في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية”، يقول الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان إن خطة اغتيال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أعطيت تسمية “أولمبيا 1” تيمناً باسم أحد اكثر المطاعم شعبية في تل ابيب. كانت الخطة تقتضي بإرسال شاحنة محملة بحوالي طنين من المتفجرات لوضعها في محيط أحد المدرجات في غربي بيروت (يقول الكاتب مخطئاً شرقي بيروت) حيث كانت منظمة التحرير تعتزم إقامة احتفال في نهاية ديسمبر/ كانون الأول في ذكرى انطلاقتها (إنطلاقة فتح). كان من شأن هذا الانفجار أن يطيح بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. تم تجاهل خطة “أولمبيا 1” واعتماد خطة بديلة أسميت “اولمبيا 2″. هذه الأخيرة تقضي بأن يقوم عملاء لـ”إسرائيل” بزرع عبوات ناسفة تحت منصة الشخصيات الرسمية المشاركة في مهرجان ذكرى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في الملعب البلدي في بيروت (الطريق الجديدة) في الأول من يناير/ كانون الثاني 1982 “وبكبسة زر واحدة.. يتم تدمير كل شيء”، يقول بيرغمان.
أطاح وزير الدفاع أرييل شارون فجأة بأفيغدور يانوش بن غال قائد المنطقة الشمالية (الحدود مع لبنان). يقول بيرغمان “تخيلوا ان الجنرال (بن غال) الذي كان يخطط لقتل العشرات من القيادات الفلسطينية والذي شنّ حرباً سرية بلا هوادة ضد الفلسطينيين في لبنان، كان في نظر شارون رقيق القلب ويفتقد للرؤية الجذرية. لذلك، قرر إبعاده عن قيادة المنطقة الشمالية في مطلع ديسمبر/ كانون الأول 1981 ليُعيّن مكانه جنرالاً اقرب الى قناعاته، وهذا ما القى الضوء على ما كان شارون يخطط له لبنانياً.
في العشرين من ديسمبر/ كانون الأول 1981، تمكن ثلاثة عملاء جندهم قائد “منطقة جنوب لبنان” مائير داغان من الوصول الى المنصة الرئيسية التي يجري اعدادها للاحتفال في الملعب البلدي في بيروت، وزرعوا كمية هائلة من المتفجرات تحتها حيث كان سيجلس كل قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهذه المتفجرات كانت موصولة بآلة تحكم عن بعد للتفجير. وفي موازاة ذلك، وفي احدى قواعد العمل السري على بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود مع لبنان، جرى تحميل ثلاث آليات بالمتفجرات، إحداها كانت شاحنة تحمل طناً ونصف الطن بالإضافة الى سيارتي “مرسيدس” سياحيتين تحمل كل واحدة منهما حوالي 300 كيلوغرام من المتفجرات، وكان يفترض ان يقوم عملاء شيعة من “منظمة تحرير لبنان من الغرباء” بقيادة هاتين الآليتين الى بيروت ويتم ركنهما على مقربة من حائط الملعب (البلدي) لجهة منصة الشخصيات المهمة ليتم تفجيرهما عن بعد، وذلك بعد مرور دقيقة واحدة على الانفجار في المنصة حيث تكون الناس في حالة من الذعر ويكون من نجا من انفجار المنصة يحاول الهروب بعيداً. ويقول احد كبار ضباط المنطقة الشمالية “ان الدمار وعدد الضحايا الذي كان سينجم عن هذه العملية لم يكن مسبوقاً أبداً”.
مائير داغان: لو سمحوا لنا بشطب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لكنا وفّرنا على انفسنا حرب لبنان التي وقعت بعد ستة اشهر كما وفّرنا على أنفسنا عدداً لا يحصى من المشاكل التي أعقبت ذلك
رفع رئيس الأركان رافاييل ايتان تقريرا عن العملية المزمع تنفيذها الى الضابط الأعلى منه افراييم سنيه مضيفا في تقريره “إذا سارت الأمور على ما هو مخطط لها فان اللائمة ستقع علينا نحن (إسرائيل)”، وقال سنيه لاحقاً عن العملية “مسؤولو منظمة التحرير الذين سينجون من التفجير في ملعب كرة القدم سيعرفون مباشرة ماذا عليهم ان يفعلوا لمهاجمة إسرائيل لخرق وقف اطلاق النار ولكي يعطوا شارون التوّاق لغزو لبنان الذريعة للقيام بذلك”.
