يحاول الأميركيون، ومعهم ما يسمى “المجتمع الدولي”، إحكام الخناق على كل المحور الممتد من بيروت إلى طهران، مروراً بدمشق وبغداد. أشكال الحصار متعددة. العقوبات. قانون قيصر. منع المساعدات والقروض (لبنان نموذجاً). مجرد أمر للمطبعة التي تطبع الدولار الأميركي في المصرف الفدرالي الأميركي أو للمصرف الذي يعمّمه ويوزعه، هو أكثر من كافٍ لإركاع بلد وجعله يتوسل الطاعة. هذا هو المطلوب، أقله من لبنان.
إنكسرت معادلة حياد لبنان وتحييده عملياً مع إنتصاره في العام 2000 على إسرائيل. زاد الطين بلة في تموز/يوليو 2006. لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهداف عدوانها. قال الرئيس نبيه بري للسيد حسن نصرالله في أول لقاء جمعهما بعد إنتهاء تلك الحرب (6 أيلول/سبتمبر 2006):”أخشى ما أخشاه أنه ليس مسموحاً لنا أن نفرح بالإنتصار لأنه أكبر من قدرة بعض اللبنانيين والعرب على هضمه”.. وهذا ربما ما كان.
ربما إعتاد البعض على التعايش مع الهزيمة. هزيمة مع إستقرار على حساب السيادة والحرية.. لمَ لا؟
هنا لا بد من مصارحة ما: بدأ الضغط الأميركي على البيئة اللبنانية يُحدِث تفسخاً ما. لا يتردد بعض رجال الأعمال الشيعة، في القول إن الفلسطينيين قبلوا بدولة ولو على جزء من أرض فلسطين، فلماذا علينا أن نحمل السلم بالعرض وهل قدرنا كلبنانيين أن نتحمل وحدنا أوزار قضية تخلى عنها أهلها وربما الأمة بأسرها؟
هذا الهمس في البيئة الشيعية، يتحول كلاماً صريحاً في البيئات الطائفية اللبنانية الأخرى، ولا سيما في البيئة العونية التي لا يمكن أن تتماهى، تبعاً لثقافتها ومصالحها وتاريخها وحاضرها، إلا مع البيئة المهادنة مع الغرب، ولذلك، رحنا نسمع مؤخراً من يقول نعم علينا أن نحدد موقفنا من المعادلة: إما السلاح أو الجوع!
طبعاً، لن يجد حزب الله من يتفهم موقفه ومعادلاته في البيئات المعترضة على هذا الموقف، ولو أنها هادنته لبعض الوقت، كالبيئة السنية أو الدرزية، مع كبير الأسف لإستخدام هذه التعبيرات، ولكن هذا هو لبنان.
لذلك، علينا أن نعترف أن الضغط الأميركي بدأ يفعل فعله، وكلما زاد سنرى ملامح تشققات في بيئات تعتبر نفسها غير معنية بكل الإعتبارات التي تحكم موقف حزب الله وكل المنظومة التي ينتمي إليها.. وصولا إلى إتهامه بأسر البلد أو جعله أسير خياراته ورهاناته!
من هذه الزاوية تحديدا، يبدو خطاب السيد نصرالله خطاباً تأسيسياً في الوعي والثقافة. يريد أن يحفر في وعي جمهوره خصوصاً والجمهور اللبناني عموماً (وربما حتى الجمهور السوري والعراقي بسبب عجز خطاب “الحلفاء” هناك عن تقديم أية مقاربة أو مصارحة حتى الآن).
