في العقود الأخيرة من السنين، أُفْرغَت مراكز البحوث والتتبع العلميين من كثير من الكوادر المَهَرَة. خضعت موازانات لمؤسسات حكومية في البلدان المتقدمة علمياً. قُلّصت صلاحياتها. كأن النيوليبرالية صارت ترى أن الانسان لا تصيبه الأوبئة، وأن الصراع على الكرة الأرضية هو صراع ثقافات وسياسات.
في ما يتعلّق بالطبيعة، لم يعد النظام العالمي (النيوليبرالية) يرى ضرورة التواؤم مع أمنا الطبيعة. بكل فجور، جرى انتهاك غاباتها، خاصة الاستوائية، وهي مصدر الأوكسيجين، وجرى اعتبارها مجرد مورد للمواد المالية والأولية، كما الانسان مورد للعمل وصانع القيمة. صار المال هو القيمة. إله يعبد، يسجد له كل البشر. عليهم أن يسجدوا.. ويخضعوا.
تحوّل الغرب الى مجتمع استهلاكي صدّر كل صناعاته الى أسيا وأميركا اللاتينية. حتى الآن، ليس لديه العدد الكافي من الأقنعة الواقية. يستوردها من الصين وبقية أسيا. هي قماشة مع خيط مطاطي على الطرفين لا أكثر. لا تستحق الاهتمام. فليصنعها هؤلاء “الأوباش”. الغرب يستهلك ما لا يصنع. يستثمر في ما يصنعه الآخرون. يصيب من ذلك مالاً كثيراً. نظام نيوليبرالي ريعي (وقد صار التعبير دارجاً في لبنان لأسباب سلطوية سياسية) قوامه المال وتكريس الثروات. أما أجهزة التنفس الاصطناعي، فهي أقل من المطلوب في كل مكان في العالم. يبدو أن الجيوش تسيطر على الجزء الأكبر منها. أما الفضيحة الكبرى، فهي في المستشفيات وأجهزة الطبابة بشكل عام. جميعها تعاني من الانهيار تحت وطأة الأعداد التي تلجأ إليها في هذه الأيام. وهذه الأعداد المعلنة ليست كبيرة. على الأقل، هي ليست كبيرة بالنسبة للهلع الذي أصاب الناس والذي كان لأجهزة الإعلام، عن حق، نصيب كبير منه. الأطباء والممرضون والممرضات يموتون بأعداد تخفيها السلطات في الغرب. هذه السلطات تطلّب أحياناً من الجسم الطبي استخدام الثياب الواقية والكمامات الواقية، لأكثر من مرة، لندرتها. الغريب في الأمر، أن السلطات تصدر أوامر حول معالجة المصابين، وهي تعرف أن الجهاز الطبي ليس لديه ما يحميه من معدات وثياب.
الأغرب أن جهابذة السلطات من اختصاصيي الأوبئة يتحدثون حتى الآن عن “حل” واحد هو تكاثر المصابين حتى الذروة. ثم يتناقص عددهم بفعل مناعة جماعية تنشأ في كل المجتمع. في كل مدرسة أو جامعة يدرسون في الصفوف الأولى المنحنيات البيانية لانتشار وتراجع الأوبئة، منذ أقدم التاريخ، عن طريق المناعة التلقائية. بدل أن يستمر المنحنى البياني في الصعود، يهبط نتيجة هذه المناعة. وكأن المقصود أن يقتل أكبر عدد من الناس قبل أن يتلاشى الوباء.
حتى الآن، تتسابق شركات الأدوية لصنع أدوية ولقاحات لمواجهة الوباء. يجنون من ذلك أموالاً طائلة. يعارضون في نفس الوقت، بلا هوادة، استخدام الأدوية التي استخدمت بنجاح ضد أوبئة مشابهة، لأن هذه تصنع الآن تحت مسمى “جنريك”، أي أن الشركات التي طورتها لم يعد لها حق الملكية الحصرية عليها. الكل يعلم مدى قوة وسيطرة شركات الأدوية في هذا النظام الاجتماعي.
