بعد سلسلة من التمويهات وعمليات تغيير الجلد، لم يستطع أبو محمد الجولاني المعروف ببراغماتيّته العالية أن يُوازن بين خطوط الصدع الجهاديّة المحفورة عميقاً في بنية تنظيمه، وما يروق للبعض أن يسميها “ضرورات السياسة الشرعية”، وهي تعبير مهذّب يقصد به تلبية متطلبات المعادلات الاقليمية والدولية.
وقد دفعَ اختلالُ التوازنِ بالجولانيَّ إلى التمايز عن جهتين كان لصيقاً بهما لدرجة كبيرة، هما تركيا وتنظيم “القاعدة” العالمي. ففي حين تكرّس خلال العام 2019 الانقسام بين جماعة الجولاني و”القاعدة” المعروفة في سوريا باسم “حرّاس الدين”، كانت علاقة الجولاني مع الاستخبارات التركية تمرّ بمنعطف شديد الحساسيّة، لا سيما بعد أن أعاق كلَّ مساعي الأخيرة الهادفة إلى إيجاد صيغة لإدارة ملف إدلب بعيداً عن الجماعات المصنفة إرهابياً.
ولعلّ الاستخبارات التركية وجدت بدايةً في تنصل الجولاني ذريعة للمماطلة في تنفيذ “اتفاق سوتشي” مع موسكو. وربما كانت تعتبرها وسيلة لشراء مزيد من الوقت في ظل عجزها عن تلبية الطلبات الروسية التي باتت أكثر إلحاحاً بخصوص الفصل بين “الارهابيين” و”المعتدلين”.
غير أن القشّة التي قصمت ظهر العلاقة بين الجولاني وأنقرة، كانت الصفعة المدويّة التي وجهها إلى سياستها في المنطقة والتي تمثّلت في الحملة العسكرية التي قام بها مطلع العام 2019 وسيطر من خلالها على غالبية مساحة إدلب في الشمال السوري.
وقد توّج الجولاني هذه الانعطافة بتوجيه بوصلته نحو الصراع الجيوسياسي في المنطقة مقدماً أوراق اعتماده ليكون لاعباً وكيلاً في ميدانها السوري. وهو ما أكده في ظهوره المرئي الأخير حيث قفز فوق معركة إدلب وصبّ اهتمامه على الأبعاد الاستراتيجية والجيوسياسية التي تنطوي عليها الأزمة السورية، مقدماً جماعته كحركة تحرر وطنية ضد ما اسماه “الاحتلالين الروسي والايراني”، وذلك في رسالة مشفرة أراد أن تلتقطها رادارات بعض الدول المعنية بالملف السوري.
“الإمارة” في أحضان التناقضات
علاوةً على خلافه مع قيادة “القاعدة”، واختلالِ علاقته بأنقرة، ثمة عوامل من شأنها أن ترفع وتيرة القلق لدى الجولاني، أهمها على سبيل المثال: العمليات العسكرية المتتالية التي يقوم بها الجيش السوري في منطقة إدلب ويقضم من خلالها أجزاءً من إمارته؛ مقتل زعيم تنظيم داعش أبي بكر البغدادي في ريف إدلب، الأمر الذي جعل الجولاني يتوجس من احتمال تعرّضه للاغتيال بنفس الطريقة ولا سيما بعد أن استأنفت واشنطن مؤخراً غاراتها ضد قادة “هيئة تحرير الشام”؛ إتّساع الهوة بين “الهيئة” والحاضنة الشعبية، لأسباب اقتصادية وإجتماعية وخدماتية.
لكن ثمة عوامل معاكسة أكثر إغراءً جعلت الجولاني يدخلها في حساباته ويبني عليها رهانات معقدة. وقد انعكست هذه الرهانات على مصير منطقة إدلب بشكل مباشر وجعلتها تواجه مصيراً يختلف عن مصير باقي مناطق خفض التصعيد التي تمخضت عن اجتماعات آستانا.
