“التوافق اللبناني” على الأرقام المالية.. على حساب من؟

علي نورعلي نور19/07/2020
"وفروا التوافق الوطني المطلوب حول الأرقام ونحن جاهزون لإستئناف الحوار معكم". هذه آخر وصفة قدمها صندوق النقد للحكومة اللبنانية، في إنتظار أن يتبلغ من وزير المال اللبناني غازي وزني، أن النصاب الوطني قد إكتمل حول أرقام جديدة، من ضمن مقاربة ستكون مختلفة عن النسخة الأولى التي قدمتها حكومة لبنان للصندوق.

لم يكن مسار التفاوض مع صندوق النقد، وخطّة الإصلاح المالي التي راهنت عليها الحكومة كأرضيّة لهذه المفاوضات، أفضل ما يمكن أن تنتظره المصارف اللبنانيّة وحاكم المصرف المركزي.

منذ البداية، إمتلكت هذه الأطراف ما يكفي من أسباب للإمتعاض من الخطّة ومسار التفاوض بأسره، سواء من ناحية الخطّة التي توجّهت نحو التصريح عن الخسائر التي تراكمت في ميزانيّات القطاع المالي، وتحدّثت عن مقاربات تحمّل رساميل القطاع جزءاً من هذه الخسائر، أو من ناحية صندوق النقد الذي أعلن منذ البداية أنّ تقدير الخسائر بشكل واقعي يمثّل ركناً أساسياً من أركان أية خطّة يمكن أن يوافق عليها الصندوق في إطار برنامج قرض. ولذلك، يمكن القول أن الإطاحة بخطّة الحكومة، يمثّل أفضل نتيجة بالنسبة إلى مصرف لبنان المركزي وجميعة مصارف لبنان.

عمليّاً، كانت هذه الحقيقة هي ما دفع الكثيرين إلى إعتبار وضع جهد لجنة تقصّي الحقائق النيابيّة، التي أطاحت بخطّة الحكومة وأرقامها، في خانة تحقيق مصالح القطاع المصرفي بالدرجة الأولى، وهو ما أثار حفيظة رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان في تصريحات عديدة. مصادر اللجنة إعتبرت عند إعلان أرقامها أن مصلحة لبنان إقتضت الدفع بإتجاه مضاد لتوجّه وفد صندوق النقد، في محاولة لتخفيف وطأة شروط الصندوق والحد من كلفة التصحيح، معتبرة أن الحلول أهم من الأرقام، وأن المقاربات “وظيفتها رسم خارطة طريق للنهوض”.

أمام هذا الواقع اللبناني المتشظي، قرر صندوق النقد الإبتعاد عن المشهد حتّى إشعار آخر. قال رئيس وفد الصندوق في الإجتماع الرقم 18 لوزير المال “فليكن توافق وطني لبناني حول الأرقام ونحن نقبل بما يقبل به جميع اللبنانيين”. إستشعر وفد الصندوق أن الحكومة لا تملك دعم المجلس النيابي في خطّتها، خاصة وأنّها ستحتاج إلى موافقة المجلس على عشرات القوانين التي يحتاجها تنفيذ الخطّة. كما إستشعر الوفد أن الطبقة التي تمسك بالقرار السياسي في البلاد غير مستعدّة للدخول في مسار يمكن أن يكشف حقيقة الخسائر كما هي، ويتعامل معها بمعزل عن تأثير أصحاب المصالح في النظام المالي. أمّا أهم ما تبيّن للوفد، فهو عدم قدرة الحكومة على السير قدماً في أي من الإصلاحات التي تمّ الحديث عنها في المفاوضات، ولاسيما خطّة الكهرباء التي جرى فرض معمل سلعاتا في مرحلتها الأولى برغم تصويت الحكومة ضد هذه المسألة في البداية، كما جاءت التعيينات في مجلس إدارة كهرباء لبنان خطوة ناقصة، وثمة خشية من أن يؤدي تعديل القانون 462 المتعلق بتنظيم قطاع الكهرباء هذا الأسبوع في مجلس النواب إلى إفراغ مضمون صلاحيات الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، ما يدل على عدم وجود نوايا إصلاحية خصوصاً في ضوء الإنتكاسة التي أصابت التعيينات القضائية وقبلها التعيينات المالية.

