عندما ذهب سعد الحريري الى قرار تأسيس “تيار المستقبل”، فعل ذلك مُستنداً إلى واقعيين صلبين: الأول، “جمعية بيروت للتنمية” كنواة لماكينة إنتخابية ضخمة لطالما أولاها والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري أهمية استثنائية في تثبيت زعامته السياسية عبر خوض معارك الإنتخابات النيابية والبلدية والنقابية. أما الثاني، فقد تمثل بالكتلة البشرية التي خرجت إلى شوارع العاصمة رفضاً لإغتيال زعيمها. وهي، بالمناسبة، كتلة لبنانية عابرة للطوائف أعطت لسعد الحريري ما لم ينله أي زعيم لبناني على امتداد تاريخ بلاد الأرز.
مشكلة سعد الحريري الذي وقع عليها أو هي وقعت عليه في قراره إنشاء التيار، هي أنه فعل ما فعل مثقلاً بعوامل أساسية كان وجودها شرطاً أساسياً لنجاح قراره، ولكنها لم تكن متوفرة فيه ولا عنده، وهي: عدم المامه بالعمل السياسي، عدم معرفته بالوقائع المُؤسسة للسيرة اللبنانية وتناقضاتها التي جعلت من البلد احتمالاً مستمراً للتوترات الأمنية والتصدعات السياسية، وكذلك عدم إحاطته السوسيولوجية بالكتل الإجتماعية عامةً، والسنية خاصةً، وهي التي أعطته الأرجحية والوزن بين المكونات اللبنانية الأخرى على تنوع مُسمياتها.
فجأة، وجد سعد الحريري نفسه وريثاً لإرث سياسي ضخم. قرار توريثه كان إقليمياً ودولياً، أما متمماته اللبنانية، فقد اقتصرت على هتاف بعض الجماعات بإسمه في أحياء بيروت وأزقتها. لكن أكثر ما شكل صعوبةً وقيداً له هو تراكض كثيرين ممن إدعوا صداقة والده، إلى تبنيه سياسياً منذ اللحظة الأولى للجريمة، و”الضخامة الشعبية” التي أحاطت به غداة جريمة الاغتيال، ما أفقده هامشي البراغماتية والمناورة اللذين طبعا كل أقرانه من الزعماء اللبنانيين، فراح يخوض المحنة تلو الأخرى، وصار يختبر شدائد السياسة اللبنانية. وما كان ممنوعاً على والده الشهيد أو مكروهاً منه بات مباحاً امام الإبن. وما ارتجاه الوالد ببيئة حاضنة تتسع باطرادٍ مدروسٍ خارج الأطر الحزبية.. فقد ذهب الى غير رجعة.
كانت الوقائع اللبنانية، الطائفية والمذهبية، أقوى من أي سعي إلى تكوين كتلة سياسية ـ إجتماعية تقدم هويتها الوطنية على هويتها المذهبية. هكذا بات “تيار المستقبل” حزباً سياسياً يضاف إلى الجماعات السياسية اللبنانية في آب/أغسطس 2007، وعلى اعتباره عابراً للطوائف والمناطق، كما جاء في وثيقته الاولى، لكن الأحداث المُتعاقبة أثبتت عجز “التيار الوليد” عن العبور وبات اسير الطوائف وامراءها، ولا سيما الطائفة السنية وكثرة “الأمراء السياسيين” فيها من الراغبين بلعب أدوار سياسية مستقبلية.
تداعيات 7 ايار/مايو وسقوط العسكرة أديا الى “الإطاحة المهذبة” بالنائب البيروتي السابق سليم دياب الذي قيل إنه “حُمّل ما لا يُحتمل”، وإلى تأليف لجنة خماسية كانت مُهمتها “تأهيل” أحمد الحريري إلى موقع الامين العام في المؤتمر التأسيسي الأول
بين التأسيس عام 2007 والمؤتمر الاول في تموز/يوليو من العام 2010، عاش “التيار الأزرق” ذروة التحلق الشعبي حوله جراء عوامل غالبها متصل بحرارة “دم الشهيد” الذي أضحى قضية التيار ومشروعه، لكن ذلك كان على حساب الرؤية السياسة والمعنى العميق للسياسة. فبدا التيار سياسوياً أكثر منه سياسياً. بمعنى انه راح يتفاعل مع الأحداث وفقد قدرته على صنع الحدث السياسي ذاته.
ومع إزدياد عوامل الانقسام بين الكتلتين الآذاريتين (8 و14) اللتين تشكلتا اثر اغتيال الحريري الأب، تبدت أكثر فأكثر عناصر الصراع بين “حزب الله” و”تيار المستقبل” وبلغت ذروتها المقيتة في 7 أيار/مايو 2008، وهو التاريخ الذي سبقته احداث متفرقة على اطراف مدينة بيروت وفي شوارعها وأزقتها طيلة سنتين تقريباً.
كان يوم 7 ايار/مايو مفصلياً إذ سقط “حزب الله” تحت وطأة قرارات حكومية كانت تريد فك شبكة اتصالاته غير الشرعية والتي يعتبرها هو “سر الإنتصار في الحرب مع إسرائيل” في تموز/ يوليو من العام 2006. آنذاك، وفي هذا اليوم المشؤوم من أيار/مايو، عدّل “حزب الله” بوصلة سلاح المقاومة الى الداخل، لكن ذلك اليوم شهد أيضاً سقوط مشروع “عسكرة تيار المستقبل” الذي كان باشره سعد الحريري باعلان معادلة “الشارع بالشارع”، وهذه الخطوة الإنفعالية كانت عبارة عن ارتجال سياسي بكل معنى الكلمة. فالرجل قال ما قاله من دون التنبه لمعنى ومضمون قوة “حزب الله” وإمتداده الإقليمي، فراجت حركة التسليح الداخلي لعناصر التيار في بيروت وسائر المناطق، برغم النصائح العربية وتحديداً المصرية، بعدم اللجوء إلى هذا الخيار نهائياً.
