وفق آخر الاحصائيات التي نشرتها صحيفة “النبأ” الصادرة عن ديوان الاعلام المركزي التابع لـ”داعش”، تأتي الأراضي السورية في مقدمة المناطق التي تشهد ارتفاعاً في منسوب عمليات التنظيم. ففي الأسبوع الممتد بين يومي 15 و 21 من الشهر الحالي، نفذ مقاتلو “داعش” 22 عملية مختلفة في سوريا وهو ما يمثل على سبيل المثال ضعف عدد العمليات التي نُفذت في العراق خلال الفترة ذاتها، والتي بلغت 10 عمليات فقط، بينما لم يزد العدد عن 5 في كل من غرب أفريقيا وسيناء.
من شأن ذلك أن يسلط الضوء على حقيقة أن “داعش” ما زال يعتبر سوريا والمحافظات الشرقية منها حصراً الميدان المفضل لديه لممارسة نشاطه. ولا يقلل من أهمية هذه الملاحظة أن مردود عمليات التنظيم في سوريا برغم كثرتها، أقل من مردود مثيلاتها في الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، فإن اربع عمليات نفذها التنظيم خلال الأسبوع الفائت في غرب أفريقيا أسفرت عن 72 قتيلاً وجريحاً، بينما 22 عملية في سوريا لم تسفر سوى عن 41 قتيلاً وجريحاً، وهو ما يعني أن كل عملية في غرب أفريقيا تتسبب بحوالي 18 إصابةً، بينما لا تتسبب نظيرتها في سوريا إلا بإصابتين، وهو تفاوت كبير قد يغير من الصورة إذا كان المعيار هو عدد الاصابات وليس عدد العمليات.
“داعش” ما زال يعتبر سوريا والمحافظات الشرقية منها حصراً الميدان المفضل لديه
وعلى الرغم من أن سوريا كانت تحتل على الدوام إحدى المراتب الثلاث الأولى في نشاط التنظيم، تشير إحصائيات الأسابيع الثلاثة الأخيرة إلى أن سوريا بدأت تحتل المرتبة الأولى بدون منازع، وتحديداً منذ اغتيال زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي في إدلب. وتأكيداً لذلك فإن إحصائيات الأسبوع الذي قتل البغدادي خلاله، كانت تشير إلى تصدر العراق لقائمة الدول الأكثر نشاطاً للتنظيم حيث سجلت 33 عملية مقابل 23 عملية فقط في سوريا.
لماذا سوريا؟
السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تشهد الأراضي السورية وخصوصاً شرق الفرات هذا التزايد في نشاط التنظيم في حين من المفترض أن تكون هذه المنطقة هي الأكثر أماناً نتيجة احتشاد قوات وقواعد تابعة لأربعة جيوش فيها؟
وأصبحت منطقة شرق الفرات بحكم الأمر الواقع موزعة إلى أربعة مناطق نفوذ رئيسية تتقاسمها قوات تابعة لأربعة جيوش هي: الجيش الأميركي الذي يسيطر على ما يسميه “مناطق النفط” وهو مساحة شاسعة تمتد بين محافظتي الحسكة وديرالزور من شرق القامشلي والمالكية شمالاً إلى الباغوز جنوباً. والجيش الروسي الذي ورث عدة قواعد عسكرية كانت تتواجد فيها القوات الأميركية قبل انسحابها منها وأهم هذه القواعد متواجدة في عين العرب والقامشلي ومنبج. ثم يأتي الجيش السوري الذي انتشر بموجب اتفاق مع قوات “قسد” على طول 300 كيلومتر من الحدود السورية – التركية. أما الجيش التركي فقد أتاحت له عملية “نبع السلام” السيطرة على المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض وبعمق 30 كيلومتراً. كما أن تفاهم سوتشي بين موسكو وأنقرة أعطى الجيش التركي صلاحية القيام بدوريات مشتركة في مناطق من الشريط الحدودي بعمق 10 كيلومترات.