الانهيار الحاصل في الاقتصاد العالمي سوف يؤدي الى بطالة شبه شاملة. جماهير كبيرة في البلدان حول العالم سوف تزدحم من أجل رغيف خبز. وهذا لن يُعطى إلا على سبيل الإحسان
كل هذا والسلطات حول العالم معنية بأولوية الاقتصاد على الانسان. برامج إنقاذ هنا وهناك لإعانة الفقراء، بكميات صغيرة طبعا، ولكن الأهم إعانة الشركات الكبرى وكأنها عبر تاريخها لم تأخذ ما يتجاوز حصتها من أموال وثروات تكدسها، أو يكدسها أصحابها، في دهاليز ما في هذا العالم. هذا في حين أن هذه الشركات تفهم دورها على أنه معاقبة العاملين (غير المدراء) لديها وطردهم من العمل مع الحفاظ على الربحية، أو على البقاء، كما يقولون. تربح الشركات في الأيام العادية. ويسمون ذلك بحبوحة رغم أوضاع الأكثرية وهم فقراء. وتربح في أيام الأزمة بمعونات من السلطات وبتحويل العاملين لديها الى عاطلين عن العمل؛ والشركات بالطبع ترفض عند الشدة مساعدة العاملين لديها. تختار طردهم. بقاء الشركة حتى لو لم يتبقى فيها عامل واحد هو الأولوية.
خسرت الرأسمالية كل مبررات وجودها، الأخلاقية والسياسية. وهي لم تؤمن ولم تثق بأي منهما. خسرت أولاً لأنها احتقرت العلم رغم أنها صعدت معه، وأشاعت أنها كانت باعثة له ضد الدين، في حين أنها كانت على حلف مع الدين. أفرغت المؤسسات العلمية والأكاديمية من المضمون المعرفي، بالأحرى الهدف الأساسي الذي هو المعرفة، معرفة لصالح الانسان لا لصالح تدميره. جعلت المؤسسات المعرفية والأكاديمية تلهث وراء المال والاستثمارات في بحوث علمية لصالح الشركات.
صارت الأولوية عند الجامعات هي موازنات تتوازن لا معرفة تفيض. منذ عقود وأساطين العلم الأحرار يحذرون من تتجير الجامعات. صدق من قال أن العلم ليس تجارة رابحة. الدين كان كذلك على مر الدهور.
لم يكن صدفة أنه عندما انفجر الوباء لم تكن المؤسسات العلمية جاهزة له. في العقود الماضية، أظهرت النيوليبرالية، وهي الرأسمالية في آخر مراحلها، عداءً شديداً للعلم. لم تدفعه الى حالة الفقر وحسب، وانما أفرغت مؤسسات الدولة الداعمة للعلم والمعنية بالعلم من أبرز الباحثين. واتهمتهم وأدانتهم، قائلة أن بحوثهم متحيزة سياسياً ضد الطبقات الحاكمة. كما حدث في موضوع الأوزون والانبعاث الحراري والتغيّر المناخي. أولوية هذه الرأسمالية ليست الانسان والعلم الذي ينفع الانسان بل هي الربح ثم الربح ثم الربح؛ المال، فوق المال، فوق المال.
تعتبر الرأسمالية أنها طبيعة بشرية. هذا في الايديولوجيا التي تتبناها. لكن علماء الاقتصاد يجمعون أن الرأسمالية بدأت منذ خمسة قرون. بالطبع ما له بداية له نهاية. السؤال هل ستكون هذه النهاية دون نهاية البشرية معها. ولنفترض أن الرأسمالية أضيفت للطبيعة البشرية عن طريق ما يسمى الmutation أو ما يشبه تغيّر بيولوجي، فهل لها تأثير أقل من الكورونا؟ نعرف أن الأزمة المالية وأزمة الكورونا متزامنتان. ولا نعرف أيهما الأولى أو أيهما السبب. لا نعرف النتائج ونخاف منها. كلمة خوف لا تكفي، هلع أقرب للواقع.
