يسري ذلك على المحكمة الجنائية الدولية. لولا تأخُرها في إصدار قرار باعتقال نتنياهو ووزير الحرب يؤاف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، لما اندفع هؤلاء أكثر فأكثر في هذه المذبحة الدموية المفتوحة، برغم أن المدعي العام يُطالب بذلك منذ فترة من الزمن.
ولولا صمت الأنظمة العربية، ربيبة الاستعمار بل وتواطؤ معظمها، ولولا العجز والشلل العربي الشعبي والنخبوي، ولولا خجل ردود فعل العالم الإسلامي ما بين الاستنكار والشجب وفي أحسن الأحوال الوعيد بالثأر لإغتيال هنا أو ثأر لسيادة هناك، ولولا محدودية الحراك الإسرائيلي الداخلي الذي أثبت فشله في إحداث ضغط حقيقي على حكومة نتنياهو الفاشية، ولولا هذا الصمت المشين لما يُسمى “العالم الحر” الذي أثبت بجدارة أنه سليل الاستعمار وكشف عن زيف كُل القيم التي تغنى بها مُنذ قرن من الزمن، لما تجرأ هذا الصهيوني وحكومته الفاشية على السير بهذه الثقة في هذا الطريق.
لن يدفع نتنياهو إلى إيقاف المذبحة الممتدة إلا إذا رأى جدية في مسألة غاية في الأهمية، وهي صدور قرار دولي فوري بفرض عقوبات على إسرائيل ومقاطعة الدول لها مقاطعة شاملة.
فإسرائيل تنظر في الاثنتين من حولها جيداً ولا ترى أي خطر حقيقي يُحدق بها، لا ديبلوماسياً ولا إقتصادياً ولا ميدانياً ولا داخلياً، من شأنه أن يُثنيها عن متابعة إبادتها للفلسطينيين في غزة وإستئناف عملية تطهيرها العرقي بحق أهل الضفة الغربية، حصاراً وتدميراً وقتلاً، ألم يُعلن نتنياهو جهاراً أمام الكونغرس الأميركي في زيارته الأخيرة أن هذه الحرب الذي يقودها هي حرب بين الحضارة والهمجية وسط موجة هستيرية من التصفيق المؤيد له؟
وعلى كافة دول العالم المتأرجحة بين التباكي على الأطفال الفلسطينيين وبين الحرص الشديد على سلامة “المجتمع الإسرائيلي” وأمنه أن تُدرك أن المشكلة لم تعد مع حكومة يمينية قومية فاشية متطرفة فحسب، بل مع مجتمع صهيوني يتربع على بنى وعي جيله الجديد، نهجٌ فاشيٌ متعطش للدماء والانتقام لكل من تجرأ ونال من قدسية تفوقه العرقي والديني في لوحة تُعيدنا إلى همجية القرون الوسطى، وإلا ماذا يُفسّر أن يُصوّت 69 في المئة من المجتمع الإسرائيلي في أحد الاستطلاعات الأخيرة، بأنهم مع استمرار قتل الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم، وأنهم يؤيدون عمليات الاغتيال الأخيرة حتى لو أدت الى إفشال أي فرصة لاسترداد أسراهم عبر المفاوضات.. وأن 47 في المئة من الإسرائيليين يؤيدون اغتصاب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ما يعني أننا أمام نمط مجتمعي فاشي لن يُردع إلا بضغط خارجي حقيقي، كما جرى في منتصف القرن الماضي بحق الحكومات الفاشية الأوروبية، ولو توافر هذا اليوم لما تجرأ نتنياهو على السير وبكل هذه الثقة في حرب التجويع والتدمير والإبادة الجماعية.
لقد أصبح الفلسطينيون قاب قوسين أو أدنى ليس من كسر إرادة المحتل، بل ومن كسر إرادة الدول الإمبريالية والاستعمارية التي كشّرت عن أنيابها وأثبتت بأن كُل ما كانت تتشدق به من مفاهيم إنسانية وديموقراطية ليس سوى خدعةً زائفة بحقنا وبحق شعوبها كذلك، وكُل ذلك بفضل أبناء فلسطين ولا أحد غيره
وبدل أن تمارس الولايات المتحدة الضغوط على اسرائيل وتُدين في الحد الأدنى عمليات الاغتصاب التي استهدفت أسرى فلسطينيين، ترسل بوارجها الحربية وحاملات طائراتها وغواصاتها من أجل الدفاع عنها، في حين أن إسرائيل باتت تتصرف كعصابة همجية فاشية تقتل في إيران وتقتل وتُدمّر في لبنان واليمن وتستمر بإبادتها الجماعية لأهل غزة والضفة الغربية.
