أصبح الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال في الحياة العامة ضبابياً، لقد دخلنا في زمن القلق والخوف. لا شك أن زمن “كورونا” أو فيروس “كوفيد-19” لا يشبه أي زمن من الأزمنة التي عاشتها البشرية، فما بين “كورونا” و”العولمة” يعيش الإنسان في حالة لايقينية. نعم يتقاطع “كورونا” و”العولمة” في أكثر من مسألة أو إشكالية.
لن أخوض في الكثير من المسائل التي تثار حول فيروس “كورونا” العلمية والصحية، ذلك أن وسائل الاعلام قد قامت بالكثير من التغطيات والحملات الإعلامية لشرح ماهية الفيروس، ومدى خطورته، وكيفية إنتشاره. عدا عن نشر الإحصائيات عن الإنتشار الجغرافي.. ومن هنا سنحاول الإضاءة على خطورة دور شبكات التواصل الاجتماعي في زمن “كورونا”.
يصف رئيس أميركي الوباء بأنه “فيروس صيني”، ووزير خارجيته يسميه “فيروس ووهان”، في حين يثير المسؤولون الصينيون نظريات المؤامرة السخيفة عبر شبكات التواصل الاجتماعي حول نشر الجيش الأميركي للوباء في المقام الأول. وبالتأكيد، تشيع القصص والحكايات وتتناثر من هنا وهناك عن الأشخاص المعرضين لسوء المعاملة الشديدة لمجرد السعال لأنهم آسيويون، أو إبعادهم عن العمل في الشركات بسبب أصولهم الصينية الحقيقية أو المفترضة.
ومن المؤسف أن يترافق المشهد العالمي المثقل بالعجز عن السيطرة على فيروس “كورونا” وصور ضحاياه، مع استمرار الصراعات السياسية والمنافسات الاقتصادية وتغذية المصالح الأنانية والعصبيات، في ظل تسابق بغيض لدى بعض قادة الدول لإستثمار هذا الفيروس، والإفادة من تداعياته، لتقوية عناصر السيطرة والنفوذ، بدل التوجه للعمل على حلول إنسانية مشتركة تتجاوز مآسي “العولمة” ومحنة “كورونا”.
تكاثرت في السنوات العشرين الأخيرة الأفلام السينمائية حول مستقبل الحياة على الأرض، ولعل أحد الأفلام النموذجية هو فيلم “عدوى” (Contagion) للسيناريست سكوت زد. بيرنز، وأخراجه المخرج ستيفن سودربيرغ (2011). ويصور الفيلم على نحو كمن يقرأ في كتاب مستقبلي، انتشار وباء على نحو يشمل العالم بأسره منطلقاً من الصين (التي تأكل كل من يدب على الأرض، حسب الفيلم) ولا تقيم وزناً للنظافة (تبعاً للفيلم أيضاً). تتلقف امرأة أميركية العدوى عن طريق مصافحة طبّاخ في مطعم صيني وتعود إلى أميركا. العوارض التي تداهمها (احتقان وجه، حرارة مرتفعة، جفاف في الحلق). هي تموت، لكن الوباء ينتشر كالنار في الهشيم ويحصد ارواحاً بمئات الألاف ويعرض المحلات التجارية للنهب ويتقوض البناء الاجتماعي وينزل الجيش لضبط الأمور. لا شك أن هذا الفيلم يحاكي ما هو حاصل في زمن “كورونا”، فعدا عن أنه يتحدث عن وباء ما، فإنه أيضاً يشكل مصدراً مميزاً لمروجي القصص والحكايات، عدا عن فبركة فيديوهات ترتكز على أحداثه، ومن ثم نشرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، على أنها فيديوهات حول ما يحصل في دول العالم جراء إنتشار فيروس “كورونا”.
