في غضون أسابيع، استعادت قوات حكومة الوفاق الوطني (برئاسة فايز السراج) سيطرتها على عشرات مدن إقليم طرابلس، التي سبق وأعلنت ولاءها للمشير خليفة حفتر قبل الهجوم النّاجح على قاعدة الوطية الجوية الضخمة. على بعد 50 كيلومترًا جنوب شرق طرابلس، تمت محاصرة مدينة ترهونة، آخر معقل لخليفة حفتر في الإقليم، إذ أعلن الجنرال أسامة الجويلي قائد القطاع العسكري الغربي في حكومة الوفاق الوطني، أن المدينة ستُشكل الهدف التالي لقواته.
شكّل دعم تركيا العسكري لحكومة الوفاق الوطني بلا شك عاملا حاسماً في انتصارات طرابلس. نجحت عمليات القصف التي كانت تقودها طائرات بدون طيار سلمتها الإمارات العربية المتحدة لقوات المُشير حفتر ومرتزقة مجموعة فاغنر الروسية، قبل التعزيز التدريجي للدعم التركي، في إفشال أية محاولة للسيطرة على طرابلس. لقد مكنت المشاركة التركية من إعادة الوضع إلى التوازن، من خلال توفير ثنائية “مخابرات – قصف الطائرات بدون طيار”. لعبت إذن القدرة على قصف خطوط الإمدادات ومراكز القيادة ومواقع تمركز قوات العدو، دوراً حاسماً.
بيد أن هذا الانتصار، يرجع أولاً إلى قوات حكومة الوفاق الوطني التي نجحت في تجاوز خلافاتها ورأب خطوط التصدع داخلها، وتنظيم نفسها لمحاربة ما تعتبره خطر إنشاء ديكتاتورية عسكرية في بلادها. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة لمن يتحدثون عن الفوضى لتوصيف الوضع في ليبيا – وهُم غالباً نفسهم من يعتقدون أن النظام الاستبدادي وحتى العسكري هو البديل الوحيد لهذه الفوضى – أن العكس هو الصحيح. تُبرز هذه الأحداث التطلعات المستمرة للشعب الليبي، الذي ترفض غالبيته العظمى نظامًا عسكريًا. وهذا ما يتضح أيضاً من خلال المشاورات الشعبية التي أجريت في عام 2018، في إطار عملية المؤتمر الوطني التي أطلقها الممثل الخاص للأمم المتحدة، غسّان سلامة.
خيار سياسي لإنهاء الأزمة
في معقله في برقة (شرق ليبيا)، بدأت الانتقادات تتردد بخصوص هجوم حفتر، على الرغم من عدم وجود أية معارضة أو صوت منشق. ففي 27 نيسان/أبريل، لم يُثر إعلان المُشير كون الشعب “كلّفه بإدارة البلاد”، سوى القليل من الردود الإيجابية، تمثلت في بعض المظاهرات الصغيرة التي يبدو أنها من تنظيم أجهزته الأمنية. علاوة على ذلك، أطلق عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق والداعم التقليدي للمُشير، مبادرته السياسية الخاصّة قبل ساعات فقط من تصريح حفتر. تهدف مبادرة عقيلة صالح بشكل خاص إلى تحويل المجلس الرئاسي الحالي إلى مجلس يتألف من رئيس ونائبي رئيس، ينحدر كل واحد منهم من المناطق التاريخية الثلاث في ليبيا. لم يُشر إعلان عقيلة صالح هذا بأي حال من الأحوال إلى “تفويض” خليفة حفتر. كما لم يرفض المسؤولون في الغرب هذه المبادرة السياسية، ليس فقط لأنهم يرون فيها إمكانية لإضعاف المعسكر الآخر، بل أيضًا لكون البعض منهم يعتبرها أساس خيارٍ سياسي ذي مصداقية للخروج من الأزمة.
