عن دولة عظمى.. لكن بتقارير صغرى!

منذ النزول الأميركي الى البر الأسيوي في مطلع القرن الحادي والعشرين، دخلنا حقبة عصر الفوضى. فوضى سُرعان ما تعولمت بفضل الميديا والسوشيل ميديا الجديدة. يستطيع أي مواطن ولو كان يقيم في غابة معزولاً عن العالم أن يصبح وكالة أنباء. دقة الخبر تفصيل. المهم التعميم. إنتفت الحدود الفاصلة بين الحقيقة والشائعة أو الكذبة.

بين مصالح دولية معقدة واقتصادات منهكة ومجتمعات مرتبكة، انطوى العام 2021، وها هم العرب أسرى ضياع وإرتباك في رحلة بحثهم عن نظام إقليمي جديد يعيد التوازن إلى خرائطهم المبللة بالدماء والأنفس المقهورة بالتدخل الخارجي. التوازن الذي فُقد ليلة القبض الأميركي على بغداد في العام 2003. الليلة التي قرر فيها “العم السام” النزول الى البر العربي من بوابته الشرقية. صراعات وأزمات وحروب على طول خط سايكس بيكو أشبه ما تكون بـ”خناقة أخوة” على ميراث أرضهم المحروقة. “خناقة” تستقطب كل أنواع التدخل الخارجي الذي يجعل أهل الإقليم مجرد رهائن!

مرّ عقدان من الزمن تقريباً على تلك “الليلة” الليلاء، أي ما يعادل 20% من القرن الحالي، ومعهما أصبح مصير العالم العربي أكثر ارتباطاً بما يجري خارج حدوده.

فمنذ سقوط الدولة العثمانية قبل مائة عام، لم يكن مستقبلنا كعرب مرتبطاً بالخارج إلى هذا الحد. طيلة القرن الماضي وبرغم قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، حافظت الخريطة على هامش قرار عربي ساهم في حفظ التوازن الاستراتيجي، وشكّل النظام الدولي الثنائي القطب ركيزة أو حاضنة دولية لتأمين توازن إقليمي ما. من رحم هذا التوازن، نشأت جامعة الدول العربية التي بقيت هيكلاً بلا رؤية إستراتيجية قادرة على جعل العرب قوة قادرة على إحتلال موقع يليق بهم في النظام العالمي.

هذا الإلتصاق العربي بالعوامل الخارجية ولا سيما الأميركي منها يجعلنا أسرى توقيت لا قدرة لنا على التحكم به. بمعنى آخر، صار توقيت بداية الأزمات المتنقلة على طول ساحات العالم العربي ونهايتها ليس بيد العرب أنفسهم. علينا انتظار توازن إستحال أمره. متى يعود هذا التوازن الى منطقتنا المفتتة والمتشظية والغارقة في بحر من الأزمات والدماء؟ متى تسترجع خريطتنا بعض قرارها المسلوب؟ أسئلة لا تكمن إجابتها في فنجان “العرّافين” الذين يطلون علينا مع كل نهاية سنة ليقرأوا في فناجينهم المكسورة!

في رحلة الإنتظار والبحث عن التوازن المنشود، لا يمكن الكلام عن مستقبل خريطة العرب من دون البحث عن الدور الأميركي. العلاقة الطردية بين النظام الإقليمي والدولة الأميركية هي الأساس في مهمة استشراف المستقبل.

سعى الأباء المؤسسون للولايات المتحدة الى خلق علاقة تبادلية بين القوة العسكرية للعم سام وباقي العالم. علاقة تقوم على المصالح لا الأخلاق. ضخت الجامعات ومراكز الأبحاث الأميركية دراسات أكاديمية هائلة حول الدور الأميركي في النظام العالمي. صاغ رؤساء البيت الأبيض نظرتهم تجاه هذا الدور. الرئيس توماس جيفرسون نظّر لتداخل المصالح مع التحالفات الدولية وتأثيرها على القدرة في تحريك القوة. الرئيس جورج واشنطن سعى الى استقطاب فرنسا في الثورة الأميركية. الرئيس جورج بوش الأب نظّر الى “The New New world order” بعد انتهاء حرب تحرير الكويت. هذه وغيرها أتت في سياق “الغموض البنّاء” لدور الولايات المتحدة. “الغموض” لناحية الأخلاق و”البنّاء” لناحية استخدام القوة صوناً للمصالح.

