ظهيرة الحادي والعشرين من أيار/مايو 2000، احدٌ مشمسٌ. مجموعة من الرجال والنساء انهوا لتوهم مراسم العزاء، واتجهوا بموكب واحد سيراً على الاقدام على طريق اسفلتي ينحدر من أعالي قرية الغندورية نحو وادي الحجير فصعوداً باتجاه قرية القنيطرة. رفعوا العائق الحديدي عند حاجز فنلندي تابع لقوات “اليونيفيل” في الجنوب اللبناني، ومشوا. “أهالي القنطرة يعودون الى قريتهم المحتلة”، لم يستغرق الامر كثيرا حتى تركنا مائدة الطعام في قرية فرون وإلتحقنا بمواكب العائدين.
هذا الطريق نعرفه ليلاً، هو أحد منافد تسلل المقاومين نحو عمق المناطق المحتلة. رائحة الطيون. خرير التدفق الخجول لمياه النهر. خريرٌ كان يكسر حدة الصمت والخوف معاً. أشجار باسقة وأعشاب تتسلق منحدرات الوادي القاسية لتتقابل مع أخرى عند السفح المقابل. تحت كل حجر وقرب كل جذع، بقايا انين من سقط من الشهداء المقاومين بفعل غارة او قصف او كمين غادر.
إجتزنا “عين الماء”، هل نشرب منها، ام نعبئ بعض “مطراتنا”، لكننا لسنا في مهمة ولن ينقص الماء منا، انظروا. تلك هي غرفة “ام علي غصين” سحبت قوة كوماندوس إسرائيلية زوجها من بين يديها وأيدي اطفالها، وهم يصرخون ويبكون، يستجدونه العودة دون طائل الى ان اختفى امامهم والسبب ان غرفته كانت “بريد طعام” للعابرين من المقاومين على اختلاف احزابهم. ابحثوا عن الطعام ربما تركت “ام علي” لنا شيئاً نأكله، في موسم التحرير.
انها القنطرة، موقعها العسكري الشهير. لا اثر لعناصره اللحدية التي غادرته قبل وقت قصير. أبراج الانارة مصوّبة باتجاه الوادي. دشمٌ ضخمةٌ تبدو عليها اثار رصاصات وقذائف المقاومين. اسلحة وذخائر مرمية على الأرض. أي إحساس يراودك وانت تقف في المكان الذي كان يراك منه عدوك، وطوال الوقت، أنت تفكر كيف تموّه حتى لا يراك. العملاء فروا لكن على الحائط في غرفة منامتهم صور ممزقة للعميلين عقل هاشم وانطوان لحد.
دير سرياننا تحررت
استغرق الوصول الى بوابة عدشيت القصير في الجهة المقابلة للقنطرة بعض الوقت بسبب ازدحام السيارات المتجهة نحو القنطرة، أولى قرى التحرير. كانت البوابة الحديدية مقفلة وخلفها يقف عناصر من القوات الفيدجية (القبعات الزرق). تفاوضٌ سريعٌ لم يدم طويلاً افضى بأن يقرر الأهالي نزع البوابة من مكانها.. وانطلقنا مسرعين. عناصر المقاومة على دراجاتهم النارية يسابقوننا لكنهم لا يبتعدون كثيراً عنا. كنا بينهم وكانوا بيننا. يريدون حمايتنا وأن يحتموا بالمشهد الشعبي الإستثنائي.
