لعلّ مفهوم “المصارف الزومبي” يعود تاريخيّاً إلى كون هذه المصارف ليست على قيد الحياة فعليّاً، وهي كالزومبي في أفلام الرعب، أقرب إلى كونها جثّة متحرّكة. بالنسبة إلى المصارف، يعود وجه الشبه من هذه الناحية إلى إحتواء ميزانيّاتها كميّة كبيرة من الأصول الرديئة، على شكل قروض متعثّرة أو توظيفات لا يمكن تحصيلها، أو على شكل تراكم لإستثمارات غير موفّقة ولا يمكن تسييلها في المدى المنظور أبداً. أمّا وجه الشبه الآخر مع الزومبي في أفلام الرعب، فهو أنّها ليست في عداد الموتى تماماً، وهي تستمرّ في الوجود بفضل حجم الدعم التي تناله بإستمرار من الدولة، لمنعها من الإنهيار الكلّي والنهائي، تماماً كما يحتاج الزومبي إلى جرعات من طرائده بإستمرار.
قد يبدو هذا التوصيف للقطاع المصرفي اللبناني قاسياً بالنسبة إلى البعض، خصوصاً أننا نتحدّث عن قطاع كان يوصف قبل تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، بأنه “درة التاج الإقتصادي اللبناني”.. لكنّ التشخيص الدقيق، وحده يحدّد المطلوب للخروج من الأزمة الذي تطال اليوم كل نواحي النظام المالي اللبناني. وبينما أصبحت عوارض الإنهيار وضعف الملاءة في القطاع المصرفي واضحة للعيان، يصبح السؤال التلقائي متصل بحجم المشكلة في الموجودات المصرفيّة أوّلاً، وبسبل الخروج من الأزمة وحجم التضحية المطلوبة لذلك، ثانياً.
الجردة المطلوبة في الميزانيات
إذا أردنا الشروع بإعادة هيكلة القطاع، بما يعيده للعب دور صحّي ومتوازن في الإقتصاد اللبناني، فذلك لن يتم من دون إجراء جردة معمّقة لأصوله، لتحديد مكامن الخلل التي جعلته يقع اليوم في الأزمة. وعند إجراء هذه الجردة فقط، يمكن تحديد حجم المشكلة، وحجم التصحيح المطلوب في أية عملية إعادة هيكلة للقطاع، للخروج من وضعيّة “المصارف الزومبي”.
يشي التدقيق أن المشكلة الأساسيّة التي تكبّل الموجودات المصرفيّة في لبنان، والتي تضع المودعين في مواجهة أزمة السيولة، تكمن تحديداً في حجم الأموال التي تمّ توظيفها لتمويل الدين العام، عبر شراء سندات الخزينة مباشرةً أو من خلال التوظيف لدى مصرف لبنان. وعملياً، يمكن القول أنّ هذه الفجوة هي ما يدفع إلى التشكيك بنوعيّة أصول القطاع وقدرة المصارف على تسييلها، خصوصاً بعد إعلان الدولة اللبنانيّة تخلّفها عن سداد سندات اليوروبوند المستحقّة خلال شهر آذار/مارس الحالي، وبالتالي خلال العام 2020 (2.5 مليار دولار).
الفجوة الأولى التي ينبغي تقدير حجمها هي الفجوة الناتجة عن الفارق بين الإلتزامات على المصارف بالعملات الصعبة، وحجم الموجودات أو التوظيفات القابلة للتسييل بهذه العملات في المرحلة القادمة
ولذلك، ما يهمّنا عند جرد أصول القطاع المصرفي اليوم، هو تحديد حجم هذه الفجوة في الميزانيّات المصرفيّة، والقدر الذي إستنزفته من سيولة المصارف بجميع العملات، وهو ما يشكّل مقدّمة طبيعيّة لمعرفة حجم التصحيح المطلوب. وبالإضافة إلى هذه الجردة، لا بد من تفنيد موجودات القطاع مقابل إلتزاماته بالعملة الصعبة تحديداً، خصوصاً أن الأزمة التي يمر بها القطاع اليوم تطال تحديداً قدرته على سداد إلتزاماته للمودعين بالدولار الأميركي، بينما يشكّل شح السيولة بالعملة الصعبة أبرز نقاط ضعف النظام المالي اللبناني برمته، اليوم.
فجوة العملات الصعبة
الفجوة الأولى التي ينبغي تقدير حجمها هي الفجوة الناتجة عن الفارق بين الإلتزامات على المصارف بالعملات الصعبة، وحجم الموجودات أو التوظيفات القابلة للتسييل بهذه العملات في المرحلة القادمة. مع العلم، أن جزءاً كبيراً من الموجودات بالعملات الأجنبيّة لن يكون قابلاً للتسييل على المدى القصير، بالنظر إلى إرتباطه بأدوات الدين السيادي.