حينها، سقط “تيار المستقبل” ونواته العسكرية الهشة سريعاً وبضربةٍ قاضيةٍ استهلكت ساعات قليلة. وكان ذلك كافياً ومُبرراً للجوء إلى الأفعل والأسهل في لبنان، أي تفعيل الخطاب المذهبي الذي أدى الى تفاقم الانقسام العامودي، وصاحبُه سيلٌ من المال السياسي خصوصاً على الضفة الحريرية، في زمن الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز، وتمكن بواسطته “التيار الأزرق” من حصد كتلة نيابية هي الاكبر في انتخابات العام 2009 وفي اعلانه ممثلاً وحيداً للطائفة السنية في لبنان.
لكن تداعيات 7 ايار/مايو وسقوط العسكرة أديا الى “الإطاحة المهذبة” بالنائب البيروتي السابق سليم دياب الذي قيل إنه “حُمّل ما لا يُحتمل”، وإلى تأليف لجنة خماسية كانت مُهمتها “تأهيل” أحمد الحريري إلى موقع الامين العام في المؤتمر التأسيسي الأول الذي سينعقد يومي 24 و25 تموز/يوليو 2010، وكان، إلى حد ما، خطوة فريدة وجديدة آنذاك، وإتسم بشيء من الإحترافية في التنظيم وحسن الإدارة، خصوصاً لجهة ترك مساحة من الحرية والديموقراطية في النقاشات التي سبقت المؤتمر او اثناء انعقاده. وقد شاركت المنسقيات والقطاعات في الصياغة والنقاشات على مدى اسابيع في قصر قريطم ثم في مبنى التيار (سبيرز)، ما ساهم في تعديل النظام الداخلي للتيار.
لكن ما ينبغي قوله للأمانة والتاريخ هو أن اللجنة المكلفة بصياغة النظام الداخلي اخذت من التعديلات ما يتناسب وروحية النظام الذي يريده سعد الحريري شخصياً، وألغت الجزء الأكبر خصوصاً ما يتعلق بالهيئات الرقابية متل انتخاب لجنة مركزية تشكل حكماً حالة رقابية على الاداء السياسي للرئيس والمكتب السياسي. كانت النخب المؤسسة للتيار آنذاك متنوعة فكرياً او غنية بالتجارب السياسية السابقة، بما في ذلك الذين اقتصرت تجاربهم على معاصرة الشهيد رفيق الحريري او راكموا تجربة التيار خلال ثلاث سنوات من تأسيسه.
لقد نهض المؤتمر على ثلاثة أعمدة أساسية هي قطاع المهن الحرة وقطاع الشباب و”جمعية بيروت للتنمية” التي اتسع مدى تأثيرها عبر الماكينة الانتخابية، خصوصاً في انتخابات عامي 2005 و2009. كان المؤتمر عبارة عن حلقة نقاش للوثيقة السياسية وللنظام الداخلي قبل انتخاب 18 عضواً للمكتب السياسي والرئيس سعد الحريري الذي أُعطي حق إضافة 10 اعضاء بالتعيين عبر لوائح معلبة ونتائج معروفة سلفاً. لكن البعض خاض معركة الانتخاب الاولى ولم تكن النية الا كسر محاولة التعليب واغناء المؤتمر بفسحة حرية لم يكن مقدراً لها النجاح وان تمكنت من طبع المؤتمر بلمستها الاعتراضية.
أسفر المؤتمر عن انتخاب الحريري ورئيس هيئة الاشراف والرقابة النائب سمير الجسر ومكتب سياسي لا زال يُعتبر حتى اليوم هو الافضل، كما تم انتخاب احمد الحريري اميناً عاماً، ليصار بعدها الى تعيين أعضاء الأمانة العامة التي تميزت آنذاك بوجود النقيب سمير ضومط وصالح فروخ وبسام عبد الملك قبل ان يلتحق بإجتماعاتها آخرون أبرزهم منسق الانتخابات و”مهندسها” خالد شهاب.
كانت الاجتماعات تُعقد ثلاث مرات أسبوعياً والتحق بكل من هؤلاء فريق عمل باشر وعلى مدى سنتين حراكاً مميزاً، إلى أن تم كبحه في اواخر 2012 بعد التقرير السنوي عن عمل التيار للعام 2011 لأسباب تتصل بخلل في التوازنات، بعدما كان الأمين العام يوازن بين الفريق التأسيسي على حساب ما يمكن تسميتها “المصلحة العامة”، كونه الاصغر سناً والاحدث تجربةً بينهم.
بعد العام 2012، بدا وكأن حالة من الجمود أصابت التيار كان سببها غياب سعد الحريري بعد إقالته من رئاسة الحكومة في العام 2011 وكانت بوادر الأزمة المالية تطل برأسها ما أثر على النشاط السياسي والخدماتي والإعلامي. حينها، غاب المكتب السياسي اذ كان قد فوّض صلاحياته الى رئيسه سعد الحريري الذي انتقل للعيش في السعودية والخارج، من دون أن يكون مُقدراً لأي من نواب الرئيس الدعوة الى أي اجتماع. كان كل ذلك يشي بضحالةً سياسية وتنظيمية فاقعة.
(*) الجزء الثاني غداً؛ “الثنائي الحريري”: العودة الصعبة والتيار المفخخ