لقد شكّلت ليبيا، منذ عام 2011، مسرحًا لتدخل دولي متزايد، حتى تحولت إلى ما يشبه “صندوق الصوت” الذي يعكس صراعات القوى الإقليمية والدولية وتضارب المصالح بينها. حتى لو تمكن الليبيون من إيجاد خيار سياسي لإنهاء الأزمة، فلن يتحقق هذا الخيار في غياب الحد الأدنى من الوحدة
يصعب التنبؤ بشأن ما سيحدث في المستقبل، لأن الحرب لم تنته بعد، وعداد متغيرات المعادلة مرتفع للغاية. لقد شكّلت ليبيا، منذ عام 2011، مسرحًا لتدخل دولي متزايد، حتى تحولت إلى ما يشبه “صندوق الصوت” الذي يعكس صراعات القوى الإقليمية والدولية وتضارب المصالح بينها. حتى لو تمكن الليبيون اليوم من إيجاد خيار سياسي لإنهاء الأزمة، فلن يتحقق هذا الخيار في غياب الحد الأدنى من الوحدة، أو على الأقل دون التزام الجهات الخارجية بوقف دعمها العسكري لأطراف النزاع. إن هذا الشرط ضروري ولكنه غير كاف، إذ أن الفاعلين الليبيين يتمتعون في الواقع بنوع من الاستقلالية. ولعل رفض المُشير حفتر الالتزام بوقف إطلاق نار برعاية روسيا وتركيا، والذي أعرب عنه في موسكو في منتصف كانون الثاني/يناير، خير مثال على ذلك.
دعم باريس المتواصل
أما فرنسا التي سارع رئيسها نيكولا ساركوزي إلى اتخاذ قرار الحرب وإسقاط النظام عام 2011، فلم ترفض فقط إدانة هجوم المُشير حفتر في 4 نيسان/أبريل 2019، بل ورفضت بشكل مستمر تحميله مسؤولية الحرب. لقد حرصت باريس على مدى الأشهر الثلاثة عشر الماضية على عدم أخذ موقف واضح والانحياز لأي من الطرفين، مع غض الطرف عن المُشير حفتر ومورده الرئيسي للأسلحة أي الإمارات العربية المتحدة. فحتى قبل هجوم المُشير، شجّعه دعم باريس – أو ما كان يعتبره هو أنه كذلك – في خياره العسكري. في هذا الصدد، نورد مقتطفًا من مقال ورد في صحيفة “لوفيغارو”، في 20 آذار/مارس 2019، والذي يبدو أن أهميته زادت مع مرور الوقت.
في نهاية آذار/مارس 2019، عندما شنّ المُشير حفتر قبل بضعة أسابيع هجومًا يهدف إلى استعادة السيطرة على جنوب ليبيا. نجح بضع مئات من رجال “الجيش الوطني الليبي”، تحت قيادة حفتر وبمساندة الحلفاء المحليين، في أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم في المدن الرئيسية في الجنوب.
بالنسبة لفرنسا التي تشارك عسكريًا في منطقة الساحل، كانت عملية استعادة جنوب ليبيا موضع ترحيب. كثيرون في وزارة الدفاع وأيضا في محيط الرئيس ماكرون وجان إيف لو دريان، لعبوا ورقة عودة نظام قوي في ليبيا. لقد كان جان إيف لو دريان الذي ترك منصبه كوزير للدفاع منذ عامين، واحداً من أصحاب هذه الرؤية باسم “الحرب ضد الإرهاب”. ويوضح ذلك تصور فرنسا لمصالحها، بالإضافة إلى مصالح مجمعها العسكري الصناعي وأهداف حرب جيشها المنخرط بشكل كبير في منطقة الساحل. في نيسان/أبريل 2019، توقعت تحاليل البعض في باريس، ولا سيما من بين مستشاري الرئيس ماكرون أن المُشير حفتر قادر بالفعل على استعادة طرابلس في غضون أيام قليلة.
