كما كان منتظراً، لم يكد يحل اليوم الأول من آذار/ مارس 2021، حتى جاء رد شركة “ألفاريز أند مارسال” على الرسالة التي كانت قد تلقتها الشهر الماضي من وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، بهدف إبلاغها موافقة مصرف لبنان على شمول التدقيق حسابات البنوك والمؤسسات المالية والخاصة لديه، وإستعداده لتسهيل حصول الشركة على أجوبة لم تتسلمها في محاولتها الأولى في العام الماضي.
وعلم موقع “180 بوست” أن شركة “ألفاريز اند مارسال”، تمنت على وزير المال في رسالة رسمية أن يبادر مصرف لبنان إلى ترجمة رسالته الأخيرة (التجاوب) بالإجابة عن الأسئلة السابقة التي لم يصلها منه أجوبة عليها إلا 45 في المائة إسمياً و15 في المائة فعلياً، بحسب التقييم الدقيق لشفافية لتلك الأجوبة، ما دفع الشركة، للإعتذار عن المضي قدماً في تنفيذ العقد مع وزارة المال اللبنانية، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
وسارع وزير المال إلى تسليم نسخ من رسالة “ألفاريز” إلى كل من رئيس الجمهورية ميشال عون، رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، كما أطلع رئاسة مجلس النواب ىعلى مضمون الرسالة إياها.
وفي حال تجاوب مصرف لبنان مع طلب شركة “الفاريز” التي كانت قد طلبت إنهاء عملها، في الخريف الماضي، فإن الأجوبة المطلوبة سيقدمها مصرف لبنان إلى وزارة المال التي ستخضعها للتقييم والدرس، قبل أن تخطو الخطوة التالية، سواء بالطلب من “ألفاريز” إرسال مندوبيها إلى لبنان أو إبلاغ حكومة تصريف الأعمال أن الأجوبة التي تسلمتها الوزارة لا تقدم أجوبة حقيقية على الأسئلة الموجهة إلى مصرف لبنان.
وفي المعلومات أيضاً، أن “الفاريز اند مارسال” ترى توسيع التدقيق تنفيذاً “للتوازي” مهمة صعبة للغاية، وإذا أصرت الحكومة اللبنانية على “التوازي” فقد تقبل الشركة المهمة على أن تلتزم بعقد جديد يمكنها من الإستعانة بشركات أخرى للتدقيق.
يذكر أن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل إعتبرت أن “التوازي” يفرض تعديل العقد مع شركة “ألفاريز أند مارسال” مع الإشارة الى حساب كلفة اضافية حتمية، بفعل شمول التدقيق، الى جانب حسابات مصرف لبنان، الوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة أياً تكن طبيعة هذه الحسابات.
أمام هذا الوقائع المستجدة، هناك جملة سيناريوهات كالآتي:
أولاً، أن تقرر شركة “ألفاريز” العزوف عن أي محاولة جديدة إذا ناور مصرف لبنان من جديد والتف على شرط حسن النية بذرائع هو “الأشطر” في تدبيجها دائماً. وبالتالي سيتوجب البحث عن شركة أخرى للتفاوض معها وصولاً الى اتفاق ما قد يهدر وقتاً اضافياً ضاع منه حتى تاريخه أكثر من شهرين منذ اقرار القانون الذي حُدّد عمره بسنة واحدة فقط.. وبكلفة مضاعفة لا يعرف لبنان من أين سيؤمن ملايين دولاراتها الثمينة والشحيحة بعد.