في زمن “كورونا”، نلاحظ سقوطاً أخلاقياً وإنسانياً للكثير من البشر، عدا عن ممارسة البعض للتضليل عن طريق نشر الأكاذيب والشائعات حول فيروس “كورونا” لتضليل الناس وبث الرعب وإشاعة الإحباط واليأس، عبر الجيوش الإلكترونية، من خلال رسائل ينشرها أنصارها وصلت إلى درجة خروج بعض الجماعات المُعارضة لأحد الأنظمة بفيديوهات للدعوة لنشر الفيروس بين الاصحاء، حيث ظهر فيديو يدعو كل مصاب بأعراض الإنفلونزا، إلى أن يقوم بمصافحة أي فرد لنشر الذعر بين أفراد النظام، كما طالب صاحب الفيديو من يعلم أنه مصاب بفيروس “كورونا” بالفعل، بأن ينتقم من النظام. لقد تحولت هذه المنصة بهكذا تصرف إلى أداة قاتلة هنا. لا شك أن الاستخدام السيء لشبكات التواصل الاجتماعي خلق الكثير من الإرباكات على مستوى العالم.
ولعل ما زاد بالطنبور نغماً قيام عناصر مأجورة تدعي العلم والمعرفة بتوظيف نفوذها في شبكات التواصل الاجتماعي لإشاعة معلومات خاطئة، ونشر طرق طفولية مثيرة للسخرية، عبر الإدعاء بأنها قادرة على هزيمة الوباء.
بالعودة إلى العولمة، لقد صدرت آلاف المقالات ومئات الكتب حول “العولمة” بقلم عدد من كبار المحللين السياسيين والمسؤولين، حيث بات مصطلح العولمة أو «الكوننة» أو «الشوملة» من المفردات الأكثر شيوعاً في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وإن كانت المؤشرات الإعلامية والإعلانية غير المكتوبة قد أخذت طريقها إلى العولمة بالمفهوم الأميركي من خلال السينما الهوليوودية التي أطلقت نجوماً ومواضيع «معولمة»، بذلك بدأت تنقشع الغيوم عن حقيقة نظرية العولمة، كما عبر عنها مارشال ماكلوهان وكوينتن فيور، صاحبا الكتاب الشهير «War and Peace in The Global Village»الصادر عام 1968 وزبيغنيو بريجنسكي صاحب «Between Two Ages: America’s Role in the Technetronic Era» الصادر عام 1970.
ينطلق كتاب “ماكلوهان – فيور” من تجربة حرب فيتنام ودور التلفزيون في نقل الصورة الحقيقية والواقعية، ليستنتج الكاتبان أن الشاشة الصغيرة حولت المواطنين من مجرد مشاهدين إلى مشاركين في اللعبة، الأمر الذي أدى إلى اختفاء الحدود بين المدنيين والعسكريين. يضيف ماكلاهان أن الإعلام الإلكتروني، في وقت السلم، يجعل التقنية محركاً للتغيير الاجتماعي. أما بريجنسكي في كتابه فقد فضّل استعمال مصطلح «المدينة الكونية» على «القرية الكونية»، لأن مفهوم العودة إلى الجماعة والألفة المرتبطة بالقرية لم يعد مناسباً للدلالة على البيئة بالتلفزيون والهاتف بالاتصالات اللاسلكية، ما حوّل العالم كله إلى “شبكة علاقات متشابكة ومتداخلة، عصبية، متوترة ومتحركة”. وأكد بريجنسكي أن الولايات المتحدة هي المجتمع الكلي الأول في التاريخ. فهي مركز الثورة التكنو-إلكترونية بحيث تبلغ نسبة اتصالاتها 65 في المئة من مجموع الاتصالات المعالجة التي تخرج منها، من خلال إنتاجات صناعاتها الثقافية، لكن أيضاً بفضل تقنياتها ومناهجها وممارسات التنظيم الجديد.
من الملاحظ أن الكتابين ركزا على “الإعلام” و”الاتصالات” في التأسيس للعولمة، ولعل أبرز تجليات العولمة في لحظة تحققها مع تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال، كان مع إنتشار شبكات التواصل الإجتماعي، أضف الى التطور التكنولوجي على مستوى أجهزة الهاتف النقال، أي ظهور الهواتف الذكية.
لم تعد وسائل الإعلام التقليدي وحدها مصدراً للخبر أو المعلومة أو الصورة، بل بات حامل الهاتف الذكي قادراً على إنتاج قصة متكاملة، وأيضاً بثها إلى كثر حول العالم، وهكذا دواليك
نحن أمام مشهد فريد من نوعه في التاريخ. كل إنسان وأينما كان في الكرة الأرضية بات قادراً على نقل الصوت والصورة، وأيضاً التلاعب بهما وفق مشيئته. لم تعد وسائل الإعلام التقليدي وحدها مصدراً للخبر أو المعلومة أو الصورة، بل بات حامل الهاتف الذكي قادراً على إنتاج قصة متكاملة، وأيضاً بثها إلى كثر حول العالم، وهكذا دواليك.