الهلع هو ما سوف يحصل للنظام العالمي. صحيح أنه نظام تقطعت أوصاله لكنه إذا كان في طور السقوط، فما من نظام جديد يمكن أن يحل مكانه. لا نظام جديدا من الانسان وللانسان يحل مكانه. سوف يجدّد النظام نفسه بأساليب أخرى.
قدم لنا النظام نماذج عن الدول التي استطاعت احتواء الكورونا والتقليل من نتائجه. تلك هي الدول ذات الحكومات الأقل ديموقراطية والأكثر حزما أو استبدادا في الإملاء على الناسز إملاء سلوكهم واختياراتهم.
الانهيار الحاصل في الاقتصاد العالمي سوف يؤدي الى بطالة شبه شاملة. جماهير كبيرة في البلدان حول العالم سوف تزدحم من أجل رغيف خبز. وهذا لن يُعطى إلا على سبيل الإحسان. عدم وجود قوى اجتماعية وسياسية لتعديل الوضع والنظام يشي بالضعف وعدم القدرة على فعل ذلك. ستكون أمامنا فوضى عالمية. السلطات سوف تقمعها بالعنف والسلاح. ستكون رأسمالية دون ديمقراطية الليبرالية. ستكون جميع الدول في حالة حرب مع شعوبها ومع بعضها البعض. وبعضها لديه سلاح نووي. حالة الحرب معلنة ضد الفيروس. الرئيس الأميركي أعلن أنه سوف يستخدم قانون الحرب للصناعة المقرر في الحرب العالمية الثانية. لم يستخدمه حتى الآن. كأنه يعرف سوف يستخدم قوانين الحرب في الداخل.
أفرغت الشوارع والساحات العامة من الناس. الحجر في المنازل شبه طوعي، لكنه تدبير اضطراري. “يختاره” الناس تحت عبء الضرورة. الضرورة تبيح المحظور. المحظور الذي سوف يقع هو إخلاء العالم مما تبقى من السياسة، أي مشاركة الناس في السلطة وفي القرارات التي تتخذها الدولة. لم يعد للناس حديث سوى الكورونا وكيف تتلافى الوباء. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تحالفت الرأسمالية مع الدين واستخفت بالعلم. كان ذلك أكثر ربحاً بالنسبة لها لأن عدد الناخبين أكبر. وهم أيضاً يوافقون على أن تدفع الرأسمالية تكاليف تدميرها للطبيعة وغيرها. كلاهما لا يعبأ بالسياسة، وبالحوار بين الانسان والانسان، وبالعلاقة بين البشر. الأهم لديهما هو العلاقة مع الله العلوي أو الله الدنيوي (المال).
الفاشية بدأت تظهر قبل الأزمة الاقتصادية الحالية وقبل الأبوكاليبتوس الذي أحدثته الكورونا. كأن الوباء جاء فرصة سانحة لتحقيق اتجاهات سابقة؛ بالأحرى لإعطاء الاتجاهات السابقة كفة الرجحان
مع الإفقار، تفرّغ الساحات العامة من السياسة. يضيق طريق الخلاص الأرضي أمام الناس. هم موعودون بخلاص سمائي. ولا مانع عند الرأسمالية من أن يطالب الفقراء بحقوقهم ليأخذوها من الله لا ممن أفقرهم، أو يأخذوها في السماء ويعتقون حكام الأرض من هذا العبء.