رهانات مصرف لبنان: معالجات بالمفرّق

مصرف لبنان يمتلك حسابات خاصّة في ما يتعلّق بالأزمة القائمة، وهو ما يفرض عليه التعامل مع أولويّات يختلف ترتيبها عن أولويّات كل من المصارف التجاريّة والحكومة. في الإعلام، وأمام لجنة تقصّي الحقائق، حاول مصرف لبنان المركزي تقليص حجم الخسائر المصرّح عنها إلى حدودها الدنيا، من خلال الآتي:

أولاً، من خلال إحتساب النقد المطبوع وغير الموزّع كأرباح مستقبليّة يمكن تنزيلها من حجم الخسائر.

ثانياً، من خلال تنزيل إلتزاماته التي لن تستحق خلال القريب العاجل من هذه الخسائر.

في النتيجة، تمكّن مصرف لبنان من تقليص حجم الخسائر التي قدّرتها لجنة تقصّي الحقائق إلى حدود الستة آلاف مليار ليرة، وهو ما يقل عن 4 مليارات دولار إذا إحتسبنا الخسائر وفق سعر الصرف الرسمي القديم (1500 ليرة).

ثمّة حقيقة يعلمها حاكم مصرف لبنان أكثر من أي شخص آخر، وهي أنّ ميزانيّة المصرف المركزي تحتوي اليوم فجوة قائمة بالعملة الصعبة تتجاوز قيمتها الـ42 مليار دولار، وهي فجوة نتجت تحديداً عن الفارق بين إلتزامات المصرف بالعملات الصعبة وما تبقّى من موجودات بهذه العملات لديه

لكن وبمعزل عن هذا التقدير المتضارب للأرقام، ثمّة حقيقة يعلمها حاكم مصرف لبنان أكثر من أي شخص آخر، وهي أنّ ميزانيّة المصرف المركزي تحتوي اليوم فجوة قائمة بالعملة الصعبة تتجاوز قيمتها الـ42 مليار دولار، وهي فجوة نتجت تحديداً عن الفارق بين إلتزامات المصرف بالعملات الصعبة وما تبقّى من موجودات بهذه العملات لديه. وعملياً، لا يمكن سداد هذه الفجوة اليوم من خلال طباعة النقد بالعملة المحليّة، كما لا ينفي وجود هذه الفجوة حقيقة أن بعض هذه الإلتزامات لن يستحق قبل عدّة سنوات. وإذا كانت بعض المصارف المركزيّة حول العالم تراهن على النقد غير الموزّع كأرباح مستقبليّة يمكن تنزيلها من الخسائر، فإنّها تقوم بذلك لسد فجوات قائمة بعملتها لا بالعملات الأجنبيّة، ولترحيل خسائر صغيرة مقارنة بحجم ميزانيّاتها.

في كل الحالات، تشير آخر معالجات الحاكم وتعاميمه أنّه يدرك وجود هذه الخسائر، ويحاول التعامل معها على طريقته بمعزل عن أي خطّة متكاملة مع باقي الأطراف، وهذا الأمر يسري على خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إذ لوحظ أن اللجنة المعنية التي شكلها حاكم المصرف المركزي لا تضم أي ممثل لوزارة المال، وعملياً للحكومة، أي أنه قرر السير بخطة غير متصلة بما طرحت الحكومة في خطة التصحيح المالي.