فشل المؤتمر الوطني
في موازاة ذلك، كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة مُنكبّاً على تنظيم المؤتمر الوطني، الذي كان مقرّراً عقده في 15 نيسان/أبريل بغدامس (400 كيلومتراً جنوب طرابلس). يأتي هذا المؤتمر، الذي يُشكل أحد العناصر الأربعة لخارطة الطريق التي أقرها مجلس الأمن، ليختم عملية مشاورات شعبية أعطت الكلمة لآلاف الليبيين. شكّل التقرير الناتج عن هذه الاستشارات الشعبية أساس جدول أعمال اجتماع غدامس، الذي كان هدفه اعتماد ميثاق وطني وخارطة طريق، كان يُفترض أن تقود في نهاية المطاف إلى انتخابات.
لم ينعقد هذا المؤتمر يوم الرابع من نيسان/أبريل. فبينما كان الأمين العام للأمم المتحدة في زيارة رسمية إلى طرابلس، شنّ المُشير حفتر هجومه المفاجئ على العاصمة. وظهر مجلس الأمن الذي اجتمع في 18 نيسان/أبريل مُنقسماً وغير قادر على الخروج بموقف مشترك آخر، عدا تكرار عدم وجود حل عسكري في ليبيا. يتواصل هذا الانقسام داخل المجلس حتى يومنا هذا، لكن هناك مؤشرات على أن الأمور قد تتغير، بعد الانتكاسات العسكرية للمشير حفتر.
تحرّك الولايات المتحدة
بعد لقاءَيه مع كل من الرئيس الفرنسي ثم التركي في 19 و20 أيار/مايو، دعا دونالد ترامب إلى خفض التصعيد في ليبيا. كما أعلن القادة الروس والأتراك عن اتفاقهما حول ضرورة التوصل إلى اتفاق في ليبيا. ربما كان هذا الاتفاق يهدف بشكل رئيسي إلى تأمين انسحاب مئات المرتزقة للشركة العسكرية الروسية الخاصة فاغنر، الذين كانوا يقاتلون إلى جانب القوات الموالية لحفتر جنوب طرابلس. هكذا تمكنوا من الوصول إلى مطار بني وليد بأمان قبل أن يغادروا الغرب الليبي جواً، في 24 أيار/مايو.
من جانبه، هاتَف وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو رئيس المجلس الرئاسي في طرابلس فايز السراج، وبدأ الاتصالات مع خليفة حفتر. بالنسبة للعديد من المراقبين في إقليم طرابلس، يؤكد اتصال بومبيو بالسراج أن الولايات المتحدة قد استخلصت العِبر من انتكاسات حفتر العسكرية، وأنها كانت على وشك إعادة النظر في حيادها المرن تجاهه. أمّا روسيا التي لم تُهمل أبداً علاقاتها مع عدد من الجهات الفاعلة في إقليم طرابلس، فقد غيرت من نبرتها تجاه المُشير، عبر إدانة “استفتاء” 27 نيسان/أبريل، ومن خلال دعم المبادرة السياسية لرئيس مجلس النواب، عقيلة صالح.
يُشكّل احتمال تموضع تركيا في طرابلس مصدر إزعاج كبير للإمارات ومصر، اللتين تريان فيه خطرَ دعمٍ للإخوان المسلمين الليبيين. وعلى غرار القاهرة، ترى باريس في ظهور قوة جديدة في ليبيا، تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية في شمال أفريقيا
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان قوس حفتر – على الأقل في شكله الحالي – على وشك الإغلاق. هل الإمارات مستعدة للتخلي عن دعمها العسكري للمُشير، بدون تحفيز قوي من الولايات المتحدة وفرنسا؟
في هذا الصّدد، يُشكّل طيف إنشاء قواعد استراتيجية تركية في طرابلس واحتمال استقرار اسطنبول هناك على مدى طويل، حُجّة خليفة حفتر الرئيسي لمحاربة “المستعمر العثماني” السابق.
