“المارونية السياسية”: نهاية البشيرية وإستمرار وَرَثة “الأحلام” (4)
Phalangist Forces Leader Bashir Gemayel (Photo by Alain Dejean/Sygma via Getty Images)

بإنقضاء الشهابية، تبدأ رحلة "المارونية السياسية" إلى نهايات كانت احتمالاً. ما رجّحها هو قبول طوعي بإتفاق القاهرة وإباحة السلاح الفلسطيني واهمال المطالب الاصلاحية وصولاً إلى انفجار حرب لبنان. كان المحظور إستدعاء اسرائيل الى بيروت ليصل على دباباتها الى سدة الرئاسة بشير الجميل "الأزعر" على ما كان يسميه الياس سركيس الوريث الثاني للشهابية بعد شارل الحلو.

تعفُف فؤاد شهاب المشروط عن التجديد لولاية ثانية، على “فضيلته”، إنما شكّل بداية مخاض لبناني عسير. سيحل وريثاً له شارل حلو المثقف الفرنكوفوني الفاقد للحزم في لحظات عصيبة. المخاض تراوح بين قومية محلية يمينية وصعود السلاح الفلسطيني بعد اتفاق القاهرة، وانقلاب حافظ الأسد في سوريا عام 1970 وتبنيه سليمان فرنجية المتواري، رئيساً للجمهورية، غداة مجزرة كنيسة مزيارة.

تلبدت الغيوم السياسية والأمنية في سماء لبنان، مقابل رفض “المارونية السياسية” الإصلاح بذرائع ومخاوف شتى (خطر العالم العربي والإسلامي وخطر اليسار الدولي”. استنفرت كل عصبيتها بينما توالى شارل حلو والياس سركيس على إدارة الأزمة. قامت الجبهة اللبنانية مقابل مطالب الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. وسط ضوضاء السياسة وتصدع بنيان الدولة الهشة، كانت ظاهرة بشير الجميل تشق طريقها بالدم المتنقل والشعارات الفضفاضة لتعلن دفن الصيغة. ذهب بشير أبعد من ذلك. وصل حد فتح قنوات مع اسرائيل. كثّف من لهجة العداء إزاء “الغريب” الفلسطيني والسوري.

قيل الكثير بشأن بشير الجميل في الشكل والمضمون وفي اللحظة. لكن في الواقع لم يكن بشير أكثر من “حلم مسيحي”. انتهى “الحلم” وتحول إلى “كابوس” بعبوة. فالزعيم الشاب والشرس قتله عنصر من الحزب القومي السوري الاجتماعي في مركز حزب الكتائب بالأشرفية. أشرفية “البداية”.. وأشرفية “الحكاية والنهاية” صارت. مقتل بشير أظهر أن خطاب القوة الذي فاض بالوهم في الشارع المسيحي ليس إلا فقاعة. وان كسر المحرمات في ميدان صراع الدولة والأمم والأجهزة المتخاصمة في بيروت لا يفضي إلا إلى الجحيم.

كان اغتيال بشير الجميل لحظة الانكسار الأولى. بينما كانت واقعة 13 نيسان/ابريل 1975 لحظة الانفلات الأمني الذي إحتاجه الإقليم متنفساً. وعلى الرغم من الحديث عن صرامة بشير الجميل في الأيام القليلة التي تولى فيها السلطة، لم تنجح تجربته في انتاج جديد لـ”المارونية السياسية”. لم تكن البشيرية قادرة على الاستمرار بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982. تماماً مثلما لم تكن الشمعونية قادرة على الاستمرار طويلاً بعد حرب السويس عام 1956. ومثلما لم تكن الشهابية قادرة على الاستمرار طويلاً بعد حرب 1967. نهاية البشيرية علامة على احتضار الدولة اللبنانية التي نظّرت لها “المارونية السياسية” وعلى تصدع البنيان المسيحي السياسي.

بعضهم أراد “سياسة المارونية” لا “المارونية السياسية” على ما ذهب الأباتي شربل قسيس. في الحالتين، سيكون هذا العنوان سبباً أصلياً لإنفجار البلد. وهو نفسه سيولد “سنية سياسية”، و”شيعية سياسية”، و”درزية سياسية”

ورثة بشير كانوا مجموعة من قادة الحرب. منهم سمير جعجع الذي يعتبر نفسه وريث “الحلم” وسار على درب الحروب وتوحيد البندقية وصولاً إلى يومنا هذا وإشهاره أنه تجاوز بشير حضورا وقوة ونفوذاً وتخطيطاً. كذلك كان ميشال عون في الجيش، وان خالط محيطه صورته بصورة مركبة من شمعونية معطوفة على بشيرية. وحتى في الكورس السياسي للقوات والعونية هناك المئات من البشيريين. السقطة الدائمة لمعظم هؤلاء (الامر لا يختلف عند المسلمين) في الاندفاع للاستعانة بالأغيار. والاستعانة هنا وسيلة للسيطرة على الحكم. ومشكلتهم في الاستعانة أنهم يحددونها بأهداف برغماتية من دون النظر الى التداعيات المستقبلية أو ردات الفعل أو النتائج.