هذا الاحتشاد الاقليمي والدولي في منطقة شرق الفرات قد يكون هو السبب الرئيسي في ازدياد نشاط التنظيم وذلك لعدة اسباب أهمها:
• لأنه يؤدي إلى تسهيل حركة قيادات وعناصر التنظيم حيث كل طرف لا يمانع في انتقال هؤلاء إلى الأراضي التي يسيطر عليها طرف آخر من باب رمي الشر على الأعداء. كما أن بعض الأطراف قد تجد من مصلحتها في هذه المرحلة ترك الباب موارباً أمام نشاط التنظيم سواء نتيجة قدرتها على توظيف هذا النشاط لمصلحتها وضد خصومها أو لرغبة طرف آخر في استغلال هذا النشاط إعلامياً لتخويف حلفائه من “بعبع داعش” أولاً ولتشويه صورة خصومه ثانياً باعتبار أن تحركاتهم العسكرية هي التي تركت الباب مشرعاً أمام نشاط التنظيم.
• إذا كان “داعش” يصنع الفوضى، فإن الفوضى بدورها هي المغناطيس الذي يجذب “داعش” إلى المناطق التي تتفشى فيها. وتعتبر منطقة شرق الفرات من أكثر المناطق التي تشهد عدم استقرار في أوضاعها العسكرية والأمنية. وتكرس هذا الواقع نتيجة التغير السريع في سياسات الولايات المتحدة وانتقالها من الانسحاب الشامل إلى احتلال مناطق النفط من دون تنسيق مع باقي اللاعبين المؤثرين في المنطقة. كما لعبت الغزوة التركية لمناطق شرق الفرات دوراً رئيسياً في إشاعة أجواء الفوضى. وقد يكون الأخطر أنها فاقمت من حالة الصراع وعمقت من واقع تضارب المصالح مع أفرقاء آخرين، ما خلق كوّة يمكن لتنظيم “داعش” التسلل منها اعتماداً على رغبة بعض الأطراف في إعادة توظيفه كأداة لازمة للقيام ببعض المهمات القذرة.
• تعتبر منطقة شرق الفرات منطقة حيوية بالنسبة لتنظيم داعش لأنها تشكل جسراً حدودياً بين العراق وسوريا وهو ما يحتاجه التنظيم لضمان التنقل بين البلدين. ولأنها كذلك تضمن له موطئ قدم بالقرب من الحدود التركية التي يمكن استخدامها في عدة أغراض. ولكن الأهم هو أن التنظيم يعتبر أن بعض المناطق والبؤر في سوريا مرشحة أكثر من غيرها لسيناريوات الفوضى التي قد تشكل مطية لعودته ولا سيما منطقة إدلب لخفض التصعيد التي قتل فيها زعيمه السابق أبو بكر البغدادي، لذلك يحرص على اختراقها والسعي للبقاء قريباً منها.
ما هي أولويات داعش؟
هذه الخارطة المعقدة للانتشار العسكري لأربعة جيوش تتنافس في ما بينها، تضع قيادة التنظيم أمام تحديات كبيرة تتطلب منها دراسة الواقع بكل تفاصيله ودقائقه بغية إيجاد سبيل لتفادي مخاطر هذا الواقع عليها ومحاولة تحويل بعض مصاعبه إلى فرص تمكنها من إحراز بعض المكاسب.
ويجد تنظيم “داعش” صعوبة بالغة في مواجهة ثلاثة جيوش هي الجيش الأميركي والروسي والسوري كونها تمثل بالنسبة إليه جداراً صلباً يصعب فتخ ثغرة فيه. وفي أحسن الأوقات فإن عملية التخادم الممكنة مع أحد هذه الجيوش وهو الجيش الأميركي ستكون بطريق واحد فقط هو طريق ذهاب من دون أن يعود أيّ مردود على “داعش”. لذلك من البديهي أن تتجه أنظار الأخير نحو المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي والفصائل الموالية له باعتبارها الأسهل من ناحية الاختراق والتي يمكن الرهان على العمل عليها لبناء مداميك تخادم متبادل، وهو ما ينذر بإمكانية إعادة فتح بعض قنوات التواصل بين قيادة “داعش” وأجهزة الاستخبارات التركية من أجل إحياء بعض جوانب العلاقات المشبوهة التي جمعت بين الطرفين خلال مرحلة صعود التنظيم.
