مقتدى الصدر.. الشرارة العراقية بيده!

قبل عشرين عاماً، أورث المرجع الشيعي العراقي الراحل السيد محمد صادق الصدر، نجله مقتدى، ولم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره، قاعدةً شعبيةً مليونيةً ضخمةً. بين عامي 1999 و2003، ظلّ مقتدى الصدر بعيداً عن الإعلام. الخوفُ من نظام البعث، بعد إغتيال والده، جعلهُ يلتزم بيته.

مع سقوط العراق، بيد الاحتلال الأميركي في العام 2003، خرج مقتدى الصدر كقائد شعبيّ شاب لحركة مقاومة للاحتلال. عُرِفَ الصدر، ابن مدينة النجف، بخطاباته النارية ضد الاحتلال، خاصّةً في العام 2004، إبّان معارك النجف الأولى، يوم دخول القوات الأميركية إلى تلك المدينة التي تحوي الحوزة العلمية ومقر المرجعية الدينية. فُهمت تلك الخطوة، والتي تزامنت مع سفرة علاجية للمرجع الديني علي السيستاني، أنها بمثابة رفع غطاء عن الصدر الإبن، وبالتالي، قبولٌ ضمني بقرار القضاء عليه، لكن الصدر أُخرِجَ من المواجهة بضمانة السيستاني الذي عاد وضبط واقع المدينة، فيما إنضبط الصدر تحت سقف المرجعية وما يزال حتى يومنا هذا، برغم الكثير من علامات الإستفهام حول حقيقة موقفه من المرجعية.

لكن، محاولات القضاء على مقتدى الصدر وتيّاره، لم تتوقف هناك، بل تواصلت مع رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في العام 2008، في ما أسميت “صولة الفرسان”، والتي كانت عبارة عن خطوةٌ تأديبية للتيّار الصدري، وساهمت في بناء شعبية حليف إيران نوري المالكي، وجاءت الترجمة في نتائج الانتخابات التشريعية في العام 2010.

برغم كل محاولات طهران إظهار الود للصدر أو محاولتها رسم إبتسامة خبيثة أمامه، إلا أن الشعور المتبادل بين الطرفين بدا أقرب ما يكون “عشقاً ممنوعاً”، أو “زواجاً مكرهاً”

تركت تلك “الصولة” جرحاً كبيراً في العلاقة بين المالكي والصدر، وأيضا بين الصدر وطهران التي حمّلها الزعيم الشاب مسؤولية تشظي قاعدته الحزبية والجماهيرية، على حدّ سواء. وبرغم كل محاولات طهران إظهار الود للصدر أو محاولتها رسم إبتسامة خبيثة أمامه، إلا أن الشعور المتبادل بين الطرفين بدا أقرب ما يكون “عشقاً ممنوعاً”، أو “زواجاً مكرهاً”.

من جهة، تريد طهران كتلاً شيعية عراقية تسبح في فلكها وتوجهاتها العراقية والإقليمية، وهذا ما لا تراه بمقتدى الصدر، المتفلت الدائم من القيد الإيراني، برغم وجود مشتركات أبرزها العداء المطلق للولايات المتحدة وإسرائيل.

ومن جهة ثانية، لا يمكن لمقتدى الصدر أن يغرّد خارج سرب البيت الشيعي، برغم محاولاته المتكرّرة، العودة إلى ما يسميه “الحضن العربي” (الخليجي). هذه الرؤية، ترجمها بالذهاب إلى السعودية والإمارات ولقائه بولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان وولي عهد الإمارات محمد بن زايد، لإغاظة إيران ليس أكثر، من دون أن يرتّب عليه ذلك التزاماً مع الرياض وأبو ظبي، أو العمل وفق أجندتهما السياسية في العراق، وإن برز تقاطعٌ ما، أو تقارب ٌ في وجهات النظر.