منذ سنوات وأهل الدراسات العلمية الاجتماعية يحذرون من تصاعد الفاشية. تجد الفاشية فرصتها في التباعد الاجتماعي. لكل فرد آخر. الآخر مستبعد. لكل مجتمع آخر. المجتمع الآخر مستبعد ومكروه. ما أحدثته العولمة من تقارب، بالأحرى من فرص أمام الناس لتجاوز الحدود سوف يزول. الحدود سوف تترسّخ. سيكون مبعداً كل آت من خارجها. سوف يعتبر المجتمع داخل الحدود كلاً متكاملاً دون تناقض. لا حقوق للطبقات الدنيا. حظهم جيد في أنهم ينتمون الى الأمة. تتجلى الأمة، المقولة الميتافيزيقية، لا التي يصنعها الناس، بأسوأ ما فيها. ستكون أمة حكام الاستبداد لا أمة مجتمع الناس. أكثر المؤهلين لقيادة هذه الأمة هم العسكر حتى ولو كانت الواجهة قيادة مدنية. مسكين المجتمع المدني. سيكون “عدة شغل” عند الأجهزة العسكرية والميليشيات الفاشية. في المجتمع الفاشي، الكل متساوون في الأمة. لكنهم غير متساووين في من يحكم ويتسلط ويعيش على حساب الآخرين. هؤلاء سوف يعتبرون أنهم يؤدون خدمة ولا يمارسون الاستغلال بأبشع صوره. أنواع البطالة المتفشية حول العالم تعطينا صورة عن ذلك. أنظمة الاستبداد سوف تساعد الشركات الكبرى لأن فيها “قوة ومنعة للأمة”. جحافل الفقراء أمامها “خيار واحد” هو التضامن والتكافل والتضحية.
الفاشية بدأت تظهر قبل الأزمة الاقتصادية الحالية وقبل الأبوكاليبتوس الذي أحدثته الكورونا. كأن الوباء جاء فرصة سانحة لتحقيق اتجاهات سابقة؛ بالأحرى لإعطاء الاتجاهات السابقة كفة الرجحان.
بعد الكورونا لن يعود العالم كما كان. سيكون أسوأ بكثير. نظام جعل للانسان غاية من خارجه؛ جعل الانسان عبداً قبل أن يولد. أفقد معنى الذات. فرّغ كرامته واعتداده بنفسه. الآن يريد منه المواجهة في حرب غير متوائمة. الكورونا مسلّح. الانسان لا سلاح له إلا الجلوس في البيت والانتظار. لا دواء، لا لقاح. ليس ذلك فقط، بل الكورونا لديه مشروع أممي، الانسان يقاتل مشرذماً على عدة جبهات دون سلاح في أيام تراجع الديموقراطية. كان على الرأسمالية الليبرالية أن تتعلم شيئاً واحداً وأساسياً؛ عدوك موحد، فأنت يجب أن تتوحد. لا تتوحد بالتعاون الانساني الكلي وما يسميه الرأسماليون اشتراكية يكرهونها. لا يبدو الأمر كذلك. لم يستطع النظام العالمي التوحد على الكمامات وأجهزة التنفس، وحتى توحيد المعلومات. تتحدث التوقعات العلمية الجدية عن موجات جديدة من الوباء وهذا مخيف.
صار مصير البشرية ووجودها مرتبطاً ببقاء الرأسمالية ووجودها. أنماط جديدة من التعاون الانساني هي المطلوبة، لا الفاشية وأدواتها. لم تتعلّم الرأسمالية العالمية من التاريخ عدة مرات؛ ربما كان التاريخ الى جانبها في الماضي، وهو ليس كذلك اليوم. إصرارها على أساليب العمل المعهودة والمألوفة يهدد الحضارة العالمية. فهل تتعلّم الدرس؟ هل تتعلّم من التاريخ؟ أم أن الدرس الوحيد الذي تعلمته من التاريخ هو أن لا تتعلم من التاريخ؟
استطاعت البشرية في القرن الماضي التعاون في وجه الفاشية والنازية. تستطيع الآن التعاون في وجه الكورونا والجوائح الآتية؟ لا تستطيع ذلك؛ ما زال المال بينها وبين الناس، بينها وبين شعوبها. لم يعد المال أداة تبادل، صار أداة سيطرة. فهل تتخلى الرأسمالية عن أداة السيطرة الرئيسية؟