حاليّاً، يواظب المودعون بالدولار الأميركي على إستخدام دولاراتهم من خلال التحويلات الداخليّة والشيكات بين المصارف، مع وجود ضوابط للسيولة تمنع تحويلها للخارج أو سحبها نقداً. أما ما يعطي هذه الدولارات قيمتها برغم هذه الضوابط، فهو تعميم مصرف لبنان رقم 151 الذي يسمح لهؤلاء المودعين بسحب ودائعهم بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر صرف محدد حاليّاً عند حدود الـ3850 ليرة للدولار الواحد.

إقرأ على موقع 180  إيران الإلكترونية تكتفي ذاتياً.. و"الحرب" تطال كل منشآتها

لكنّ أهميّة هذا التعميم تتجاوز مسألة الحفاظ على قيمة هذه الودائع. ففي الوقت الراهن، يستمر الإنخفاض في قيمة الإلتزامات المتوجّبة على المصارف بالدولار الأميركي، نتيجة سحب هذه الودائع بالليرة اللبنانيّة، وفق الآليّة التي حددها التعميم رقم 151. وفي المقابل، تقوم المصارف في نفس الوقت بعمليّات قطع موازية مع مصرف لبنان، وبنفس القيمة وسعر الصرف، وهو ما يؤدّي عمليّاً إلى تخفيض إلتزامات مصرف لبنان لصالح المصارف بنفس القدر. أما النتيجة الحتميّة لهذا المسار، فهي تقليص حجم الفجوة الموجودة في ميزانيّات المصرف المركزي مع الوقت.

النتيجة الطبيعيّة لهذا المسار هي تضخيم حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، التي تتحوّل تلقائيّاً إلى طلب على الدولار الأميركي سواء عند الإستهلاك أو الإدخار، وهو ما يسبب تدريجيّاً المزيد من الضغط على سعر الصرف. وبذلك، يمكن القول أن الرهان على هذا النوع من المسارات ينطوي على تحميل كلفة التصحيح للغالبيّة الساحقة من اللبنانيين من محدودي الدخل، ولو أدّت هذه المسارات إلى قدر معيّن من التقليص في حجم إنكشاف المصرف المركزي على العملة الصعبة.

لا تكمن الإشكالية الأساسية اليوم في مسألة سقوط خيار صندوق النقد بحد ذاتها، خصوصاً أن خيار الصندوق يحمل في طيّاته أساساً إشكاليّات كبيرة من ناحية الكلفة الإجتماعيّة للشروط التي كانت ستنتج عنه، بل تكمن في أن الحكومة لم تكن منذ البداية جاهزة لأية خيارات أو خطط بديلة

رهان المصارف: موجودات الدولة وضمانات المقترضين

بالنسبة إلى المصارف، ثمّة أولويّتان تطغيان على ما سواهما حاليّاً:

أولاً، محاولة تقليص الخسارة الناتجة عن عجز الدولة عن الإيفاء بإلتزاماتها.

ثانياً، محاولة إرجاء التصحيح الذي يعالج بعض مكامن الخلل في ميزانيّاتها.

في النقطة الأولى، يمكن تلمّس رهان المصارف الأساسي من خلال مراجعة الخطّة البديلة التي قامت المصارف بطرحها منذ فترة أمام الإعلام، والتي وضعت نصب أعينها فكرة إنشاء صندوق سيادي يحتوي على أهم أصول الدولة المدرّة للأرباح، ليشكل ضمانة إلتزامات الدولة لصالح المصرف المركزي، المدين بدوره للمصارف.

عمليّاً، بمجرّد وضع هذه الأصول في خانة الضمانات الموضوعة بإمرة المصرف المركزي، كما إقترحت الخطّة نفسها، يصبح الباب مشرّعاً أمام إستعمال هذه الأصول لسداد إلتزامات الدولة. وبذلك، يمكن القول أنّ فكرة المصارف هنا تتشابه مع معالجات المصرف المركزي، في حقيقة تحميلها المجتمع ككل كلفة التصحيح خلال الفترة المقبلة.