مقتدى الصدر، وبالكتلة البشرية المليونية الصلبة التي تلتزم بقراره حدّ السيف، يشكّل، اليوم، القوة السياسية الأكثر شعبية في العراق، والأكثر تهديداً لغيره

مقتدى الصدر، وبالكتلة البشرية المليونية الصلبة التي تلتزم بقراره حدّ السيف، يشكّل، اليوم، القوة السياسية الأكثر شعبية في العراق، والأكثر تهديداً لغيره، واستطاع من خلالها، مستفيداً من الظروف التي أحاطت بالانتخابات التشريعية الأخيرة في أيّار/مايو 2018، من تصدّر النتائج، جاعلاً من كتلة “سائرون”، التي يدعمها، هي الأولى برلمانياً، مع تحالفه مع الحزب الشيوعي العراقي، وتنظيمات مدنية، متبنياً خطابهم ضد الإسلاميين المحسوبين على طهران ومنهم رفاق سلاحه السابق، وجاعلاً من الإصلاح ومحاربة الفساد إطاراً لعمله، وخطاباً لاستقطاب الفقراء الذين يكويهم الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية.

إزاء هذه الصورة، ثمة سؤال جدّي، هل يلتزم مقتدى الصدر بشعاراته، وهل استطاع أن يخرق منظومة الفساد ويحقّق إصلاحاً؟

تقول الأجوبة العراقية إن الصدر “يقول ولا يفعل، بل أن حراكه السياسي مختلفٌ جذريّاً عما يقوله، ويمكن تأكيد ذلك خلال العام الماضي، ومن ثم مقاربته بتجربته في الحكومات السابقة منذ العام 2006، في حكومتي نوري المالكي الأولى والثانية، فحكومة حيدر العبادي، تالياً”.

البيت الشيعي العراقي، اليوم، “يعيش حالةً من الإنشقاق والتشظّي تكاد تهدد العراق بحرب أهلية سيكون وقودها الأساس الجمهور الشيعي ومقدراته”

ومما لا شك فيه، أن البيت الشيعي العراقي، اليوم، “يعيش حالةً من الإنشقاق والتشظّي تكاد تهدد العراق بحرب أهلية سيكون وقودها الأساس الجمهور الشيعي ومقدراته”. وبحسب مصادر سياسية عراقية متابعة، فإن أبرز حالات التشظّي هو مقتدى الصدر، الذي ينحو في اتجاهٍ معرقلٍ لأية تسوية للمشهد السياسي العراقي المتأزم. فالصدر إلى جانب زعيم تحالف “الفتح” هادي العامري، هو من أتى بعادل عبد المهدي، رئيساً للوزراء، مانحاً إياه عاماً واحداً للعمل والإصلاح ومكافحة الفساد. لكن، ماذا فعل الصدر، من بعد ولادة حكومة عبد المهدي وخلال الهبّة الشعبية المستمرة منذ مطلع تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي حتى يومنا هذا.

فالانتخابات التشريعية لأخيرة، التي شهدت تزويراً كبيراً، كما يتهم مقتدى الصدر خصومه بذلك، هي عرضة للطعن أيضا من قبل الآخرين الذين يتهمون الصدر بأنه “المزوّر الأول للإنتخابات من خلال تهديد الناخبين بالسلاح والتحايل على الشرعية وصناديق الاقتراع، ولكن لم يجرؤ احد على محاسبته وايقافه عند حده خوفاً من ميليشياته وجمهوره، الذين يصفهم هو بـ”الجهلة”، إذ يأمرهم بذلك، ومن ثم يتبرّأ منهم”، كما يردد خصومه!

إقرأ على موقع 180  ترامب أو بايدن: منظور دمشق وطهران‎

ومع تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، فاوض الصدر على عددٍ من الوزارات، وكان نصيبه أربع وزارات (تدار بالواسطة)، إلى جانب الأمين العام لمجلس الوزراء، عدا عن ضغطه لنيل منصب نائب رئيس البرلمان وعدد من السفراء في الخارج، ومناصب أخرى مع شغورٍ تشهده الدولة بلغ حدّ 6 آلاف درجةٍ خاصة.

