عندما يصبح سعد الحريري ووليد جنبلاط جزءا لا يتجزأ من الحراك الشعبي، يصبح السؤال: هل كان تيار ميشال عون او حزب الله جزءا من منظومة فساد سلطوية حكمت لبنان طوال ثلاثة عقود من الزمن، بالتحديد منذ خريف 1992، بينما كان الآخرون كلهم في مقلب المعارضة؟
لا يأتي طرح السؤال لإعفاء حزب الله أو الرئيس عون من المسؤولية. فالخسارة وقعت على الجميع. البلد كله خاسر بالمعنى السياسي والإقتصادي والمالي والاجتماعي، وهذا يعني أننا في زمن يصح فيه القول أن المكسب عبارة عن حد من خسارة واقعة، لا أكثر ولا أقل.
أما وأن رئيس الجمهورية قرر أن يخاطب اللبنانيين، هل كان بمقدوره أن يقدم خطابا مختلفا؟
لرئيس الجمهورية أن يقدم خطابا وجدانيا إلى اللبنانيين، يعرض فيه رحلته من حارة حريك إلى قيادة الجيش مرورا بمدرسة الفرير. ابن طبقة وسطى، مشبع بالأفكار الوطنية. يدخل إلى المدرسة الحربية. تندلع الحرب الأهلية، فتكون عائلته في طلائع المهجرين إلى شطر العاصمة الشرقي. عاشت عائلته ظروفا قاهرة، مثلهم مثل مئات آلاف اللبنانيين الذين صمدوا في بلدهم. قضىت العائلة أياما صعبة في الملاجىء في غرفة كانت تجمع العائلة كلها. الأولاد ينامون “كعب وراس”. كان بمقدوره أن يشرح ظروف وصوله إلى رئاسة الجمهورية. أن يفسر حرصه على المال العام وأن خياراته السياسية، ولا سيما في العام 2006، منعت تكرار تجربة عزل الكتائب العام 1975. وقبل أن ينهي المقابلة، كان بمقدور الرئيس ميشال عون أن يخاطب اللبنانيين بصريح العبارة بالآتي:
“أيها اللبنانيات واللبنانيون، كلنا أخطأنا مع شعبنا. أخطأنا عندما قررنا أن نستمر بالخيارات الإقتصادية والمالية والإجتماعية التي بدأت عام 1992، بينما كان يمكن أن ننقل بلدنا إلى إقتصاد منتج. أخطأنا عندما سمحنا لبعض الإنتهازيين أن يتسللوا من خرم التسوية السياسية لإبرام جدول أعمال إستثماري لا حدود له، من الكهرباء والإتصالات والبلوكات النفطية والفيول والهندسات المالية والاشغال والتربية و…. نعم أخطأنا عندما إلتهينا بالمناكفات وبالأوزان في الحكومات وتلزيم الحقائب الوزارية الخدماتية. أخطأنا عندما حاصرنا القضاء وكبلناه وفرضنا جدول أعمال على المؤسسة العسكرية لا يمت بصلة إلى تاريخها. وأخطأنا عندما إعتمد البعض الخطاب الطائفي والمناطقي والعنصري، فتبين لنا أن الجمهور الشبابي ليس طائفيا بل وطنيًا بامتياز، وأن من يستفيد من هكذا خطاب هم غلاة التطرف في كل شوارع لبنان. وأننا أخطأنا لأننا سمحنا للأحزاب بمصادرة التعيينات والوظائف والمكاسب، وأخطأنا عندما قبلنا السير بقانون انتخابات ينتج اوليغاركية تحكم البلد من دون رادع وعلى حساب اللبنانيين جميعًا، بينما كان بمقدورنا إعتماد قانون أكثر عدالة ويسمح لكل المكونات والجماعات اللبنانية ان تتمثل في البرلمان والحكم. كان بإمكاننا ان نعتمد مثلا، قانون لكل ناخب صوت واحد(one person one vote). لا يمكن ان يحكم لبنان المتنوع والمثقف والواعي من قلة تصادر تمثيل نوابهم ووزرائهم”.
ولا ضير أن يعترف رئيس الجمهورية بأنه أخطأ عندما قبل بتوزير “عباقرة” في حكومات عهده. هكذا عبقريات راسخة في البنيان السياسي والإقتصادي اللبناني منذ دولة لبنان الكبير حتى يومنا هذا
كان بمقدور رئيس الجمهورية أن يقول “إن الثورات يخطط لها عباقرة وفلاسفة ويفجرها وينفذها مجانين وثوار وشجعان ويقطف ثمارها ونتائجها الانتهازيون. أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع، هم من الفئة الصادقة في التعبير عن منسوب وطنيتها وحرصها على مستقبل بلدها وعلى صمود المقيمين وتوق الأجيال المهاجرة للعودة”.
ولا ضير أن يعترف رئيس الجمهورية بأنه أخطأ عندما قبل بتوزير “عباقرة” في حكومات عهده. هكذا عبقريات راسخة في البنيان السياسي والإقتصادي اللبناني منذ دولة لبنان الكبير حتى يومنا هذا. كان عليه ان يفرض على أوليغاركية البلد ان يختاروا من اللبنانيين أحسنهم لكل وظيفة ومركز، لا ان ينصبوا أزلاما ينقصهم العلم والكفاءات لتقوية قاعدتهم وحزبياتهم.
لرئيس الجمهورية أن يصارح الناس بأنه كان يمكن لهذه المدرسة “العبقرية” اللبنانية أن تعبّر عن مصالحها بطريقة مختلفة، أقله من أجل الحفاظ على نموذجـها. لكن طمعها وجشعها ونزقها جعلها توصل “النموذج” إلى ما وصل إليه من عجز، وأنه لولا سلوك هؤلاء “العباقرة” (وثمة نماذج كثيرة منهم في كل الأحزاب والتكتلات وفي القصر الجمهوري والسراي الكبير حتى)، لما وصلنا إلى هذه اللحظة الصعبة.
كان على رئيس الجمهورية أن يعترف أقله بوجود فورة شعبية تمتلك كل مقومات ومواصفات الثورة البيضاء.
المؤسف أن أهل السلطة، ومن دون إستثناء، لم ينم سلوكهم عن شعورهم بنبض شعبهم. التاريخ يعيد نفسه يا فخامة الرئيس. اتذكر ما حدث من ايلول/سبتمبر 1988 الى تشرين الاول/أكتوبر 1990؟ ألم يكن نبض جماهير “قصر الشعب” مختلفا عن نبض الطقم السياسي الذي كان يحكم “جمهوريات” لبنان؟ الم تقف جماهير الشباب اللبناني الحر في كل تلك الجمهوريات الى جانبكم؟
لم يفت الأوان. بقي من عهد فخامتكم نصفه، وكما يقال بالإنكليزية، it is never too late.
(*) سفير لبنان الأسبق في واشنطن