من ناحية الإلتزامات، ترتّب على المصارف اللبنانيّة لغاية نهاية شهر تشرين الأوّل/أكتوبر ما يقارب الـ124.14 مليار دولار من الودائع بالعملات الأجنبيّة. كما ترتّبت على المصارف إلتزامات أخرى على شكل سندات صادرة من قبلها وديون للمصارف المراسلة، ليبلغ إجمالي إلتزاماتها بالعملات الصعبة ما يقارب الـ134.25 مليار دولار. مع العلم أن هذا الرقم مرشّح للإرتفاع بالنظر إلى وجود إلتزامات غير محددة العملة في الميزانيّات المتوفّرة.
في كل الحالات، قامت المصارف بإستعمال 75 مليار دولار من هذه الأموال من خلال توظيفها لدى مصرف لبنان، بينما كانت توظّف في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر ما يقارب الـ14.86 مليار دولار في سندات اليوروبوند الصادرة عن الدولة اللبنانيّة. وبذلك، تكون المصارف قد وظّفت 89.86 مليار دولار من سيولتها بالعملة الأجنبيّة في أدوات الدين السيادي الصادرة عن الدولة أو عبر التوظيف لدى مصرف لبنان، وهو ما يشكّل عمليّاً 67% من قيمة الإلتزامات المترتبة عليها بالعملة الصعبة.
هذه النسبة الضخمة من السيولة بالعملات الأجنبيّة التي تم توظيفها في سندات اليوروبوند ومصرف لبنان، ستشكّل عمليّاً التحدي الأكبر في الفترة القادمة. فالدولة علّقت سداد سندات اليوروبوند، وسداد هذه السندات سترتبط بالحلول التي سيتم التوصّل لها في إطار التفاوض على إعادة هيكلة الدين العام. مع العلم أن بعض هذه السندات التي تملكها المصارف خسر مؤخّراً أكثر من 60% من قيمته السوقيّة بعد الإعلان عن تعليق سداد السندات. أمّا مصرف لبنان المدين بـ75 مليار دولار لمصلحة المصارف، فيعاني بدوره من تراجع الإحتياطات القابلة للإستخدام لديه من العملات الأجنبيّة، والتي يحتاجها لبنان لتمويل وارداته من السلع الحيويّة، ومن المستبعد أن يكون قادراً في المدى المنظور على سداد شهادات الإيداع أو الودائع لديه بالعملات الأجنبيّة.
ثمّة مشكلة أخرى في الموجودات المصرفيّة، إلى جانب مشكلة توظيفاتها في أدوات الدين السيادي. فهناك ما يقارب الـ33.38 مليار دولار من السيولة بالعملات الأجنبيّة التي تم توظيفها على شكل قروض للقطاع الخاص، وهو ما يوازي 29% من قيمة الإلتزامات المترتبة على المصارف بالعملة الأجنبيّة. وبينما يتم سداد قروض التجزئة اليوم بالليرة اللبنانيّة، ترتفع نسبة القروض المتعثّرة في الجزء الآخر من هذه القروض، حيث تفيد التقديرات اليوم بإرتفاع نسبة القروض المتعثّرة إلى حدود الـ15%، مع وجود توقّعات بإرتفاع هذه النسبة مستقبلاً.
الفجوة في إجمالي الموجودات
بمعزل عن الفجوة الموجودة في الميزانيات المصرفيّة بما يخص موجوداتها بالعملة الصعبة، ثمّة فجوة مماثلة على مستوى هذه الموجودات ككل. فإجمالي الموجودات المصرفيّة بلغ لغاية تشرين الأول/أكتوبر حدود الـ262.2 مليار دولار، بينما بلغ مجموع التوظيفات لدى مصرف لبنان بالعملتين اللبنانية والصعبة حدود الـ152.7 مليار دولار، كما بلغ مجموع التوظيفات في سندات الخزينة وسندات اليوروبوند حدود الـ31.65 مليار دولار أميركي. بإختصار، بلغ إجمالي ما تم توظيفه في مصرف لبنان وسندات الخزينة معاً ما يقارب ال184.36 مليار دولار، وهو ما يوازي وحده حدود 70% من موجودات القطاع.
