كتاب بيرغمن عن إغتيالات “الموساد”: تغيير مجرى التاريخ (2)

في مقدمة كتابه "إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية"، يشير الصحافي والكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان، إلى أنه منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، كانت اسرائيل من بين أكثر الدول الغربية تنفيذاً لعمليات الإغتيال، وأن بعض الأساليب والتقنيات أخذها الغرب عن الدولة العبرية، ولا سيما الولايات المتحدة.

يقول رونين بيرغمان في كتابه ان عملية الاغتيال التي نفذتها مجموعة من “الموساد” ضد محمود المبحوح، احد قادة “حماس” في مدينة دبي الاماراتية، كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين رئيس “الموساد” مائير داغان ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فقد ارسل داغان فريقاً من 27 ضابطاً وعنصراً من القتلة المحترفين الى دبي لقتل مسؤول فلسطيني رفيع في حركة “حماس”، وقد نجح الفريق في تنفيذ مهمته عبر حقن المسؤول الفلسطيني بحقنة قاتلة في غرفته، في احد فنادق دبي، وغادر الفريق دولة الامارات قبل اكتشاف جثة المغدور، ولكن ما لم يكن بحسبان “الموساد” هي سلسلة الاخطاء الجوهرية التي ارتكبها اعضاء الفريق، والتي بدأت بتجاهل وجود عدد لا يحصى من كاميرات المراقبة المنتشرة ليس فقط في الفندق بل في كل شوارع هذه الامارة الخليجية ومؤسساتها، واستخدام جوازات السفر المزورة نفسها التي كان اعضاء الفريق قد استخدموها سابقاً عند دخولهم الى دبي خلال عملية الملاحقة والترصد واستخدام نفس مجموعة الهواتف التي لم يكن من الصعب على الشرطة الاماراتية متابعتها وفك “الداتا” الخاصة بها، وهكذا فقد ظهرت امام العالم كله مقاطع فيديو مأخوذة من كاميرات المراقبة تظهر وجوه اعضاء الفريق وكل حركاتهم قبل عملية الاغتيال وبعدها.

لقد بينت كل تلك الاخطاء ان عملية الاغتيال تحمل بشكل واضح بصمة “الموساد” وقد تسببت باضرار عملياتية جدية لهذا الجهاز الاستخباراتي، يقول بيرغمن، كما تسبب باحراج شديد لدولة اسرائيل التي إستخدمت جوازات سفر مزورة لدول غربية صديقة لها. وهكذا، فقد صرخ نتنياهو في وجه داغان، وهو يزبد قائلاً له: “لقد اخبرتني ان العملية ستكون سهلة وبسيطة وان نسبة الخطأ فيها قريبة جداً من الصفر”. على الفور، اصدر امره لداغان بوقف كل عمليات الاغتيال التي كان مخططاً ان تتم ولكل عمليات “الموساد” في الخارج حتى اشعار آخر. هكذا، تصاعدت حدة الخلافات بين نتنياهو وداغان الى ان قرر نتنياهو (بحسب روايته هو) ان لا يمدد ولاية داغان لرئاسة “الموساد” او بحسب رواية داغان “لقد سئمت منه وقررت ان اتقاعد”.

القتل الهادف

وفي عودة الى الملف النووي الايراني، ينقل بيرغمن عن داغان قوله خلال لقائه الاول مع الصحافيين في مقر “الموساد”، وفي مقابلات اخرى اجراها معه في اطار ابحاثه المسبقة لاعداد الكتاب انه كان بمقدور “الموساد” تحت قيادته وقف ايران عن حيازة اسلحة نووية عبر عمليات الاغتيال وضربات موضعية اخرى، وقد اعرب عن ثقة قوية بان العمل مع الولايات المتحدة يمنع ايران من استيراد بعض القطع الحيوية لمشروعها النووي بسبب عدم قدرتها على تصنيعها..

يسترسل بيرغمن في كتابه بالقول “انه من بين كل الوسائل التي تستخدمها الديمقراطيات في العالم لحماية امنها، لا شيء اكثر اثارة للجدل من عمليات قتل السائق، الاغتيال”. البعض يسميها “تصفية” ووكالات الاستخبارات الامريكية تسميها، ولاسباب قانونية، “عمليات القتل الهادفة”، وفي كل الاحوال، فان كل التعابير تنتهي الى معنى واحد وهو قتل فرد ما (نظرية قتل السائق)، وذلك من اجل تحقيق هدف محدد ألا وهو انقاذ حيوات اناس ينوي المستهدف ان يقتلهم وازالة الخطر الذي يشكله هذا الهدف، واحيانا يكون الهدف من قتل قائد ما هو تغيير مجرى التاريخ، يضيف الكاتب.

ويرى بيرغمن ان استخدام دولة ما للاغتيال يثير معضلتين، الاولى، تتمثل في السؤال الآتي: هل عملية الاغتيال فعالة؟ اي هل ان تصفية فرد ما او مجموعة افراد ستجعل العالم اكثر اماناً؟ الثانية، تتمثل في السؤال هل عملية الاغتيال مبررة اخلاقياً وقانونياً؟ وهل ان قيام بلد ما باستخدام اسوأ انواع الجرائم وفق اي قانون او اخلاق (حرمان انسان او مجموعة بشر من حياتهم) من اجل حماية مواطنيها؟ يسأل الكاتب.