العبوة كانت هنا، زُرِعَت في عبارة المياه تحت الطريق العام في دير سريان حيث تمر دوريات الاحتلال، ذات ليل من أيلول/سبتمبر من العام 1988. خفّف سيرك، نحن فوق العبوة مباشرة، “قال رفيقي”. يومذاك، لم تنفجر القنبلة، ولو انفجرت، كنا قد وقعنا في الاسر أو سقطنا جرحى أو قتلى. فلنتجه ناحية المنزل الذي إعتقلنا فيه. شجرات الزيتون تتوزع حول ركام منزل وقد سوي أرضاً بعد ان جرى تفجيره. لا شيء يشبه ما جرى في ذلك النهار، يوم نفذت الطائرات الحربية غاراتها على كتف الوادي المؤدي من دير سريان نحو نهر الليطاني. كان المنزل يرتجف عند كل غارة، قبل ان ينهمر عليه الرصاص من كل صوب. لماذا لم ننتبه الى صاحب ذلك المنزل الذي وشى بنا ما أن كنا نهم لتجاوز الطريق، لماذا لم نتخذ من شجرة ما مكمناً لنا.عندها سنشاهد دبابة الميركافا قبل ان تتقدم نحونا، وسنتمكن من الإفلات من الطائرة المروحية التي تحلق فوق المنزل وترميه بين الحين والآخر بصلية، فنتمكن من الفرار نحو مجرى النهر. كل شيء على حاله، المنزل المحطم شاهد على حادثة ما وقعت هنا في زمن ما، وعلى الرغم من انه لا وجود لاي اثر للرصاص الذي حاول اختراق الجدران ليصل الى الجسد، فإن ترقب الموت في تلك اللحظات العصيبة لا يغيب عن البال، لا دورية للمحتل ننتظرها، كي نفجر بها العبوة ومن ثم ننقض عليها. وحده الطفل الذي مر قبل ساعات من وقوعنا في الاسر، تتردد اغنيته في البال بكثير من الفرح. فدير سريان تحررت.
بيت ياحون وكونين.. الدومينو
صارت قرى الجنوب اشبه بحجارة دومينو. الواحدة تسقط اثر أخرى. انتهى اليوم الأول عند ساحة قرية الطيبة. تجمعنا في صباح اليوم الثاني، صعودا من وادي السلوقي نحو حولا التي تحررت في اليوم الثاني ومعها قرية ميس الجبل قبل ان يعود الاحتلال ويقطع الطريق بين حولا وميس الجبل حيث استهدفت مواقع الإحتلال بضعة سيارات مدنية. فكان ان توجهنا صوب تبنين. طابور طويل من السيارات اصطف على جانبي الطريق ينتظر. ساعات وتتحرك دراجات نارية لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، تشق طريقها وخلفها موكب من السيارات يتبعها.
الوصول الى بيت ياحون وتحديداً الى معبرها دونه الكثير من المخاطر، فهي طريق تتراءى لها من بعيد عدة مواقع عسكرية لجيش الاحتلال، فماذا لو اطل احدهم ورمى نحونا عدة رشقات، أي مجزرة كانت ستقع؟
وسط دوامة من القلق، انطلقت الدراجات مسرعة جداً مبتعدة عن قافلة السيارات، تقدمنا بدورنا، وإذ بعدد من عناصر جيش العميل أنطوان لحد وقد خلعوا نصف ثيابهم، ووقفوا الى حائط قرب حاجز معبر بيت ياحون، هذا المعبر كان عنواناً للذل والاهانة والاعتقال. هذا المعبر ـ وغيره ـ بمثابة قيد يزنّر معصم المناطق المحتلة. ها هم عناصر المعبر نصف عراة يضعون اياديهم فوق رؤوسهم وقد إستسلموا للمقاومين.
أكملت القافلة طريقها وما ان بلغت مشارف كونين حتى عَنُفَ القصف في محاولة لتأخير الزحف البشري. علق بعضنا في بيت ياحون، والبعض الاخر في قرية كونين التي تعرضت بدورها لاطلاق النار من مواقع العملاء في منطقة صف الهوا عند مدخل مدينة بنت جبيل. لم يتوقف اطلاق الرصاص باتجاه محيط كونين. هدير طائرة الاستطلاع يخترق مسامعنا ونحن نتنقل بين ازقة القرية الصغيرة المحررة لتوها. بيوت فقيرة تركت على حالها منذ شيدها أصحابها بالحجر والطين. سيارات قليلة مركونة بين حي وآخر، لوحاتها اجنبية، كان الأهالي يبتاعونها من مافيا لحدية اغرقت الشريط الحدودي المحتل بالسيارات المهربة عبر مرفأ الناقورة المحتل.