كان كل شيء يسير وفق المخطط الى ان سرب أحدهم الى نائب وزير الدفاع موردخاي تسيبوري تفاصيل العملية قائلاً “سيكون من ضمن الحضور على المنصة الرئيسية العديد من الدبلوماسيين ومن ضمنهم السفير السوفياتي في لبنان ألكسندر سولداتوف”. كان تسيبوري يكره شارون ويشكّك دائماً بنواياه فاتصل بالضابط الذي كان مسؤولاً عنه أيام منظمة “ارغون” السرية (رئيس الوزراء) مناحيم بيغن وقال له “ان قضية وجود السفير السوفياتي بحد ذاتها مسألة خطيرة ولكن الأخطر منها انه (شارون) مرة أخرى كان يعمل على تنفيذ عمليات بهذا الحجم من دون موافقة الحكومة المصغرة”.
صبيحة 31 ديسمبر/ كانون الأول، وقبل يوم واحد من تنفيذ عملية “اولمبيا 2″، استدعى رئيس الأركان رافاييل ايتان (كان قد تولى منصبه الجديد هذا) العقيد مائير داغان الذي ينقل عنه قوله “بصورة مفاجئة سمعت بان شارون امرنا ان نتوجه الى مكتب رئيس الوزراء لتقديم خطتنا والحصول على الموافقة المسبقة عليها، كان يوماً ماطراً بغزارة وقال لنا رافاييل إيتان انه حفاظاً على سرية الامر، سوف يأتي الى مقر قيادة المنطقة الشمالية ليأخذني ونطير معاً الى مكتب بيغن في تل ابيب”.
يعرض الكاتب رونين بيرغمان للحوار الذي دار في مكتب بيغن بالقول إن الأخير إستهله بإستفساره الحاضرين: “يقولون انه من الممكن ان يكون السفير السوفياتي موجودا على المنصة”، فرد عليه داغان “هذا الامر غير صحيح، هناك احتمال ضئيل ان يكون السفير السوفياتي او أي دبلوماسي أجنبي على المنصة”، فسأل بيغن رئيس “أمان” يوشوا ساغوي عن رأيه فأجاب “من المحتمل ان يتواجد دبلوماسي سوفياتي على المنصة وسيؤدي ذلك الى ازمة خطيرة مع الاتحاد السوفياتي”. ينقل بيرغمان عن ساغوي قوله لاحقاً “لقد قلت لبيغن إنه من المستحيل ان نقتل جمهور ملعب كرة قدم بأكمله بهذه الطريقة، ماذا برأيك سيحصل في اليوم التالي لوقوع هكذا مجزرة؟ ستقوم قيامة العالم كله علينا ولن ينفع إن كنا أقرينا بمسؤوليتنا عن العملية أو لم نقر، فالجميع سيعلم اننا نحن من فعلها”. اما داغان وايتان وشارون فقد حاولوا اقناع بيغن بالقول ان هذه الفرصة لن تتكرر لكن رئيس الوزراء اخذ موضوع وجود السفير السوفياتي على محمل الجد وامر بوقف العملية على الفور.
ينقل بيرغمان عن داغان قوله “في النهاية، تبين انني كنت على صواب فلم يحضر الاحتفال السفير السوفياتي ولا أي دبلوماسي اجنبي، ماذا نستطيع ان نفعل فقد امر رئيس الوزراء بوقف العملية فاوقفناها واصبح لدينا عمل معقد جدا هو استعادة المتفجرات التي ارسلناها”.
أعطى بيغن الضوء الأخضر لعملية أخرى تحمل اخطارا اقل على المدنيين او الدبلوماسيين الأجانب، فقد أفادت تقارير المراقبة لكبار مسؤولي منظمة التحرير انهم يغادرون مرة في كل شهر (يوم جمعة) في موكب من سبع سيارات “مرسيدس” فاخرة من بيروت باتجاه سوريا ومنها الى الأردن حيث يعقدون اجتماعات ويستمتعون بنشاطات ترفيهية، وكان عرفات من ضمن هؤلاء.