في مطلع القرن التاسع عشر، بدأ عصر “الصحافة الصفراء” التي اعتمدت المبالغة والترويج للفضائح والإثارة، وعشية عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ظهرت، الصحافة الشعبية التي قامت بنشر القصص المثيرة عن الجنس والعنف. وفي نهاية القرن العشرين حصل التغير الأكبر في نظام المعلومات، مع ظهور التغطية الإخبارية لمدة 24 ساعة، ونشوء شبكات التواصل الاجتماعي ونشر المعلومات المضلّلة والمعلومات المخادعة.
أتاحت هذه الثورة لشبكات التواصل الاجتماعي أن تصبح مصدراً للمعلومات، عدا عن تصاعد ظاهرة “البيانات الشاردة” وانتشارها عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
و”البيانات الشاردة” مصطلح علمي جديد، وهو يعني معلومات ثانوية تتحول شائعات أو معلومات صحيحة تستخدم عبر شبكات التواصل الاجتماعي لتحقيق هدف ـ مؤامرة ما، أي أن الشائعات يكون جزء صغير منها كاذبا، أو كلها صحيحة ولكنها تخدم تحقيق “المؤامرة”، وتتميز بتكثيفها وتلاحقها بشكل يؤثر جداً على المتلقي. وتشمل “البيانات الشاردة” الوقائع الصغيرة والأحداث العابرة التي تسبق أو تصاحب أو قد تعقب الواقعة المركزية التي تُصَاغ المؤامرة حولها، حيث يتم توظيف “البيانات الشاردة” من أجل التشويق، وإثارة الغموض في إطار الصياغة الروائية لخطاب المؤامرة.
بعد 11 أيلول/ سبتمبر برزت ظاهرة “تصدع الحقيقة” في الولايات المتحدة بحسب دراسة لمؤسسة راند “RAND”. في زمن كورونا، نحن نعيش أيضاً “تصدع الحقيقة” على مستوى العالم، فها هي الصين التي حجبت حقائق تطور فيروس “كورونا” وأعداد ضحاياه، مستهينة بالتحذيرات التي أثارها أطباؤها حول خطورته وسرعة انتقاله عبر المسافرين، وتهربت مما فعلته ومن مسؤوليتها، بتمرير تصريحات عن أن الوباء صنيعة إمبريالية، وتحديداً أميركية، للنيل من الموقع المتقدم الذي باتت تحتله الصين إقتصادياً، كما عملت على تلميع صورتها عبر عرض المساعدة لأكثر الدول الأوروبية تضرراً، حيث قامت بتشغيل دعايتها الإعلامية، للطعن في حيوية الأنظمة الديمقراطية. فيما حمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصين مسؤولية خلق الفيروس ونشره، وقام بشحن عنصري، وسعى الى تعزيز تعبئته الشعبوية ضد المهاجرين في الولايات المتحدة، كما حاول عبر “تويتر” بث تطمينات زائفة، بإدعاء قرب إنتاج لقاح ضد الفيروس. لكن لا بد من التوقف عن ممارسة الثأر، الذي حذر منه غاندي بقوله أن “العين بالعين ويصبح العالم كله أعمى”.
نحن أمام فيروس لا يُمكن رؤيته بالعين المجردة، وهو ينتقل بسرعة بفعل التنفس، ونحن امام معلومات تنتقل بسرعة بواسطة ذبذبات لا ترى.. وما لا نراه وما لا نفهمه لا يعني بأنه غير موجود.
اليوم، أصبح الإنسان في مطلع الألفية الثالثة أمام تحدي البقاء. “تحدي الحقيقة”. الإنسان هو وسيلة نقل سواء لفيروس أو لمعلومة، وبيده كل شيء والقرار قراره… فمن المسؤول عن دمار العالم؟
“من يُهمل الحقيقة في الأمور الصغيرة لا يمكن الوثوق به في الأمور المهمة”، بحسب أنشتاين.
(*) صحافي وكاتب لبناني