ما ان وطأت اقدام الاميركيين ارض العراق، حتى افعم التفاؤل خطابهم، فالرئيس الاسبق جورج بوش الابن يبشر بان العراق سيكون نموذجاً للديموقراطية في المنطقة، قال ذلك وإمتدت حساباته الى الشرق من العراق، كما الى الغرب منه، من دون ان يكون من هم الى جنوبه وشماله معنيين بالتغيير، ولعل المشكلة ان الرئيس بوش لم يلبث ان ضم النقيض الى النقيض، فوصف العراق بانه سوف يكون (الخط الاول في مواجهة الارهاب)، وبعد سلسلة عمليات دامية نفذها تنظيم “القاعدة” في صيف 2003، دعا الرئيس الأميركي عناصر التنظيم الى (اخراج ما في جعبتهم). لاحقاً اخذ اركان الادارة الأميركية يرددون عبارات مفادها ان النظم الدكتاتورية في دمشق وطهران اخذت (تتصبب عرقا) خشية تصدير النموذج العراقي (الديموقراطي) اليها!
على ايقاع الاضطرابات واعمال العنف التي اختلطت فيها عمليات المقاومة للاحتلال بالعمليات الارهابية، كانت العملية السياسية العراقية تتحرك بإيقاع بطيء ومتعثر، يمتزج فيه السياسي بالأمني بـ”البيزنس” الأميركي ـ العراقي المشترك الذي أسّس لمنظومة فساد ما يزال العراقيون يعانون من تداعياتها حتى يومنا هذا.
في قاموس ايران وسوريا، لم يكن مقبولا السماح للاميركيين بأن تقر لهم قدم على الارض ولم يتقبل اي منهما ان يصحو ذات صباح ليجد مئة وثمانين الف جندي اميركي يكتنفون حدوده ويتوسطون الجغرافيا بينه وبين حلفائه. كان لا بد من اتخاذ قرار بمنع الاميركيين من تثبيت مواطىء اقدامهم في العراق. مضت العملية السياسية العراقية التي افرزت الشيعة كاغلبية سياسية نيابية منوط بها تشكيل الحكومة. وفيما كانت ارتال الدوريات الاميركية الجائلة تتعرض للهجمات بالعبوات الناسفة وتدك المعسكرات بقذائف، ايرانية المنشأ، نجحت طهران في مد خطوط نفوذها الى قلب العملية السياسية لممارسة نوع من التأثير يمكن أن يقوّض المشروع الاميركي.
بدا ان الايرانيين يربحون بالنقاط فيما كانت مؤشرات السوريين تتجه نحو الطمأنينة كلما غاصت القدم الاميركية اكثر في مستنقع الموت العراقي الموحل. لم يقتصر الأمر على التفرج. نظمت أجهزة الأمن السورية عملية تطويع لكل إسلامي سوري راغب بالشهادة، وشكل تقاطع الأجهزة السورية مع بعض الرموز البعثية التي فرت إلى سوريا، مناسبة للتشبيك وضخ المقاتلين. كانت دمشق تعتبر أن ذهاب هؤلاء لتفجير أنفسهم بالأميركيين في العراق، خدمة لا تقدر بثمن لها. قالها مسؤول سوري بالفم الملآن لزواره العراقيين:”وان واي تيكيت”!
انكشفت ثغرة الفساد وثبُتَت فضيحة الضعف السياسي والعجز عن صون السيادة والانشغال بنهب الثروات عن اداء الامانة الوطنية لدى الساسة العراقيين
وبتقييم مماثل، رأى حزب الله، حليف طهران الابرز في لبنان، ملامح المشهد جيداً وادركت قيادته ان الاميركيين ليسوا في افضل حالاتهم. الا ان الاميركيين ليسوا ممن يرخي قبضته باليسر المتصور كالقوى التقليدية. اذ اعتمدوا المحاولة واعادة المحاولة ترقباً وتفحصاً لثغرة في الجدار الاصم الذي اقامته طهران، بكل أذرعتها وتحالفاتها، حائلاً بين واشنطن وتحقيق اهدافها. ووفق مبدأ التجربة والخطأ الذي اعلنه وزير الدفاع الاميركي الاسبق دونالد رامسفيلد، آثر الاميركيون الاحتواء والصبر ريثما تتضح ملامح الصورة.
عراقياً، افرزت العملية السياسية ومنظومة التحاصص، البعيدة كل البعد عن معايير الكفاءة والنزاهة، منظومات من الفساد والمحسوبية والزبائنية اطاحت بكل امل للعراقيين في النهوض والتنمية وخرّجت افواجاً من السرّاق والمختلسين في الكتل السياسية المصنفة حليفة لطهران، على تهاوٍ في البنية التحتية وهدر للمال العام وفشل مدو في الخدمات وتآكل في المنظومة الامنية، فأدى ذلك كله إلى إنهيار مروع صيف 2014 عند اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية (“داعش”) لاربع مدن عراقية كبرى واستيلائه على ملاك ثلاث فرق عسكرية من السلاح والعتاد، في مشهد اظهر دوراً مخجلاً للساسة العراقيين في اسلوب بناء القوات المسلحة واعدادها، ما دفع بالقيادة العراقية حينها الى الاستنجاد بالفصائل المقاومة للوجود الاميركي والتي كانت تصفها بالخارجة على القانون. وبالفعل، سارعت الفصائل لاتخاذ مواقعها وانخرطت في معركة عاجلة ضد تنظيم الدولة الذي اظلّ خطره العاصمة بغداد.
وبدعم ايراني، يقوده وينسّقه قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، اعتدلت كفة الصراع شيئاً فشيئاً وتحول العراقيون من مدافعين الى مهاجمين.