قال نصرالله إننا لن نجوع ولن نسمح للبلد أن يجوع، وهو عندما يقول ذلك، يعني ما يقوله، أقله أمام جمهوره وبيئته الحاضنة، وثمة خيارات لا بل خطوات بدأ هذا الجمهور يلمسها على الأرض، لكن الأهم من هذا المعطى المباشر، هو تعمد الأمين العام لحزب الله مخاطبة اللبنانيين كلهم بفائدة الذهاب نحو خيارات أخرى، مثل الخيار الصيني، قد لا تكون واقعية حالياً، وقد تكون دون الوصول إليها، مسارب وتعقيدات كثيرة وغير محسوبة، لكن لماذا لا نحاول أن نضعها على الطاولة، لعلها تساعد في دفع الأميركيين وغيرهم الى إعادة النظر في ما يتخذونه من إجراءات بحق لبنان.
هنا لعل المقصود هو القول إنه عندما كان البلد غير مأزوم، لم يطرح حزب الله لا تغيير الإنتقال من إقتصاد ريعي إلى إقتصاد منتج ولا الإنتقال من الخيار الأميركي (غرباً) إلى الخيار الصيني (شرقاً). الأميركيون أنفسهم، ومن خلال ضغطهم على لبنان، يدفعون جزءاً من اللبنانيين، رغماً عنهم، للبحث عن بدائل سياسية وإقتصادية، فلماذا لا تتلقف الحكومة اللبنانية هذه المبادرة، تماماً كما فعل رفيق الحريري، عندما قال للسيد حسن نصرالله غداة التحرير إنه “ليس مسموحاً تحت أية ذريعة أن تقبل يا سيد بتسليم سلاحك. هذه ورقة بيدي أنا وأريد إستخدامها دولياً لمصلحة لبنان”، وهذه الجلسة كان يحتفظ الزميل الصحافي الراحل مصطفى ناصر بمحضرها وهو الذي كان موجوداً فيها بصفته مستشاراً للحريري الأب.
في هذه النقطة تحديداً، لا بد من الإلتفات إلى نقطة هامة ومحورية جداً. كاد حزب الله أن يسمي الأشياء بأسمائها. صحيح أن رئيس الحكومة قد إطمأن إلى أن وزارته باقية بقوة الأمر الواقع والعجز عن توفير بديل لها، وجاءت كلمات السيد نصرالله لتزيد اطمئنانه، مثلها مثل كلمات الحاج حسين خليل، قبلها بايام قليلة، رداً على إشاعات كانت تنتشر هنا وهناك بأن الحكومة قد”صارت من الماضي”، وهو التعبير الذي إستخدمته السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا أمام أكثر من “صديق لبناني”. يومها قال المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله لحسان دياب إن هذه الحكومة “باقية وصامدة ونحن معك وإلى جانبك يا دولة الرئيس”!
هذا الفائض من الطمأنة لا يحجب أسئلة لا بد منها: ماذا فعلت حكومة حسان دياب في مواجهة الضغط الذي كان الجميع يدرك أنه آت حتماً؟
لقد راهن رئيسها على فتح أبواب الخليج أمامه وبالغ في القول أمام كل من سأله وكأنه يملك أوراقاً قوية في جيبته. جرى الحديث عن ودائع قطرية. سرعان ما تبين أن أبواب السعودية والإمارات والكويت وقطر مقفلة كلها.. وما زالت الأمور محكومة بمعادلة قالها امام خلية الازمة السعودية المعنية بالملف اللبناني ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في الخريف الماضي، بعد سقوط حكومة سعد الحريري: “لن نتدخل الآن، وسنجعل اللبنانيين في الأشهر المقبلة، عندما يجوعون، أن يأتوا زحفاً إلينا وهم يتوسلون مساعدتنا”.
حاول حسان دياب قرع البوابة المصرية، فجاءه الجواب الديبلوماسي المتحفظ إياه.