كلُ ذلك يجري ولا يجد البنيان الفلسطيني الداخلي سبيله للوحدة، فتقاعس البعض عن الذهاب فوراً إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية متوافق عليها من كافة الفصائل على قاعدة إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني وليست كإحدى الدوائر المهمشة في السلطة، لتكون المرجع السياسي الوحيد لكافة أطياف الشعب الفلسطيني بما فيهم السلطة وليس العكس، من أجل إحباط كافة المخططات التي تُحاك لغزة والضفة وأهلهما في مرحلة ما بعد الحرب التي تُوشك أن تُنهي عامها الأول، وانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني المستلبة؛ هذا التقاعس لا يُمثل إلا أعلى درجات الخيانة بحق صمود وتضحيات هذا الشعب الفلسطيني البطل.
على مدى أحد عشر شهراً، أثبت الفلسطيني أنه جديرٌ بالحياة والحرية وإدارة شؤونه بنفسه ولا ينقصه سوى المرجعية السياسية الموحدة القادرة على إفهام العالم أن الحقوق الشاملة للشعب الفلسطيني هي المعبر الإلزامي والوحيد لإستقرار منطقة الشرق الأوسط، مع الحرص على عدم تكرار “أوسلو” الذي أوصل الفلسطينيين الى ما هم فيه اليوم.
وإذا كان هناك من أحد في السلطة الفلسطينية يعتقد أن نتنياهو وحكومته سوف يعزفون عن قتل الفلسطينيين حرقاً وجوعاً وعطشاً بعد القضاء على فصائل المقاومة في غزة… فهو واهم، والدليل على ذلك الدماء الفلسطينية المستباحة يوميا في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، ولا سيما ما نشهده في الأيام الأخيرة، وأكثر من أي وقت مضى منذ حوالي السنة تقريباً.
أضف الى ذلك لا بُدّ وأن يكون جلياً للجميع بأن السلطة الفلسطينية باتت تفتقد لأسباب وجودها نظرياً وعملياً وهذا الأمر بدوره يُبطل مفهوم وجودها، وإلا كيف يتم تفسير توسّع الاستيطان وهذه الحرب المفتوحة جواً وبراً ضد الضفة والسماح للمستوطنين بالإعتداء على الناس من دون إمكانية الدفاع عنهم؟ فضلاً عن الخطاب الرديء للسلطة في أتون الحرب – أي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر – الأمر الذي يُقوّض قواعد “شرعيتها” أصلاً.
يجب على السلطة الفلسطينية أن تُمعن جيداً في خطاب نتنياهو في الكونغرس الأمريكي وما تضمنه من لغة استعمارية ذات طابع ديني خطير، لتتوقع ما ينتظرها في الآتي من الأيام، وأن تُدرك أن أهم ما تنتظره الحكومة الإسرائيلية الحالية من فوز لدونالد ترامب – في حال حدوثه – هو مباركته لضم الكتل الاستيطانية في الضفة إلى إسرائيل، وأن تبقى المستوطنات كما هي في الضفة، وأن تسيطر إسرائيل على الطُرُق المؤدية إلى المستوطنات، وتصل فيما بينها دون أي حديث عن تبادل للأراضي، أضف الى ذلك القضاء الكلي على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التي تُجسّد حقهم في العودة والتعويض، ألم يوقف ترامب ميزانية الوكالة في فترة حكمه السابقة إلى أن تراجع بايدن عن هذا القرار لاحقاً؟
وفي النهاية، يجب علينا أن نعترف كفلسطينيين أن الوضع أصبح لا يُطاق، فمسيراتُ العودة لن يُسمح لها مُجدداً، وكلنا نعلم أن الفلسطينيين بصمودهم ودموع نسائهم ودماء أطفالهم يُبعدون عنا ويلات الحرب، ونعلم أن جبهات إسنادنا لم تستطع أن تُخفّف من وتيرة ووطأة الموت الذي يُحاصرنا من كل حدب وصوب، قصفاً وحرقاً وتعطيشاً وتجويعاً وتنكيلاً وتعذيباً، فلا ثقة بعد الآن إلا بسواعد الفلسطينيين وعنفوانهم وإرادتهم، الأمر الذي افتقدناه نحن منذ زمن بعيد، وأن يُثابر شعبنا في المواجهة، فالخسائر التي تصيب المحتلين الصهاينة يومياً على أرض فلسطين أدت إلى تصدع الجبهة الداخلية بين الصهاينة العلمانيين من جهة والصهاينة المُتدينين من جهةٍ أُخرى حول جدوى استمرار الحرب.
لقد أصبح الفلسطينيون قاب قوسين أو أدنى ليس من كسر إرادة المحتل، بل ومن كسر إرادة الدول الإمبريالية والاستعمارية التي كشّرت عن أنيابها وأثبتت بأن كُل ما كانت تتشدق به من مفاهيم إنسانية وديموقراطية ليس سوى خدعةً زائفة بحقنا وبحق شعوبها كذلك، وكُل ذلك بفضل أبناء فلسطين ولا أحد غيرهم.