حتى لو تمت عملية “اولمبيا 2” او تفجير الموكب في طريقه الى دمشق، فإن شارون وايتان ما كانا ليشبعا لانهما كانا يملكان استراتيجية اكبر تتضمن خلق نظام جديد ليس في لبنان وحده بل في كل الشرق الأوسط
في إحدى ليالي شهر فبراير/ شباط عام 1982، قامت مجموعة من وحدة “قيساريا” باستطلاع احد تقاطعات الطرق التي يمر الموكب عليها ذلك الموكب شهرياً (طريق بيروت دمشق في منطقة الجبل) وفكّكت إلاشارة الضوئية واستبدلتها بواحدة مصنعة في القسم التكنولوجي لـ”الموساد”، وكانت هذه تحوي على الة تصوير تنقل صوراً حية الى مقر قيادة “الموساد”. وفي يوم الجمعة الخامس من مارس/ اذار 1982 عند الساعة الثالثة فجراً، وقبل ساعات قليلة من مرور موكب منظمة التحرير، وصلت الى التقاطع مجموعة أخرى من “قيساريا” ومعها كمية كبيرة من المتفجرات وبدأت بزرعها بطريقة احترافية إلى جانب الطريق مع صاعق والة تفجير يجري التحكم بها من مقر قيادة “الموساد” في تل أبيب. ووفقاً للخطة كان يفترض بهذه المجموعة ان تغادر مسرح العملية وتعود الى “إسرائيل” بعد الإنتهاء من زراعة العبوة، على أن تتم مراقبة الطريق من قبل عملاء محليين ويتم ترك إشارة على احدى الشجرات مرئية جيدا من مركز المراقبة في تل ابيب لتفجير العبوة عند وصول الموكب الى هذه النقطة.
يتابع بيرغمان القول ان كل شيء كان يسير على ما يرام حتى مطلع الفجر عندما رأى احد رجال الشرطة المحلية (اللبنانية) السيارتين اللتين وصل بهما الفريق “الإسرائيلي”، وكان عناصر “قيساريا” راكعين قربهما، فسألهم الشرطي اللبناني باللغة العربية “ماذا تفعلون هنا؟” فأجابه احد عملاء “الموساد” بالقول”كنا في حفلة زفاف ويبدو اننا اكلنا طعاماً فاسداً فتوقفنا هنا لنتقيأ”، وقام اثنان من أعضاء المجموعة بتلقيم مسدسيهما، ولكن الشرطي قرر متابعة طريقه من دون المزيد من الاستفسار. فشكك العملاء في ما اذا كان الشرطي قد صدّق روايتهم او انه ذهب لاحضار تعزيزات، فقررت القيادة في تل ابيب ان لا تجازف في الامر، فتوافق رئيس الوزراء ووزير الدفاع على الغاء العملية وعاد الفريق الى “إسرائيل”.
ورداً على تساؤل بيرغمان عما كان سيحدث لو ان بيغن سمح لداغان بالمضي قدماً في تنفيذ عملية “اولمبيا 2″، وماذا لو أن الشرطي لم يمر قرب فريق “الموساد” في تلك الليلة، يقول مائير داغان “كان تغير مجرى التاريخ بصورة مختلفة تماماً، فلو سمحوا لنا بشطب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لكنا وفّرنا على انفسنا حرب لبنان التي وقعت بعد ستة اشهر كما وفّرنا على أنفسنا عدداً لا يحصى من المشاكل التي أعقبت ذلك”. آخرون يقولون انه حتى لو تمت عملية “اولمبيا 2” او تفجير الموكب في طريقه الى دمشق، فإن شارون وايتان ما كانا ليشبعا لانهما كانا يملكان استراتيجية اكبر تتضمن خلق نظام جديد ليس في لبنان وحده بل في كل الشرق الأوسط. وامام ما حصل، التزم هذان الشخصان الصمت وجلسا ينتظران ذريعة جديدة لشن الحرب ضد لبنان.