من البديهي أن تتجه أنظار “داعش” نحو المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي والفصائل الموالية له
وإلى جانب القضايا التنظيمية المتعلقة بإعادة هيكلة التنظيم بعد مقتل زعيمه السابق، ومتابعة أمور المبايعات وعلاقة التنظيم مع فروعه في الخارج، وكذلك بعض القضايا المالية المتعلقة بربط الزعيم الجديد بالشبكات السرية التي تتولى إدارة أموال التنظيم، يبدو أن تركيا والنقاش حول كيفية التعامل معها، وهل هي طرف محايد يمكن الاستفادة منه أم عدو ينبغي تحييده أم أنها لا تختلف عن غيرها وبالتالي يجب التصعيد معها، تشكل جميعها هواجس اساسية باتت تشغل بال قيادة التنظيم الجديدة، وتشهد انعقاد اجتماعات حادة في مجالسه الأمنية والشرعية من أجل حسمها، حسب ما قال لـ”180” مصدر كانت له تجربة قيادية مع التنظيم قبل انشقاقه عنه مؤخراً بسبب خلافات عقائدية.
وعلى الأقل هناك تريث واضح من قبل التنظيم في تحديد موقفه من الإشكالية التركية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من ورود مبايعات لزعيم التنظيم الجديد من جميع فروعه الخارجية باستثناء فرع وحيد هو “ولاية تركيا” التي أعلن عن إنشائها في آخر ظهور علني للزعيم السابق.
ويتناقض تخلف الفرع التركي عن إعلان البيعة مع معلومات تقول أن الزعيم الجديد للتنظيم أبي ابراهيم الهاشمي (في حال كان هو نفسه حجي عبدالله) كان يعتبر من أشد المناوئين لتركيا داخل “داعش”. وقاد حجي عبدالله في السابق محاولات عديدة لإقناع قيادة التنظيم بتدمير ضريح سليمان شاه مؤسس الدولة العثمانية الذي كان متواجداً بالقرب من مدينة منبج قبل نقله إلى مكان آخر، بحسب معلومات كشف عنها حساب “مزمجر الشام” على تويتر المعروف بتسريباته عن الجماعات الجهادية.
وسواء صحت هذه المعلومات أم لم تصح، فإن غياب البيعة التركية للزعيم الجديد من شأنه أن يثير العديد من التساؤلات حول أسبابه وخلفياته، خاصة أنه يأتي في ظل حملة أمنية تقوم بها أجهزة الأمن التركية للقبض على عناصر داعش وترحيلهم.
لن يكون من السهل حلّ هذا اللغز الذي يكتنف علاقة “داعش” مع تركيا، ولا تفسير لماذا تشكل تركيا دائماً، استثناءً في أجندة التنظيم يدفعه إلى قياس علاقته معها بالسنتيمترات حتى في الحالات التي تشهد فيها هذه العلاقة تدهوراً ملحوظاً وانزلاقاً نحو العداء.
وسواء كان الدافع وراء تأجيل أو إلغاء البيعة التركية هو التريّث أو الضعف، فمن الواضح أن الإشكالية التركية هي إحدى الأولويات التي سيسعى “داعش” إلى حسمها سواء سلباً أم إيجاباً نظراً لما تمثله من ثقل عسكري وأمني من جهة، ولما تنطوي عليه من دلالات ومؤشرات على التوجهات العقائدية للتنظيم بعد مقتل زعيمه السابق. فهل سيستقر رأي القيادة الجديدة على اعتبار تركيا عدواً كما كان رأي البغدادي قبل مقتله أم أن المتغيرات الأخيرة والتعقيدات التي تحيط بالمنطقة ستطوي صفحة “ولاية تركيا” حتى قبل أن تقوم بأي نشاط، وتعيد وضع العلاقة بين الطرفين على سكة التخادم المتبادل؟