ثمة فرق بين التوازن الاستراتيجي والقرار الأميركي. الأول تصنعه المسلمات الاستراتيجية. الثاني هو نتاج تراكم مكاسب سياسية. التوازن تصنعه موازين قوى أما القرار فهو نتاج استعادة الدور. أصلاً عملية استعادة الدور يلزمها رديف خارجي تصنعه قوة التفاهمات لا قوة الفراغ.

الانسحاب الأميركي من أفغانستان في الصيف الماضي دليلٌ على أن عقارب الساعة الاستراتيجية لا يمكن إعادتها للوراء. الفوضى هي سيدة الكون حالياً. لا التدخل العسكري نجح ولا الانسحاب المخزي نفع. الموضوع أكبر من مدفع ومن تحشيد عسكر

يأخذنا الموضوع الى آلية صناعة القرار عند الدول. إدارة الدول تحتاج الى سياسات وقرارت. ولعل أعقد المسائل في إدارة الشأن العام هي ترجمة العلاقة بين السياسات والقرارات والتي تسمى بآلية صنع القرار. تستقي صناعة القرار وقودها من التراكم المستمر للأحداث وليس من الحدث نفسه. صناعة القرار لا يجب أن تعلق في فخ قراءة التاريخ. الاستماع للجغرافيا أمر مهم أيضاً. هي البوصلة أمام تسونامي القضايا وتشابك المصالح وهي قمة الفكر الاستراتيجي في ميدان الشأن العام. من دونها يصبح التاريخ كالجندي الذي يحمل سلاحا من دون ذخيرة. التاريخ والجغرافيا لا يتجزآن.

“ضرورات الفهم قبل الحكم”. هذا ما كان يُردّده “الجورنالجي” الأستاذ محمد حسنين هيكل. تفسير غير مُستحب لدى البعض أكاديمياً يأخذنا الى دور التقارير. جاءت التقارير الدبلوماسية الأميركية لتدغدغ الكبرياء. المدفع الأميركي يغرق في الوحل البري مع كل طلقة. من أخطر ما حدث من تحول داخل البيروقراطية الأميركية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هو الاعتماد الكبير على مراكز الدراسات الاستراتيجية الخاصة في رسم سياسات الدولة. هذا النمط أخرج مطبخ صناعة السياسات العامة من البيروقراطية الى عالم المال والاعمال. أنتج مجموعة مصالح وليس سياسات عامة، وهو تماماً ما جرى بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

إقرأ على موقع 180  روسيا وسورية: الفروق الدقيقة في علاقات الحلفاء

يمكن رصد دور هذه “المراكز الخاصة” وتأثيرها من خلال سطحية تقارير الدبلوماسية الأميركية التي سُرّبت من خلال ما أسمي “ويكيليكس” (WikiLeaks). مراسلات دبلوماسية يُصاب قارئها بالحيرة وأحياناً بالقرف. دولة عظمى بتقارير صغرى.

تتفاقم حالة الحيرة امام هذه الوثائق والتقارير عند اسقاطها على مقالات أو مقابلات صحفية تحمل معلومات أكثر بكثير مما تضمنته تلك التقارير، لكأن الادوار قد انقلبت والمعاني قد اختلفت. بين الصحافي والدبلوماسي. بين المعلومات والانطباعات. بين الغرائز والمصالح. بين الرغبة والإمكانية. هنا نقف امام التطور التكنولوجي السريع الذي رافق سياسة “خصخصة” صناعة السياسات العامة في الولايات المتحدة الأميركية.