وتيرة القصف تتصاعد، وكلنا خشية أن تتوقف لحظة التحرير وتصبح حلماً. ماذا لو قرر الإسرائيلي تجميد الانسحاب؟ كان جواب المقاومين ضحكة واثقة أطلقها أحدهم وهو يضع على رأسه قبعة سوداء، قيل لنا لاحقاً انه ربما “الحاج رضوان” (القيادي الراحل عماد مغنية). هدأ القصف بعد صلية من الصواريخ اطلقت باتجاه المواقع والدبابات المتمركزة عند تقاطع عيناتا – بنت جبيل (صف الهوا)، ليعمّ صمت مخيف امتد لساعات الصباح، وقرر البعض من الرجال الإختباء مع المقاومين في مسجد البلدة القديم.
عيترون البداية.. والنهاية
قاربت الساعة الرابعة والنصف فجراً. تحركت عدة سيارات من بيت ياحون نزولاً نحو كونين. اختفى “الحاج” وانطلقت الدراجات النارية والتقت مع تلك القادمة من بيت ياحون في موكب واحد صعوداً نحو صف الهوا. ملامح الصبح بدأت ترتسم بخط من الضوء الفضي فوق تلال عيناتا وبنت جبيل، فكلما اقتربت السيارة وأصبحت بين الدراجات النارية أشار احدهم بضرورة التمهل والتراجع قليلاً.
تقاطع الطرق عند صف الهوا لا اثر فيه للعناصر العميلة، دبابات واليات عسكرية تركت كما هي. الموكب تفرق، البعض انعطف يساراً ناحية عيناتا واخر ذهب يميناً ناحية عين ابل. أكملت السيارة طريقها مسرعة نحو مدينة بنت جبيل، وما ان وصلنا السوق، كان العشرات من العملاء في سلاحهم وثيابهم العسكرية يتجمهرون. ينتظرون، شقت السيارة طريقها مسرعة مطلقة الابواق والاضواء. تفرق العملاء، شمالاً ويميناً، لكن أياً منهم لم يجرؤ على اطلاق النار صوب السيارة التي وصلت منطقة رأس العقبة عند مشارف عيترون. هدوء كامل، معه تسمع نبضات القلب. هي لحظات إختلطت فيها مشاعر الفرح بالخوف من المجهول.
عيترون، تسحب الذاكرة الى صبي المقعد الدراسي، والمقاوم ابن الـ 14 ربيعاً الذي اتى بمهمة لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ليقتل عميلاً، لكنه لم يوفق، امامه عدد من العملاء لا يتجاوزون أصابع اليد يحمون سبعين عميلا داخل حسينية القرية. البندقية تقابلها بنادق ترتجف. الخوف يغمر وجوه العملاء وهم يستعدون لتسليم أنفسهم للمقاومين. مشهد يختزل الحكاية. هؤلاء الذين كانوا قبل ساعات قليلة فقط يقبضون على انفاس الأهالي والقرى، جل ما ينتظرونه اليوم بضعة تطمينات بأنهم لن يعلقوا على المشانق. استجداء ومن ثم طلب بعدم اطلاق النار وتبرير عمالتهم. بدأت طلائع السيارات والدراجات النارية تصل تباعاً الى ساحة قرية عيترون وقد بدأت الناس مع اشراقة الشمس بالخروج من منازلها على وقع الزغاريد ونثر الورود والأرز وإطلاق النار فرحاً وإبتهاجاً.