طوال العام الماضي، لم يسهّل مقتدى الصدر عمل عبد المهدي، بل عمد إلى ابتزازه بالشارع، عدا عن قيام مقربين منه على إبرام صفقات بلغت قيمتها عشرات ملايين الدولارات. حتى أنّه، وفي سياق تصفية حساباته مع عددٍ من قادة التيّار الصدري الذين انشقوا أمر اتباعه بالهجوم على منازلهم ومصالحهم ومؤسساتهم، ما أدى إلى سقوط عددٍ من القتلى والجرحى. وكل ذلك، بحجّة محاربة الفساد والفاسدين، وصوناً لسمعة آل الصدر.

في حديثه إلى موقع 180، يتساءل مصدرٌ سياسيٌّ عراقي بارز، له تأثيره في مندرجات العملية السياسية، “هل هنالك فساد اكبر من تجاوز القانون”؟ مشيراً إلى أن الصدر يتصرف وكأنه في موقع اعلى من القانون؟. ويضيف في تساؤله، “ألم يسجن معاون رئيس الوزراء بهاء الأعرجي ومسؤولين في الدولة في كرفان بالقرب من بيته في الحنانة، لانهم اختلفوا معه على توزيع الحصص والمغانم المالية”؟. يضيف، أن الصدر شكّل محاكم خاصة به، تحكم بها ضد الاخرين متجاوزا القانون والمحاكم الرسمية للدولة العراقية.

ولكن السؤال – وفق المصدر السياسي العراقي- “أين ذهبت تلك الاموال المسروقة والتي استرجع جزء يسير منها، وهل صحيح أنه تم تحويل تلك الاموال إلى مصارف عاملة في بغداد وبيروت”؟.

وبرغم وجوده (مقتدى) أحياناً في قم أو بيروت، فإنه لا يتورع، كما حصل مؤخرا، عن دفع أنصاره إلى حرق القنصليتين الإيرانيتين أكثر من مرة في النجف وكربلاء

وبالتوازي، بات الصدر ــ بشبه إجماع البيت الشيعي ــ ناقضاً للوعود مرارا وتكرارا، ويتفق مع افراد أو كتل، لكنه ينقض وعوده في منتصف الطريق. هذا ما خلص إليه هادي العامري، برغم قناعته المسبقة بأن الصدر سيخذله في العام الأوّل، بحيث يحمّل حلفاء إيران مسؤولية الواقع المعاش، ويذهب إلى الشارع مع الجماهير على اعتبار أنّه سيكون إلى جانب “الشعب”. لكنه، في الوقت عينه، يستفيد من أية خضّةٍ أمنية لتصفية مناوئيه ميدانياً، كما حصل مع قادة “عصائب أهل الحق”، الذين قتلوا قبل أسابيع على يد أنصاره. فوق كل ذلك، وعند استشعاره بالخطر، يلوذ الصدر لإيران (قم تحديداً) أو لبنان ولفترات طويلة، متمتعاً بالملذات والامكانيات الفارهة، علماً أن أنصاره بمعظمهم من أبناء الطبقات الفقيرة. وبرغم وجوده أحياناً في قم أو بيروت، فإنه لا يتورع، كما حصل مؤخرا، عن دفع أنصاره إلى حرق القنصليتين الإيرانيتين أكثر من مرة في النجف وكربلاء. وهو يرفض أي تسوية للمشهد، أو مقاربة لتحسين الواقع المتشنّج، بل يتمسك بخيار الشارع، لتحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب الشعبوية، من خلال تكرار سيناريو المفاوضة لاحقاً مع قائد “لواء القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، للحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب، لأن الإيرانيين “لن يزعلوا السيد (مقتدى)”. عرف مقتدى الصدر مكانه عند الإيرانيين فتدلل، وهو يجيد إستثمار موقعيته، إلا أن السؤال “متى يتعلّم حلفاء طهران الدرس” يسأل المصدر السياسي العراقي.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  السيستاني والإنتخابات العراقية.. "التحول" لمصلحة من؟