كان من شواهد نكوص السياسة العراقية ان الحكومة طلبت تدخلاً اطلسياً (اميركياً) عاجلاً لتدارك الانهيار الامني الكبير. وقد قَدِمَ هذا الدعم على الهوينى بعد الحاح عراقي مؤسف. وكان ان انكشفت ثغرة الفساد وثبُتَت فضيحة الضعف السياسي والعجز عن صون السيادة والانشغال بنهب الثروات عن اداء الامانة الوطنية لدى الساسة العراقيين.
كشفت حرب 2006 قدرات حزب الله الذي حقق تفوقاً ميدانياً اصاب الاسرائيليين بالاحباط، كما اظهرت حجم الدعم العسكري الممرر من طهران ودمشق لحليفهما اللبناني، وعزّزت الحرب من الثقة والثقل للحزب وقيادته
لبنانياً، تعمق الانقسام الطائفي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005 وظنت القوى والشخصيات السياسية اللبنانية المناوئة للوجود السوري انها ستجد في مخرجات تحقيق الضابط الألماني ديتلف ميليس في جريمة الحريري، ثم الانسحاب السوري من لبنان تنفيذاً لقرار مجلس الامن الرقم 1559 ثم لجنة سيرج براميرتز ممراً مهلكاً لحزب الله وسلاحه وحلفائه في الداخل. الا ان تصور قوى 14 اذار/مارس، كان مُسرفاً في تفاؤله، حائفاً في كثير من الاحيان في تصوير الحزب وقيادته على انهم مجرد وكلاء لطهران واذرعة للاسد ينفذون عملية تصفية لخصوم سوريا من السياسيين والصحافيين في لبنان، ولم تكن دعوة الكثيرين منهم الى نزع سلاح حزب الله وحصر السلاح بيد الدولة، إلا في سياق مسار مهد له الإحتلال الأميركي للعراق في أيار/مايو 2003 ولاحت تباشيره في العام التالي مع صدور القرار 1559، وجاءت تسريبات محاضر اجتماع مجلس الامن القومي الاميركي والعديد من الإفادات ولاحقا وثائق ويكيليكس لتصب في الخانة نفسها.
جرت محاولات لإحراج حزب الله. إختار رئيس المجلس النيابي نبيه بري أن تكون طاولة الحوار برئاسته في مجلس النواب أفضل وعاء لإستكشاف نوايا جميع الأطراف. في هذا الحوار (مطلع 2006)، سارع حزب الله وعلى لسان امينه العام السيد حسن نصرالله الى رفض اية محاولة لطرح سلاح المقاومة للنقاش في ظل ضعف وسائل الدفاع لدى الجيش، وطالب بأن تلحظ الإستراتيجية الدفاعية تكامل جهود الجيش والشعب والمقاومة (المعادلة التي تم إعتمادها لسنوات).
وفي خضم جلسات الحوار، جاءت حرب تموز/يوليو لتجعل حزب الله أكثر تمسكاً بسلاحه الذي منع إسرائيل من تحقيق أهداف حربها، وفي الوقت نفسه، أظهرت الحرب عدم مناعة الجسم اللبناني، سياسياً في مواجهة العدوان، كما بيّنت أن هناك من كان يتخيل أميركياً وإسرائيلياً وخليجياً أن فرصة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان والإحتلال الاميركي للعراق، لن تتكرر، وبالتالي، هذه هي الفرصة المؤاتية لاستئصال القوة العسكرية لحزب الله، الا ان جولات الحرب ذات الثلاثة والثلاثين يوما برهنت على ان الحرب لا يمكن حسمها من الجو وببنك أهداف تبين أنه فقد صلاحيته.
الحسم كان ممكناً في معارك المشاة على الارض، وهنا كان مقتل سلاح “الميركافا”، مضافاً الى فشل اسرائيلي في ايقاف رشقات الصواريخ المنهمرة على المستعمرات شمالي الارض المحتلة حتى ساعة تطبيق وقف اطلاق النار ومن منصات اطلاق جرى تمويهها بمهارة عالية.
كشفت حرب 2006 قدرات حزب الله الذي حقق تفوقاً ميدانياً اصاب الاسرائيليين بالاحباط، كما اظهرت حجم الدعم العسكري الممرر من طهران ودمشق لحليفهما اللبناني، وعزّزت الحرب من الثقة والثقل للحزب وقيادته، ولو أن ذلك كله ما كان كافياً حتى يكتب النجاح لمعركة إزاحة فؤاد السنيورة من السراي الكبير، طوال سنتين، إلا بعد السابع من أيار/مايو 2008 وإلتئام مؤتمر الدوحة وإنتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، وإعادة تكليف السنيورة على رأس حكومة جديدة، لكن وفق قواعد ميثاقية جديدة، أصابت الطائف في صميمه، وكان عنوانها الأبرز تكريس الثلث الضامن أو المعطل في مؤسسة مجلس الوزراء وحرمان مناوئيه من اية مزية قد تغري بالمضي في الاستثمار والإستئثار.
هذا في بيروت، أما في بغداد، فقد إنطوى العام 2008 على تطور سياسي كبير: توقيع الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية القاضية بإنسحاب القوات الأميركية المقاتلة من المدن والقرى والقصبات العراقية بتاريخ لا يتعدى حزيران/يونيو 2009، على أن تنسحب جميع القوات الأميركية بتاريخ لا يتعدى 31 كانون الأول/ديسمبر 2011، وتحل محلها القوات العراقية. إتفاقية أسست للحد من تداعيات الإحتلال ـ الزلزال الذي ما زالت المنطقة ترزح تحت تداعياته حتى يومنا هذا.
(*) غداً الجزء الثاني والأخير: الكاظمي ودياب مرشحا الضرورة