لهذا التّبرير الحسّاس وقعٌ كبير على ساكنة برقة، وفيهم من لا يدعم الطموحات السياسية للمُشير. كما يُشكّل احتمال تموضع تركيا في طرابلس مصدر إزعاج كبير للإمارات ومصر، اللتين تريان فيه خطرَ دعمٍ للإخوان المسلمين الليبيين. وعلى غرار القاهرة، ترى باريس في ظهور قوة جديدة في ليبيا، تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
هدف استئناف الحوار السياسي
ومن المفارقات أن اللحظة قد تكون مؤاتية لخفض التصعيد واستئناف المفاوضات السياسية، تحت رعاية الأمم المتحدة. فكما ذكّرت بذلك ستيفاني ويليامز الممثلة الخاصة بالنيابة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا في تقريرها الفصلي لمجلس الأمن في 19 أيار/مايو، تُشكل فكرة إعادة هيكلة المجلس الرئاسي حول رئيس ونائبي رئيس أحد الأهداف الواقعية لاستئناف الحوار السياسي، الذي انعقدت الدورة الأولى منه في جنيف في شباط/فبراير. وقد وافق فايز السراج في 5 أيار/مايو على هذه الهيكلة الجديدة، التي تتوافق مع مبادرة رئيس البرلمان بتاريخ 23 نيسان/أبريل.
إن نجاح الدورات القادمة من الحوار السياسي تحت رعاية الأمم المتحدة رهين بمشاركة وانخراط جميع الأطراف الليبية. وإن غياب أو استبعاد أو تهميش أي من الأطراف عن هذا المنتدى السياسي كما كان الحال في الصخيرات عام 2015، سيكون له نفس العواقب الكارثية على الليبيين، الذين خُيِّبت آمالهم في الخروج من الأزمة طوال السنوات الأخيرة.
إنّ الحرب الحالية على عكس ما يؤكد الكثير من المراقبين، ليست مواجهة بين الشرق والغرب. فإن ساعد التاريخ والجغرافيا وظروف الحياة المادية والبنى الاجتماعية، في تشكيل الهويات الإقليمية المختلفة بين طرابلس وبرقة، فإنها هذا لم يمنع من تواجد شعور وطني ليبي. لقد قاوم هذا الشعور بالانتماء إلى نفس الأمة تدمير الدولة، والتدخلات الأجنبية المختلفة، وتسع سنوات من الانقسامات وغياب الاستقرار. كما أدّى التنوع الكبير للسكان الأصليين (سكان المدن، البدو، سكان الجبال، الأمازيغ، وما إلى ذلك) بالإضافة إلى التشرذم الذي خلّفته حرب سنة 2011، إلى ظهور ثقافة سياسية للتفاوض والتسوية، وهو ما يتجسد في حكومة الوِفاق الوطني في طرابلس. في برقة، تمكنت البنى الاجتماعية المتألفة حول القبائل البدوية الكبيرة، من التكيف بشكل أسهل مع سُلطةٍ هرمية وأسلوبِ حكمٍ معسكر.
إذا كانت قضية التشرذم وضعف النظام تبدو مشكلةً اليوم في الغرب، فإن تمركز السّلطات بدوره يطرح إِشكالية في الشّرق. هذا لا يعني أن على الثقافتين إفساح المجال أمام ثقافة سياسية وطنية غير موجودة. فحتى تظلّ على اتصال مع “البلد الحقيقي”، يجب على هذه الثقافة السياسية أن تضع الترابط بين المحلي والوطني والتوزيع العادل للموارد والعدالة الاجتماعية، في مركز اهتمامات الشعب الليبي.
ستكون الطريق طويلة ومليئة بالصِّعاب، لكن الهدف ليس مستحيل المنال. أما بالنسبة لجان إيف لو دريان، فإن كان ينتظر الانتصارات المُقبلة للمُشير حفتر قبل زيارته مرة أخرى، فيُخشى أنه سيتوجب عليه الانتظار طويلاً.
(*) راجع المقال كاملاً على موقع “أوريان 21”: