للمرة الأولى منذ 14 عاماً، تبكّر الحكومة اللبنانية بطلب تمديد مهمة قوات “اليونيفيل”، وجاء ذلك بناء على نصائح أوروبية، وتحديداً فرنسية، وترافق مع مجموعة مؤشرات يمكن سردها على الشكل الآتي:
أولاً، ضغط أميركي يستهدف كل المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، من أجل المزيد من تطويعها، وذلك عبر التلويح بوقف تمويلها، كما حصل مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو، لكن بفارق جوهري، أن “اليونيفيل” تلبي في جزء أساسي من مهامها التطلبات الإسرائيلية، ولا يمكن للولايات المتحدة التهديد بوقف تمويلها بالكامل. لا ينفي ذلك إحتمال أن يبادر الأميركيون إلى تخفيض ميزانيتهم وهي تقدر بنحو 27 في المئة من إجمالي موازنة “اليونيفيل”، الأمر الذي سيرتد سلباً على مهام وعديد قوات الطوارىء الدولية في جنوب لبنان.
ثانياً، ضغط إسرائيلي لافت للإنتباه تعبر عنه مجموعة من المقالات التي قاربت مناسبة العشرين سنة على إنسحاب إسرائيل من لبنان، فضلاً عن مقالات أخرى، أعقبت عملية فتح فجوات في الشريط الشائك مع لبنان في شهر نيسان/ابريل الماضي، وكلها شكّكت بدور قوات “اليونيفيل” وبقدرتها على تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها بموجب القرار 1701.
ثالثاً، للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كلاماً صريحاً: نحن لسنا ضد “اليونيفيل” لكن إذا أرادوا أن يرحلوا فهذا شأنهم.
رابعاً، مجدداً، يحاول الفرنسيون، وبحجة التمايز عن الأميركيين، تعديل بعض قواعد الإشتباك في منطقة جنوب نهر الليطاني، بإتجاه إعطاء صلاحيات أوسع لقوات “اليونيفيل” بمداهمة المنازل والممتلكات المدنية الخاصة، الأمر الذي من شأنه أن يرضي الأميركيين (ضمناً الإسرائيليين)، وبالتالي، يمر التمديد من دون أي خفض للتمويل أو العديد.
بروز مناخ دولي إقتصادي تقشفي، في أعقاب ظهور فيروس كوفيدـ19، وما تركه من آثار كارثية على الإقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي إستوجب من الأمين العام للأمم المتحدة، توجيه رسائل إلى كافة الوكالات والمؤسسات التابعة للمنظة الدولية، ومنها “اليونيفيل” بوجوب خفض الميزانيات والتقشف
خامساً، بروز مناخ دولي إقتصادي تقشفي، في أعقاب ظهور فيروس كوفيدـ19، وما تركه من آثار كارثية على الإقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي إستوجب من الأمين العام للأمم المتحدة، توجيه رسائل إلى كافة الوكالات والمؤسسات التابعة للمنظة الدولية، ومنها “اليونيفيل” بوجوب خفض الميزانيات والتقشف. وقد قامت قيادة القوات الدولية بتخفيض ميزانيتها السنوية بنسبة تقل عن واحد بالمئة (مليون ونصف المليون دولار من أصل الميزانية السنوية المقدرة بنحو 486 مليون دولار، يساهم الأميركيون بنسبة 27% منها). ومن المقرر أن يوافق الأمين العام على الموازنة في الأسبوع الأول من حزيران/يونيو 2020، على أن يرفع تقريره الذي يتضمن مراجعة لمهام “اليونيفيل”، بموجب التمديد الذي حصل في صيف العام 2019، فيتم إقرار الموازنة التي يسري تاريخها سنوياً في الأول من تموز/يوليو. ولا يخفى أن الأميركيين يعتبرون أن دافع الضرائب الأميركي، عندما يساهم في تمويل “اليونيفيل” إنما لأجل حماية أمن إسرائيل وليس لحماية حزب الله أو لبنان!
سادساً، سلسلة حوادث أمنية غير بريئة شهدها الجنوب اللبناني في الآونة الأخيرة، ومعظمها كانت مسؤولة عنها القوة المسماة “إحتياطي القيادة العامة”، وهي القوة الفرنسية التي رفض الفرنسيون، ولأسباب قومية (…) أن تأتمر بأوامر قوات أخرى، وتملك حرية الحركة في كامل منطقة إنتشار “القبعات الزرق”.
وتنقسم منطقة جنوب الليطاني إلى قطاعين شرقي وغربي وكل واحد منهما بأمرة قوة من القوات المشاركة من 45 دولة، وأصبحت إندونيسيا تحظى بالنصيب الأكبر من الجنود (1254 جنود)، إيطاليا (923 جندياً)، نيبال (870 جندياً)، غانا (863 جندياً)، ماليزيا (828 جندياً)، الهند (780 جندياً)، إسبانيا (625 جندياً)، فرنسا (636 جندياً).
سابعاً، كان الموقف الرسمي اللبناني واضحاً. أبلغه رئيس الجمهورية مراراً إلى الأمم المتحدة، وتبلغه قائد “اليونيفيل” قبل أيام قليلة من رئيس الحكومة حسان دياب: نحن متمسكون بقوات “اليونيفيل” ونرفض خفض عديدها الذي تراجع أصلاً عما ينص عليه القرار 1701 (العديد حالياً 10042 جندياً، بينما ينص القرار على وجود 15 ألف جندي). أما أن تقوم القوات الدولية بمهامها، فهذا مطلب لبنان، ولتكن البداية من وقف خروقات إسرائيل البرية والبحرية والجوية، علماً أن الجانبين اللبناني والإسرائيلي، إكتفيا منذ 14 سنة، ببند وقف الأعمال الحربية فقط.