أول العوامل، إدراك الجولاني أن حصانته من الاغتيال ما زالت سارية المفعول بحكم كونه “بيضة القبّان” في لعبة إعادة هيكلة التشكيلات الجهادية في ضوء مخاوف جهات إقليمية ودولية من أن يؤدي غيابه إلى تغليب التيارات الأقرب إلى تنظيم داعش ما من شأنه إدخال إدلب في مسار أشدّ تعقيداً، وهو ما لا يريده أحد.
إدراك الجولاني أن حصانته من الاغتيال ما زالت سارية المفعول بحكم كونه “بيضة القبّان” في لعبة إعادة هيكلة التشكيلات الجهادية في ضوء مخاوف جهات إقليمية ودولية من أن يؤدي غيابه إلى تغليب التيارات الأقرب إلى تنظيم داعش
ثانيها، قراءة جولانيّة لا تتخطّى الواقعية في بعض مفاصلها، وتقوم على أن عمليات الجيش السوري لم ولن تخرج عن سقف اتّفاقَي أستانا وسوتشي. وبموجب هذين الاتفاقين يبدو أن هدف القضاء النهائي على “جبهة النصرة” قابل للتأجيل والمماطلة لا سيما في ظل انشغال ضامني أستانا بتحقيق أهداف مرحلية تتمثل في فتح الطرق الدولية وتدوير عجلة التجارة. وهو ما من شأنه أن يترك للجولاني هامشاً جغرافياً وزمنياً لا بأس به للمناورة واللعب على الحبال.
ويقوم العامل الثالث على أن اتفاق سوتشي ليس مجرد اتفاق ثنائي بين روسيا وتركيا بل هو انعكاس لمعادلات إقليمية ودولية. بمعنى أن تنفيذه لا يتعلق فقط بإرادة الموقعين عليه، بل هناك جهات أخرى لها رأيها في الموضوع. وانطلاقاً من ذلك، يسود في أوساط “النصرة” نوعٌ من الارتياح جراء مساعي بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة، للربط بين اتفاق سوتشي وإطلاق العملية السياسية لحل الأزمة السورية. وقد باتت اعتراضات واشنطن المتكررة على أي عملية عسكرية للجيش السوري في إدلب بمثابة الدرع الذي يحمي إمارة الجولاني ويطيل من عمرها، سواء قصدت واشنطن ذلك أم لم تقصد. ولعلّ الجولاني يرى في هذا الدرع خير وسيلة لتعزيز قناعته بأن موعد الحسم النهائي في إدلب لم يحن بعد وأن إمارته ستستمر عاماً آخر وربما أكثر.
شرنقة الانتظار
ممّا سبق، يتبيّن أن داعش وجبهة النصرة يختبران حالياً مسارين متعاكسين تماماً. ففي حين يحاول الأول التأهّب للعودة بعد الضربات الكبيرة التي تلقاها خاصة في سوريا والعراق، تعمل الثانية جاهدةً لتجنّب الأفول الذي أصاب غريمها.. ولعلّ أكثر ما تعوّل عليه قيادة هذين التنظيمين هي الثغرات المفتوحة في جسد المعادلات الدولية وموازين القوى القائمة، التي ما زالت تتيح لهما التسلل عبر المصالح المتضاربة للدول من أجل استدامة بقائهما واتّقاء مصير الحسم ضدهما.
لذلك يمكن القول أنه سيكون من المبكر أن نفكر في نعي “الجهادية” خلال العام 2020. ولعل الأرجح هو أن الحركات الجهادية اضطرت بفعل الضغوط العسكرية للانكفاء المؤقت بعد مرحلة “التمكين” الفاشلة، مع وجود مؤشرات على أن بعض هذه الحركات بدأت تنسج حول نفسها شرنقة من استراتيجيات الانتظار استعداداً للمرحلة المقبلة التي ستحدد مسارها فقط طبيعة المعادلات الدولية واحتمالات التسوية من عدمها.