارات النيابية التي كان ينوي عون الدعوة إليها غداً الخميس بحكم المؤجلة إلى موعد آخر، إلا إذا فاجأ الحريري الجميع بـ”صحوة” جديدة لرئاسة الحكومة. لكن يبدو أن زمن “الصحوات” إلى أفول!