في حال تجاوب مصرف لبنان مع طلب شركة “الفاريز” التي كانت قد طلبت إنهاء عملها، في الخريف الماضي، فإن الأجوبة المطلوبة سيقدمها مصرف لبنان إلى وزارة المال التي ستخضعها للتقييم والدرس، قبل أن تخطو الخطوة التالية، بالطلب من “ألفاريز” إرسال مندوبيها إلى لبنان
ثانياً، أن يقدم مصرف لبنان عربون حسن النية فوراً وبشفافية مطلقة أي الإجابة عن أسئلة “الفاريز” كلها، فتقبل الشركة المضي قدماً بعقد جديد وبكلفة مضاعفة. وربما تنشأ عقدة الوقت المستزف، فالتدقيق في عشرات الجهات معاً ليس مسألة أشهر، بل سنوات. فمسألة الزمن هي الفخ الجديد المنصوب امام أي تدقيق. فالجهات السياسية تتبادل الاتهامات كل حسب حضوره في السلطة في هذه الفترة او تلك. منهم من يحمل الآخر فسادأ من 2009 إلى تاريخه، مقابل من لا يتواني عن شمول كل مرحلة ما بعد الطائف. وهنا عقدة العقد، فالفترة التي سيستغرقها التدقيق تتعلق بتحديد السنة التي من عندها يبدأ فتح الدفاتر. وذلك يحدد حكماً عدد جيش المدققين واختصاصاتهم المتشعبة جداً والأتعاب المضاعفة التي تطلبها الشركات عموماً.
ثالثاً، لم يعد سراً ان التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، الذي يرفع لواءه رئيس الجمهورية ميشال عون بدلاً عن ضائع “الاصلاح والتغيير” الذي ذهب مع الريح التسووية في 2016، يقابله طلب تدقيق في وزارة الطاقة، الوزارة التي ثبت فشلها وهدرها وفسادها الكهربائي والمائي الملتصق، بإسم التيار الوطني الحر. وفي هذا “التقابل التدقيقي” مشكل سياسي بالغ الخطورة لا علاقة له بالشفافية المزعومة التي حلت كالوحي لايقاظ الضمائر الميتة. إذ اصبح واضحاً استخدام التدقيق في متاريس سياسية وربما طائفية، ما يضيف الى المشهد المعقد في هذا الميدان تعقيداً مركباً يصعب معه الحلحلة الا وفق قاعدة “نسقط معاً أو نبقى سوياً”، ولا عزاء للشفافية، فلتذهب الى الجحيم هي الأخرى!
رابعاً، ربما ينتهي الأمر الى تدقيق مالي غير جنائي، لعدة أسباب ليس أقلها ان لا ثقة لهذا الطرف او ذاك بالقضاء اللبناني الذي قد تصله اخبارات من نتائج التدقيق الجنائي، وما يحصل من تخبط في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وتوظيفاته السياسية، ليس ببعيد عن الأذهان. فلا قيمة لتدقيق جنائي في ظل قضاء متهم بتسييس ملفاته وبعدم الاستقلالية.
خامساً، لم يطلب صندوق النقد الدولي صراحة تدقيقاً جنائياً، بل جل همه اجراء تدقيق يفضي الى تحديد حجم الخسائر، ثم توزيع أعباء تلك الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين والدائنين، لتستطيع الحكومة وضع خطة نهوض يواكبها الصندوق بقروض لإخراج البلاد من كبوتها على مراحل.
سادساً، اذا كانت المبادرة الفرنسية بنصوصها، وأدبيات الرئيس ايمانويل ماكرون وتسريبات الفرنسيين المعنيين بالملف اللبناني، توقفت امام مصرف لبنان ملياً واستخدمت تعابير اتهامية مثل المخطط الاحتيالي الذي بدد الودائع، وبالتالي دعت بشكل مباشر الى التدقيق الجنائي، فان الزخم الاتهامي المذكور اختفى تدريجياً في حنايا مبادرة تحتضر في ما هو أهم من ذلك سياسياً، فما بالك بالشق المالي؟
سابعاً، نحن أمام حكومة مستقيلة قد تستمر في تصريف الأعمال حتى آخر عهد ميشال عون، وسينسحب حيادها السلبي (خاصة بعد نيل رئيسها مشروعية دار الفتوى وبركة سعد الحريري) على أي نتيجة من نتائج التدقيق في أي جهة كانت من جهات “التوازي” الخالق لتوازن الرعب.