بالنسبة إلى الأولويّة الثانية، أي العمل على تصحيح الميزانيّات، لا يمكن العبور بخفّة على عمل جمعيّة المصارف ولجنة الرقابة على تنزيل قيمة الخسائر الناتجة عن تعثّر قروض القطاع الخاص من 40 ألف مليار ليرة إلى نحو 14 ألف مليار ليرة، وفق تقديرات لجنة تقصّي الحقائق. فهذا التنزيل، إستند بالدرجة الأولى إلى حقيقة وجود ضمانات عينيّة مقابل هذه الإلتزامات، أي إمكانيّة تحصيل هذه القروض المتعثّرة من خلال بيع الضمانات المرتبطة بها. عمليّاً، يعني هذا المسار إمكانيّة إستخدام الودائع العالقة في النظام المالي حاليّاً، لتسديد قيمة هذه القروض مقابل مصادرة الضمانات المرتبطة بها، وهو ما يعني ببساطة تخليص المصارف من عبء القروض المتعثّرة في موجوداتها، ومن عبء إلتزاماتها للمودعين من ناحية مطلوباتها. وبذلك، تكون المصارف قد تمكّنت من معالجة مشكلة أكثر من 17 مليار دولار من إلتزاماتها ومطلوباتها في ميزانيّاتها.

رهانات منطقيّة.. ولكن

 بشكل عام، يمكن القول أنّ جميع هذه الرهانات تنطلق من فرضيّات منطقيّة من الناحية المحاسبيّة والنقديّة البحتة، وهو ما يجعل المتحمّسين لها يتجهون نحو خطط تستهدف تحقيقها في نهاية المطاف. وفي الواقع، يمكن القول أنّ جزءاً أساسياً من الضغوط التي أدّت إلى أرقام لجنة تقصّي الحقائق إنطلقت أساساً من هذا النوع من الفرضيّات، كحال مسألة سداد القروض المتعثّرة من بيع الضمانات. لكنّ هذه الفرضيات المحاسبية والنقديّة تتجاهل الكلفة الإجتماعيّة الباهظة التي ستنتج عن تحميل الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين عبء الأزمة، من خلال تدهور سعر الصرف وبيع الضمانات العقاريّة التي تمثّل مساكن المواطنين وخصخصة المؤسسات المدرّة للأرباح التي تملكها الدولة اللبنانيّة.

في المقابل، إذا سقط خيار صندوق النقد، وهو أمر ليس سهلاً، يمكن القول أن الحكومة اللبنانيّة لم تعد تملك فعلاً ما تراهن عليه، بإستثناء إنتظار إستعادة ثقة وفد الصندوق بعد إعطاء إشارات إيجابيّة جديدة.

لا تكمن الإشكالية الأساسية اليوم في مسألة سقوط خيار صندوق النقد بحد ذاتها، خصوصاً أن خيار الصندوق يحمل في طيّاته أساساً إشكاليّات كبيرة من ناحية الكلفة الإجتماعيّة للشروط التي كانت ستنتج عنه، بل تكمن في أن الحكومة لم تكن منذ البداية جاهزة لأية خيارات أو خطط بديلة.

فلننتظر ما سيحمله هذا الأسبوع من تطورات، خاصة وأن شركة “لازار” التي وضعت خطة التصحيح المالي، باتت موجودة في بيروت، كما أن اللجنة التي ألّفها وزير المال تسعى بالتعاون مع رئاستي الجمهورية والحكومة ومصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف لتقديم “مقاربة واقعية جديدة تحسم النقاط (الأرقام المتباينة) العالقة”، وهي تقوم على توزيع جديد للخسائر، مع تسجيل نقطة إيجابية وهي أن الجهات الأساسية المعنية (الدولة اللبنانية، المصارف، مصرف لبنان) لم تكن مستعدة قبل أشهر لتحمل مسؤولية الخسارة، بينما صارت اليوم قابلة بذلك، ولو أنها تريد التقليل من حجم خسارتها ورميها على الآخرين.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أزمة لبنان بعيون إسرائيلية: الحل بمساعدات خارجية من الغرب أو الخليج