هم يستعينون بالاغيار الى حين انتهاء المهمة. يتصرفون مع الاغيار وكأنهم نفذوا واجبات وانتهى دورهم. هذه النظرة الطفولية في السياسة برزت في أيام مناوشات الموارنة مع الدروز في القرن التاسع عشر. يومها استعانوا بالوالي المصري ابراهيم باشا ظنا منهم انه يعمل خادما عندهم. والامر نفسه حين استعانوا بالجيش السوري في حرب السنتين. وكذلك مع الجيش الاسرائيلي في العام 1982 ولقاء نهاريا مع مناحيم بيغن الذي ذكر بشير بأن الجيش الاسرائيلي يحتل بيروت وليس جيش القوات هو من يحتل تل ابيب. الآن، قرر زعماء الموارنة أن يكونوا أكثر عدالة: جبران باسيل حليف إيران بلا تحفظ وسمير جعجع تفوق على سنة لبنان بالولاء لسعودية محمد بن سلمان وإمارات محمد بن زايد.

كل هذه السياسات كانت نتائجها وخيمة وكارثية (طبعا الطوائف الاخرى لها ولاءاتها وكوارثها). مع سقوط بشير ومن ثم الانكسار الاشد مرارة في حرب الجبل (1983)، توقف المسيحيون عن متابعة دور التحديث الذي أدّوه تاريخياً. الحروب التي خاضها الموارنة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، انهكتهم وانهكت البلد و”الآخر”، فكان أن ذهب من بقي من نواب أمة برلمان 1972 لتوقيع اتفاق أعطى المسلمين نصيباً وافراً من السلطة على حساب المسيحيين. أكثر ما يصوّر بشاعة تلك الحقبة وويلاتها على “المارونية السياسية” كان في ما جاء بالمجمع البطريركي الماروني بين العام 1982 والعام 1990 “قُتِلوا وقَتلوا وتقاتلوا”.

وعلى هدى غيرها من الطوائف، تسير “المارونية” في السياسة. ستحمل لقب “المارونية السياسية” ليزهو بها قادتها ورموزها. بعضهم أراد “سياسة المارونية” لا “المارونية السياسية” على ما ذهب الأباتي شربل قسيس. في الحالتين، سيكون هذا العنوان سبباً أصلياً لإنفجار البلد. وهو نفسه سيولد “سنية سياسية”، و”شيعية سياسية”، و”درزية سياسية”. قبل الإنفجار سيجهد رواد “المارونية السياسية” في نسب فضائل لبنان الدولة الناشئة إليهم. يحتفلون بمئوية لبنان الكبير بوصفه حقاً حصرياً. ينزعون عن الدروز شراكة الطائفة المؤسسة. الحلم الرئاسي يحوّل زعاماتهم بيادق في بلد تراجعت فيه الديموغرافيا المسيحية ومعها الدور التاريخي. يعتبرون بديهيات الدولة أشبه باختراعات يحوزون حقها الحصري. يرذلون كل آخر. زعماؤها دائماً مثار التباس في الأدوار. يدخلون سدة الرئاسة الأولى بشيء من الانفتاح على المسلمين. ويخرجون منها بكثير من الانغلاق على الطائفة وعلى الذات. وحده بشير الجميل سيكون استثناءً على القاعدة، فقد دخل بمسيحية سياسية مُفرطة وقٌتل وهو يحاول الإنفتاح على المسلمين. لكن المفارقة أن غالبيتهم سيشقون دروب الزعامة بالدم. ومن لم يفتتح أطوار صعوده بالدم مثل بشير الجميل سيدير أزمات الدم الطائفي. هذا كان حال سليمان فرنجية وشارل حلو والياس سركيس.. وصولاً إلى ميشال عون الذي صعد إلى كرسي الرئاسة بتفاهم معراب وبتسوية مع المسلمين فلم يكد يصل إلى السنة الرابعة حتى فتح حروبا سياسية مع كل الطوائف!

إقرأ على موقع 180  برلمان لبنان العراقي.. إلى الفراغ دُرْ!

الأشد وطأة في التعبير عما انتهى إليه حال المسيحيين عموماً والموارنة منهم خصوصاً هو ما جاء في رسالة البطريرك الراحل نصرالله صفير إلى عون وجعجع في 4 نيسان/أبريل 1990، إذ ورد فيها “إذا كنتما تعجزان عن الإتفاق، فإن واجبنا الضميري أيضاً يُملي علينا أن نقول لكما بمحبة وإخلاص، إن استمراركما في تحمل المسؤولية هو إستمرار لتهديم الوجود المسيحي في لبنان وعمره ألفا سنة وبالتالي تهديم الكيان اللبناني. إن مصير المسيحيين لا تقرره بندقيتان متقاتلتان تنشران الذعر والموت والدمار، بل عقولهم وتضامنهم وإخلاصهم الوطني..”. كانت هذه الرسالة إيذاناً بنهاية مرحلة وتدشين أخرى.

لقد بلغت “المارونية السياسية” خريف العمر باكراً. صراعاتها، ولا سيما الداخلية، اوصلتها الى الأرذل من العمر. لذا ذهبت الى الطائف لتوقع اصلاحات لو كان ان استجابت لها في السبعينيات لوفرت على البلد الكثير من الدم. ولحالت دون الاكثر من الكراهيات المستترة والمُقنعة، لكن بعض قادة الموارنة ما زالوا يرفضون مغادرةَ تاريخٍ.. تجاوزهم منذ زمن بعيد.

اكثر الجدالات عنفاً هي التي تدور حول أمور ليس لها أدلة جيدة تثبتها أو تنفيها. على ما يقول برتراند راسل. إذا كانت “المارونية السياسية” فشلت جراء نقص مناعة وطنية لبنانية عامة وعابرة. فان الاسلام السياسي السني والشيعي والدرزي، بعد الطائف، فشل أكثر بـ”فائض الوطنية والقومية” الذي سكت عن نفي وسجن قادة الموارنة.. وتهميش الدور المسيحي في لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  هواجس "الترسيم".. ولـ"السيد" أن يُجيب!