ما شهدناه من تدهور في قدرة المصارف على تلبية طلبات مودعيها بالعملة الصعبة ليس سوى مؤشّراً إلى أنّ هذه المصارف تعثّرت عمليّاً، بفعل هذه الأزمة. وما يبقي هذه المصارف على قيد الحياة اليوم ليس سوى مجموعة من الإجراءات التي إتخذتها لضبط ما تبقى من سيولة
بالتأكيد، ستملك المصارف اللبنانيّة هامشاً أوسع للمناورة في ما يخص هذه الفجوة، كونها تتضمّن جزءاً كبيراً من الديون السياديّة بالليرة اللبنانيّة، والتي يمكن التعامل معها داخليّاً من دون الضغط الناتج عن شح العملة الصعبة، ومن دون وجود عامل الدائنين الأجانب. مع العلم أن حجم الإلتزامات الضخمة على مصرف لبنان، نتج عمليّاً عن إكتتابه طوال الفترة الماضية في سندات الخزينة بالليرة، بالنيابة عن المصارف التي كانت توظّف سيولتها لديه بدل توظيفها مباشرةً في إكتتابات سندات الخزينة التي تجريها وزارة الماليّة اللبنانية. لكنّ المراهنة على دور مصرف لبنان على المدى الطويل، لإعادة تمويل الدين العام من خلال إكتتابه المباشر في سندات الخزينة، يعني عمليّاً مضاعفة الضغط على سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية، من خلال ضخ كميات إضافية من سيولة المصرف المركزي في الأسواق من خلال هذا النوع من العمليّات. وبالتالي، فهذا النمط التمويلي الذي سمح في الفترة الماضية بشراء القليل من الوقت، لن يتمتّع خلال الفترة المقبلة بالقدرة على الإستمرار على هذا النحو، خصوصاً أن سعر صرف الليرة يواجه ضغوطاً شديدة في السوق الموازية منذ تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي.
كيف نخرج من المأزق؟
أزمة السيولة قائمة إذا في موجودات المصارف اللبنانيّة، وما شهدناه من تدهور في قدرة المصارف على تلبية طلبات مودعيها بالعملة الصعبة ليس سوى مؤشّراً إلى أنّ هذه المصارف تعثّرت عمليّاً، بفعل هذه الأزمة. وما يبقي هذه المصارف على قيد الحياة اليوم ليس سوى مجموعة من الإجراءات التي إتخذتها لضبط ما تبقى من سيولة، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من العمليات الإستثنائيّة المكلفة التي قدّمها لها حاكم مصرف لبنان المركزي (الهندسات المالية بشكل أساسي) منذ العام 2016 لتعزيز رساميلها.
بإختصار، ما تثبته هذه الجردة في الميزانيّات هو ضرورة العمل على ترشيق القطاع المصرفي، من خلال الشروع في عمليّة إعادة هيكلة شاملة تطال موجوداته، وبالأخص تلك المرتبطة بالدين العام. وإذا كانت عمليّة تحجيم الدين العام تمر حكماً بالتفاوض عليه وعلى إعادة هيكلته مع الدولة، فلا بد، في المقابل، من عمليّة توزيع دقيقة للخسائر من ناحية إلتزامات المصارف ورساميلها. فتقليص حجم الدين العام المترتب لصالح المصارف، يستوجب حكماً تقليص قيمة موازية من الناحية الأخرى من الميزانيّة، أي ناحية المطلوبات والرساميل.
هنا، ولإعادة هيكلة الجهة الأخرى من الميزانيات، أي جهة الإلتزامات والرساميل، لا بد من عمليّتين متوازيتين، تبدأ الأولى بإعادة تقييم ما تبقى من رساميل المصارف وأموالها الخاصة، من أجل تحديد القيمة المطلوب ضخّها في هذه الرساميل من قبل المساهمين في المصارف. أما في حال تعذّر الأمر، فتكون الوجهة حكماً نحو عمليّات دمج بإتجاه كيانات مصرفيّة أكبر، تستطيع توفير هذه الزيادة المطلوبة في الرساميل. أما العمليّة الثانية، فستطال الودائع بالدرجة الأولى، وفق عمليّة إقتصاص منظّمة وتصاعديّة (“هيركات” أو “قص الشعر”)، بما يبعد كلفة الإقتصاص عن الودائع الصغيرة والمتوسّطة.
في الخلاصة، لا يمكن الخروج من الورطة القائمة من دون مسار شائك وطويل يجب أن يمر به القطاع المصرفي، لكنّ الأهم هنا هو الإعتراف أوّلاً بوجود خسائر لا يمكن الهرب منها، وثانياً بوجود كلفة يجب أن يتم إقتصاصها من مكان ما في الميزانيات. وهكذا، يصبح السؤال الأبرز عن ماهية الفئات التي ستدفع هذه الكلفة، وعن المعايير التي سيتم العودة إليها عند تحديد هذه الفئات. أمّا إبقاء الوضع على ما هو عليه، من دون عمليّة تصحيح جذريّة وواسعة، فيعني الحفاظ على القطاع المصرفي وفق وضعيّة “المصارف الزومبي”، مع كل ما يعنيه ذلك من كلفة باهظة على الإقتصاد.. والمجتمع.