يتعين الاستنتاج ان التدقيق، برأي الواقعيين، لن يكشف للبنانيين على وجه الدقة العلمية المطلقة والمسؤولية الجنائية كيف انفقنا 250 مليار دولار (منها نحو 100 مليار قروضاً) في 30 سنة، وكيف تبددت مدخرات وودائع دولارية بأكثر من 100 مليار دولار، ولا كيف تراكم الدين العام
ثامناً، اذا تشكلت حكومة برئاسة سعد الحريري، وهذا الأمر غير متوفر حالياً، فانها ستتمخض عن تسوية تأتي بالتأكيد على مسألة التدقيق سواء بكيفية السير به من عدمه او بكيفية التعاطي مع نتائجه، ودائماً على “الطريقة اللبنانية”، وما “الإبراء المستحيل”، إلا خير دليل حي في الذاكرة القريبة للتسويات!
تاسعاً، تجدر الإشارة الى نقطتين في القانون 200، وفي الرد الأخير لمصرف لبنان. الأولى في القانون، تنص صراحة على رفع السرية لغايات التدقيق ولمصلحة القائمين به حصراَ، وكلمة “حصراً” لا تقل خطورة عن كلمة “بالتوازي” وهي كفيلة بتعطيل النتائج لاحقاً، لأن مخرجات المعلومات ستبقى حكراً على الشركة ومن هو مخول باستلام تلك النتائج. وأي تسريب، مهما كان تافهاً ربما، سيتخذ حجة لمحاولة نسف العملية برمتها. اما ماذا سنفعل بالنتائج فتلك معركة أخرى تنشأ لاحقاً بالسياسة.
والنقطة الثانية المتصلة بالأولى هي تشديد مصرف لبنان على السرية من وجهة نظره، عندما اشترط عدم تسريب أي معلومة من المعلومات، وقال إن على الشركة المعنية الالتزام بموجبات الحماية اللازمة لهذه المعلومات وتحديد مكان وطرق تخزينها وتلفها عند الانتهاء منها. واستعاد المصرف واقعة تسريب قائمة المعلومات التي حصلت عليها الشركة من المصرف المركزي في السابق ونشرت في مجلة “فوربس”، ليشدد على ضرورة عدم استعمال هذه المعلومات إلا من قبل من له الصفة بذلك، وضمن الشروط وللغايات التي أعطيت من أجلها، وعدم مشاركة هذه البيانات مع أية جهة داخلية أو خارجية بإستثناء الجهة التي تعاقدت معها حصراً. وأعلن المجلس المركزي رفع مسؤوليته عن أي ضرر ينتج من جراء تسريب معلومات من الشركة أو وزارة المالية، ما يعني ضمناً إمكان نسف التدقيق برمته لمجرد التسريب. ومن يعرف لبنان يدرك مدى جدية هذا التهديد وتوظيفاته السياسية عند اللزوم الميكيافيلي.
عاشراً، يتعين الاستنتاج أن التدقيق، برأي الواقعيين، لن يكشف للبنانيين على وجه الدقة العلمية المطلقة والمسؤولية الجنائية كيف أنفقنا 250 مليار دولار (منها نحو 100 مليار قروضاً) في 30 سنة، وكيف تبددت مدخرات وودائع دولارية بأكثر من 100 مليار دولار، ولا كيف تراكم الدين العام لا سيما بالفوائد الفاحشة ومن إستفاد منها، ولا جدوى الهندسات المالية ومن اقتنصها زوراً وبهتاناً على حساب المال العام، ولا على صعيد 40 مليار دولار من الإنفاق العام يحكى أنها هدرت في الكهرباء سواء بدعم التعرفة أو فساد الصفقات وحصص السمسرات، ولا كيف إختلست أموال من وزارات ومجالس وصناديق ومؤسسات عامة، ولا كيف خسر مصرف لبنان 50 مليار دولار!