شرعت الحكومة في المفاوضات ـ الفضيحة مع صندوق النقد الدولي. تاه الجميع في لعبة الأرقام. لماذا قررت شركة “لازار” ومعها بعض النافذين في وزارة المال أن يوقعوا لبنان في هذا المطب؟ ماذا كان يمنع أن تصدر خطة مالية لبنانية تحظى بإجماع كل الأطراف المعنية بها بدل ما شهدناه ونشهده حالياً؟ هل يعقل أن الحكومة اليوم صارت أقرب إلى أرقام مصرف لبنان وجمعية المصارف من الأرقام التي تبنتها رسمياً؟
حسناً أن قررت الحكومة أن تفاوض صندوق النقد، لكن ماذا عن الخيارات الأخرى؟ لماذا لا تستخدم الأسلحة المتاحة أمامها أقله لتجعل من يعرقلون طريقها يعيدون النظر في خياراتهم؟ هل ناقشت الحكومة كيف تخلق خلية أزمة تناقش الأميركيين ودول القرار في كيفية توفير إستثناءات للبنان، حتى لا يتأذى بقانون قيصر، تماما كما يحصل العراقيون على إستثناءات من الأميركيين في ما يخص إستيراد النفط من إيران؟
هل تقدمت مثلاً برسالة إلى دولة الصين وطلبت منها أن تناقش خيارات إستراتيجية أم أنها كلفت وزير الطاقة أن يبلغ سفير دولة الصين أن الحكومة ليست بوارد الإستعانة بمشاريع الطاقة الكهربائية الصينية؟
ولنقل أن بعض الجهات اللبنانية مصرة على معاداة سوريا وما زالت تأمل بسقوط النظام هناك وتضبط عقارب ساعتها على هذا الأساس، هل فكر هؤلاء، بالتعامل بإنتهازية سياسية مع سوريا، أقله من زاوية توفير ممر آمن لمنتجات لبنانية (زراعية أو صناعية غذائية) متجهة نحو السوق الخليجية أو العراقية، ولنؤجل أمر التطبيع من عدمه مع دمشق إلى مرحلة لاحقة؟
لقد قررت الحكومة أن تغرق في سبات عميق. لم تضع إلا نقطة واحدة على جدول أعمالها هي صندوق النقد. إذا فشلنا في هذا الخيار، لا بدائل لدينا إلا الفشل. أي عقل سياسي يمكن أن يبرر لحكومة لا يفكر رئيسها أبعد من إستمراريته على رأس هذه الحكومة؟
يسري ذلك وبدرجة أكبر على العهد. المقصود بالعهد ليس ميشال عون، بل جبران باسيل. لقد قرر الأخير أن يخطف العهد. جعل ميشال عون أسيراً لفكرة أنه وريثه ليس في التيار ولا في الشارع المسيحي بل في رئاسة الجمهورية. هذا التوريث الذهني المبكر، وغير الواقعي على الإطلاق، أدى ويؤدي إلى المزيد من تكبيل رئيس الجمهورية. لم يعد هناك ميشال عون. الرجل لن يزور سوريا مخافة أن يؤدي ذلك إلى حرق حظوظ جبران باسيل الرئاسية. لن يزور الأردن للتضامن مع ملك الأردن في مواجهة صفقة القرن، مخافة إستفزاز صهر الرئيس الأميركي. لن يزور العراق، حتى لا يعطي الأميركيون هذه الزيارة أبعادا. أصبح العهد أسير عهد لن يأتي. ليس مسموحاً أن يفكر لبنان لا بخيار مشرقي ولا صيني ولا أندونيسي إلا من زاوية تأثيره على المنتج اللبناني العظيم: جبران باسيل.
لا يمكن أن يُقرأ خطاب السيد حسن نصرالله، أقله لمن يتعمق في حروفه وعباراته، إلا من هذه الزاوية. نحن أمام إستسلام لبناني كبير، من الحلفاء قبل الآخرين، لمنطق العقوبات والحصار وقانون قيصر..
أما قول السيد نصرالله لمن يريدون خنق لبنان وتجويعه، “سنقتلكم سنقتلكم، سنقتلكم” بالإصبع المعلوم، فهو عنوان مقاربة أخرى.