معتقل الخيام.. لوح كتابة
تمركزت قوة من الجيش اللبناني عند معبر زمريا في القاطع الشرقي لمناطق الشريط الحدودي المحتل. تولت التدقيق بهوية العابرين نحو الجنوب وتحديداً عبر معبر أبو قمحة، وهو الإسم الذي لمع في سجل العمليات الجريئة والنوعية للمقاومة. هنا تآخت الطبيعة الوعرة والقاسية مع المقاومين. أشجار الكينا على ضفاف الحاصباني تلفح وجوه الآتين. نلتقي بقافلة الاسرى المحررين لتوهم من معتقل الخيام. من يصافح يد اسير تمتد من نافذة الباص كالذي يفوز بالجنة.. هنا الخيام.. يعيدنا المكان إلى تلك الزنزانة الحمراء الصغيرة في سجون فلسطين المحتلة، مع فارق ان الزنزانة التي في معتقل الخيام حديدية، تختزن حر الصيف وبرد الشتاء، اما في فلسطين المحتلة، فهي اشبه بغرفة مشيدة من اسمنت، تختزن رطوبة دهر. غرفة التعذيب بالكهرباء، اسلاك على الأرض، العامود المخصص لـ”الشبح”، لكن أي وجه كان للمحقق هنا. الوحشية في معتقل الخيام لا معاناة تضاهيها، فكل معاناة مهما كان حجمها، تخجل امام معاناة نزلاء الخيام. خرج الاسرى على عجل، لم يتسن لبعضهم اخذ امتعته فتركها معلقة داخل الزنازين، تتجاور وأسماء مدونة على حائط غدا من كثرة ما حمل من أسماء لوح كتابة في مدرسة فريدة بالقهر وإرادة الحياة على حد سواء.
مرجعيون ورصاصات سهى
لا سيارات على الطريق الرئيسي لبلدة مرجعيون. البعض فر الى فلسطين قبل أيام فيما البعض الاخر احتمى في كنيسة جديدة مرجعيون، عدد كبير منهم اختبأ هناك، تذكروا فجاة رأفة المكان، طوال سنوات الاحتلال مارسوا ما طالبه منهم الاحتلال وفي بعض الأحيان تغلبوا عليه في التنكيل بالاهالي. مفرق صغير، حاجز حديدي مرفوع، ثم الترجل من السيارة. منزل قرميدي السقف محاط ببضعة أشجار من الصنوبر، يجلس حارس أمام بوابته وقد وضع سلاحه جانباً، وقرر أن يسلم نفسه للمقاومين. هو جزء من قوة عسكرية مسوؤلة عن تأمين الحماية الأمنية لمنزل العميل أنطوان لحد. كان الباب الخشبي للمنزل مقفلاً قبل ان يتم خلعه. ممر صغير يتفرع منه باب يؤدي الى مطبخ على اليسار يفضي الى صالون كبير، يتصل بغرف احداها تضم مكتباً ضخماً. على طاولة مكتب أنطوان لحد، مفكرة صغيرة لارقام هاتفية مختلفة وبعضها لسياسيين واعلاميين من المناطق المحررة. المسدس الشخصي لانطوان لحد. الطعام في البراد يدل على ان من كان يحتل المنزل قد غادره قبل أيام قليلة ان لم يكن قبل ساعات، ركوة قهوة وعدة فناجين موضوعة على الطاولة في المطبخ. لكن مهلاً، على اية كنبة في الصالون كان يجلس العميل لحد حين دخلت عليه المقاومة سهى بشارة واشهرت مسدسها نحوه لتصيبه بثلاث طلقات فيما العميل سيزار صقر وقف مصدوماً خائفاً يرتعب من رؤية الدم يتطاير من جسد كبير العملاء.
اتم الجنوب أيامه الأربعة، ليستوي في اليوم الخامس منه، أي في الخامس والعشرين من أيار/مايو عام 2000، على اعراس الحرية، بعد ليل دامس دام عشرين عاماً ونيف، تخلتله عذابات ومجازر وتهجير وتدمير واجتياحات وقصف، إضافة الى جنازات امتدت على مساحة الوطن لرجال ابطال قدموا حياتهم لأجل وطن بامل ان يأتي على شاكلة تضحياتهم. لكن للأسف، ها هم يجدون وطنهم أسير الفساد والمحسوبيات. وها هو التحرير مهدداً أكثر من أي وقت مضى بالإستعمار المالي والنقدي.