في آب/أغسطس 2006، لوحظ أن معظم الدول (خاصة الأوروبية) التي أرادت المشاركة في “اليونيفيل”، بعثت بأجهزة مخابراتها تستأذن حزب الله قبل إرسال أي ضابط أو جندي إلى جنوب لبنان. مع الوقت، تحول هؤلاء إلى رهائن، وهم يتحركون ضمن هوامش محددة عنوانها حماية أمن إسرائيل
ثامناً، توجد نقطتان، هما في صلب التركيز الأميركي ـ الأوروبي ـ الإسرائيلي وتتضمنان الآتي:
- أن تُعطى قوات “اليونيفيل” حرية حركة (freedom of movement) في كل نطاق منطقة عملياتها في جنوب الليطاني. أي مداهمة أي منزل أو حقل أو ممتلكات تشتبه بوجود أسلحة فيها. وكان الجواب اللبناني وما يزال: القانون اللبناني لا يعطي للمؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية حق مداهمة هكذا أماكن إلا بموجب إذن قضائي، فكيف نعطي لكم ما لا نأذن به لأنفسنا. هذا تنازل سيادي ولا يمكن أن يقبل به اي لبناني. هذه القضية كانت وستبقى مطلباً إسرائيلياً وكلما يأتي موسم التمديد، تعود إلى الواجهة الإعلامية.
- توسيع نطاق مهام “اليونيفيل” لتشمل الحدود الشرقية والشمالية البرية، وذلك من زاوية إحراج الحكومة اللبنانية التي يتهمها الإسرائيليون والأميركيون بأنها لا تتحمل مسؤوليتها في وقف خطوط إمداد حزب الله بالسلاح. هذه النقطة تثار دورياً منذ 14 سنة، وزاد الحديث عنها في ضوء ما صار يعرف بإسم “ملف الصواريخ الدقيقة” الذي يؤرق الإسرائيليين.
تاسعاً، يدرك الأميركيون والأوروبيون، أنه في ضوء الواقع الإقتصادي والمالي اللبناني المتردي، ومعه مجموعة الأزمات المعيشية والتي تشمل بتداعياتها كتلة اللجوء السورية والفلسطينية المليونية، تضاعفت المهام المناطة بالجيش اللبناني، وبالتالي، لم يعد بمقدوره القيام بما نص عليه القرار 1701 الذي قضى بنشر الحكومة اللبنانية 15 ألف من ضباط وجنود القوات اللبنانية المسلحة جنوب الليطاني. أكثر من ذلك، لم يعد بمقدور الجيش اللبناني أن يضيف للقوة المنتشرة حالياً والمقدرة بما لا يزيد عن أربعة آلاف ضابط وجندي. زدْ على ذلك أن الحكومة اللبنانية، قررت تجميد التطويع وكذلك التقاعد المبكر.
ووفق حسبة بسيطة، تسيّر قوات “اليونيفيل” 480 دورية براً وبحراً وجواً شهرياً، ويفترض بالجيش اللبناني، وفق قواعد الإشتباك، أن يكون مشاركاً في كل دورية، أقله في البر، أي ما لا يقل عن 400 دورية. المشاركة لن تقل عن آلية عسكرية لبنانية، وكل آلية تحتاج إلى مجموعة من الجنود، فضلا عن كلفة المحروقات، لذلك، لا يشارك الجيش حالياً سوى بأقل من 8 % من الدوريات، لتخفيف الأعباء، وهذه النقطة، هي التي جعلت قيادة حزب الله ترفع الصوت غير مبالية، لأن أي خفض لعديد “اليونيفيل”، سيرتد سلباً على الجانب الإسرائيلي، ذلك أن تل أبيب، وبرغم تعطشها معنوياً لحرب جديدة ضد حزب الله، تدرك أنها ليست جاهزة لها حالياً، وهذا الأمر يُدركه حزب الله جيداً، وبالتالي، يصبح وجود “اليونيفيل”، بالنسبة للإسرائيليين، أفضل من عدم وجودها، ربطاً بإحتمالات الفوضى التي يمكن أن تنشأ عن أي فراغ عسكري دولي، في ظل العناصر غير المحلية الموجودة في لبنان القابلة للإستثمار في معادلة الصراع مع إسرائيل.
عاشراً، عندما أقرت صيغة “اليونيفيل” المعززة وفق الفصل السادس ونصف (بدل الفصل السابع)، في آب/أغسطس 2006، لوحظ أن معظم الدول (خاصة الأوروبية) التي أرادت المشاركة في “اليونيفيل”، بعثت بأجهزة مخابراتها تستأذن حزب الله قبل إرسال أي ضابط أو جندي إلى جنوب لبنان. مع الوقت، تحول هؤلاء إلى رهائن، وهم يتحركون ضمن هوامش محددة عنوانها حماية أمن إسرائيل. وحتى في حالات الحوادث، كما في حالة “شجرة العديسة” (2010)، فإن وجود هذه القوات، يمكن أن يشكل صمّام أمان للإسرائيليين، كما هو الحال في إجتماعات اللجنة الثلاثية في الناقورة، وما تأخذه على عاتقها من تبريد لبعض الحالات، مخافة الإنزلاق إلى أوضاع قد لا تكون في مصلحة جميع اللاعبين، ولا سيما إسرائيل التي لا تحتاج، عادةً، إلى ذريعة، إذا رأت أن مصلحتها تقتضي بحرب أو بمعركة بين الحروب أو الإكتفاء فقط بتوجيه بضعة رسائل أمنية أو عسكرية. بإختصار، باتت “اليونيفيل” معززة أميركياً وإسرائيلياً ولبنانياً إلا عند حزب الله.