يترك بيرغمن الاجابة عن هذه الاسئلة للقارىء، قبل أن يمضي في شرح مضمون كتابه بالقول “ان هذا الكتاب يتعامل بصورة رئيسية مع عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي نفذها جهاز “الموساد” والاذرع الاخرى للحكومة الاسرائيلية في حالتي السلم والحرب، كما يتعامل في فصوله الاولى مع مثل هذه العمليات التي نفذتها منظمات وميليشيات سرية قبل نشوء دولة اسرائيل والتي صارت بعد العام 1948 الجيش الرسمي لهذه الدولة واجهزة الاستخبارات الرسمية لها.

800 عملية إغتيال

ويخلص بيرغمن من خلال مضمون الوثائق التي حصل عليها والمقابلات التي أجراها إلى انه منذ الحرب العالمية الثانية كانت اسرائيل من بين الدول الغربية الاكثر تنفيذا لعمليات اغتيال، ويضيف، في عدد لا يحصى من المناسبات، فان قادة اسرائيل قرروا انه من بين كل الخيارات المتاحة، فان ما هو افضل للدفاع عن امن بلادهم القومي هو تنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات موضعية. وبرأيهم ان هذه العمليات تحل المشاكل التي تعاني منها الحكومة واحياناً تغير مجرى التاريخ”.

يشير بيرغمن إلى أن قيام جهاز “الموساد” واجهزة استخبارات اسرائيلية اخرى بعمليات اغتيال لاشخاص مصنفين كتهديد مباشر للامن القومي “قد ارسل رسالة اكبر من عملية الاغتيال نفسها ومفادها اذا كنت عدوا لاسرائيل فاننا سنجدك ونقتلك اينما كنت”

يعرض بيرغمن أنه حتى كتابة هذا الكتاب (الذي نشر في الولايات المتحدة باللغة الإنكليزية في العام 2018)، نفذت اسرائيل 800 عملية قتل هادف تقريبا، كلها كانت من ضمن حربها ضد “حماس” في قطاع غزة، في اعوام 2008 و2012 و2014 او في اطار عمليات “الموساد” في الشرق الاوسط ضد اهداف فلسطينية وسورية وايرانية (أغلبها بالمسيرات). وللمقارنة هنا، فان الولايات المتحدة الامريكية نفذت في عهد الرئيس جورج دبليو بوش 48 عملية إغتيال وفي عهد الرئيس باراك اوباما نفذت 353 عملية مشابهة.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": إنها المرحلة الأخيرة بين إيران والقنبلة النووية!

ويضيف بيرغمن “لا شيء اروع مما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الامريكية (سي آي أيه) ووكالة الامن القومي الامريكية (ان اس ايه) الجنرال مايكل هايدن في استخدام سلاح الاغتيال القائم على الاستخبارات، لانه هو ما جعل حرب اسرائيل على الارهاب اكثر فعالية من اي حرب مشابهة خاضتها اية دولة غربية على الاطلاق، ففي عدد كبير من المناسبات، كان القتل الهادف هو ما انقد اسرائيل من أزمات عميقة”.

ويشير بيرغمن إلى أن قيام جهاز “الموساد” واجهزة استخبارات اسرائيلية اخرى بعمليات اغتيال لاشخاص مصنفين كتهديد مباشر للامن القومي “قد ارسل رسالة اكبر من عملية الاغتيال نفسها ومفادها اذا كنت عدوا لاسرائيل فاننا سنجدك ونقتلك اينما كنت”.

الضوء الأخضر

ويقول بيرغمن انه “ليس كل عمليات الاغتيال نفذتها مجموعات صغيرة ومغلقة، لانه كلما كانت العملية معقدة كلما كان عدد المشاركين فيها اكبر وقد يصل الى المئات، ومعظمهم اعمارهم دون 25 سنة، وفي بعض الاحيان، كان هؤلاء الشباب يأتون مع قادتهم قبل التوجه لتنفيذ عمليتهم للقاء رئيس الوزراء (وهو الشخص الوحيد المخول باعطاء الضوء الاخضر لعمليات الاغتيال) حيث يشرح لهم العملية ويعطيهم الموافقة النهائية الشفهية، وهذا امر فريد من نوعه في العالم، وبعض الضباط من الرتب الصغيرة الذين شاركوا في مثل هذه اللقاءات ارتقوا ليصبحوا قادة وطنيين وحتى رؤساء حكومات، لذلك اسأل ما هي العلامات التي طبعت في ذاكرة هؤلاء عن عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي شاركوا فيها”؟

ويشير الكاتب إلى ان الولايات المتحدة اخذت من اسرائيل تقنيات الاغتيال كنموذج بعد احداث 11 ايلول/سبتمبر 2011 وتنفيذا لقرار الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش لشن حملة قتل هادفة ضد تنظيم “القاعدة” استخدمت اجهزة الاستخبارات الامريكية تقنيات وطرق الحرب على الارهاب التي ابتكرتها اسرائيل ومن ضمنها نظام السيطرة والقيادة، غرف العمليات، طرق جمع المعلومات وتقنيات المسيرات الطائرة والطائرات من دون طيار.

ويختم بيرغمن مقدمة كتابه بالقول عندما تستخدم الولايات المتحدة ضد اعدائها اليوم نفس نوع القتل الخارج عن القانون الذي دأبت اسرائيل على استخدامه لعقود خلت، من المناسب ليس فقط ابداء الاعجاب بالقدرات العملياتية التي انجزتها اسرائيل بل ايضا دراسة السعر الاخلاقي العالي الذي دفع ولا يزال يدفع لاستخدام هكذا نوع من القوة.

(*) في الحلقة الثالثة، يروي رونين بيرغمن عمليات الاغتيال التي نفذتها المنظمات الصهيونية المتعددة قبل نشوء الكيان الاسرائيلي.                                          

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "كامل" و"عامل".. سيرة إنسان ومؤسسة