لا يمكن لأي مراجعة للأحداث التي جرت مطلع القرن الحادي والعشرين ان تتم بدون مراجعة تطور وسائل التواصل الاجتماعي. ادوات جديدة دخلت الى عالم السياسة ثم انتفخ دورها فألغت تقاليد وأعرافاً تاريخية لطالما كانت في صلب صناعة السياسات العامة للدول. للتطور التكنولوجي آثاره وتداعياته التي تطال السياسة بمقدار ما تطال الصحافة والدبلوماسية والطب والصناعة والتجارة والزراعة وغيرها من القطاعات. مغريات تصبح معها صياغة السياسات العامة وكيفية تنفيذها أسيرة مصالح وأهواء وغرائز. مغريات كفيلة بتدبيج تقارير تعتمد على عنصر “التجميل” لا عنصر الحقيقة.

لنأخذ مثلاً طازجاً. إعترف البيت الأبيض أن التقارير التي كان يتلقاها كانت تفيد بأن حركة “طالبان” لديها أشهر حتى تتمكن من إحكام سلطتها على كابول. سقطت أفغانستان كلها في غضون أيام قليلة. الانسحاب الأميركي من أفغانستان في الصيف الماضي دليلٌ على أن عقارب الساعة الاستراتيجية لا يمكن إعادتها إلى الوراء. الفوضى هي سيدة الكون حالياً.. لا التدخل العسكري نجح ولا الانسحاب المخزي نفع. الموضوع أكبر من مدفع ومن تحشيد عسكر. الموضوع أعمق من أن يتم حله باتفاقية أو معاهدة سرية. هناك مسلمات استراتيجية تصنع الحقائق ثم تأتي المصالح لتحركها إما في إتجاه إعادة التوازن أو إستمرار الفوضى.

الصين تكبر وتزحف. روسيا تتحدى ولا تتراجع. تبقى أميركا مكبلة بواقع لا تريده ولا تريد أن تعترف به. نظامنا العربي يبقى أسير هذا الارتباك الأميركي وهذه الفوضى الدولية العارمة

ثمة قضايا دولية ملحة أمام واشنطن من شرق أسيا إلى ضفاف المتوسط. لكن أهم تلك القضايا هو عامل الوقت الذي يبدو أنه ليس في مصلحة أميركا. هذا لا يعني أن أخصام أميركا يملكون ترف الانتظار. في لعبة الأمم، قيمة الوقت في أثره وليس في مُدته الزمنية.

يُعرّف المفكر السياسي إريك هوبسباوم الوقت سياسياً بدرجة تأثيره وليس بمدة التأثر. على سبيل المثال، لو أخذنا القرن العشرين سنرى كيف أن عشرة بالمئة من مدته كانت كفيلة برسم التسعين بالمئة الباقية. الحروب الكونية الأولى والثانية التي استمرت كل منها خمس سنوات كانت كفيلة بصياغة النظام الدولي.

الانسحاب الأميركي من البر إلى البحر له تكاليف وحسابات لا تقاس بميزان الأرقام أو النفوذ. هنا الكلام استراتيجي. التحليل يكون على مستوى الجيوبوليتيك لهذه الدولة ذي المصالح المترامية الأطراف. علينا البحث عن المسلمات الاستراتيجية الثابتة التي تحكم العلاقة بين خريطة العرب والدولة الأميركية.

“نحن نعيش في عالم مثير للعجب. القوي أصبح ضعيفا بسبب نزعاته غير السياسية بينما الضعيف يكبر قويا بسبب جرأته الوقحة”. هذا ما كتبه “المستشار الألماني الحديدي” بسمارك؛ الرجل الذي أثرى ألمانيا وأوروبا والمدارس السياسية بأفكاره ومقولاته السياسية التاريخية.

الصين تكبر وتزحف. روسيا تتحدى ولا تتراجع. تبقى أميركا مكبلة بواقع لا تريده ولا تريد أن تعترف به. نظامنا العربي يبقى أسير هذا الارتباك الأميركي وهذه الفوضى الدولية العارمة.

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  كيف نُحصّن أنفسنا ضد إئتلافات القوى العظمى؟