مناسبة هذه السطور اليوم حدثان، الأول هو استعادة الجزائر لجماجم مقاومين جزائريين كافحوا الاستعمار الفرنسي منذ أكثر من مئة عام. كانت جماجمهم معروضة في أحد متاحف التاريخ الطبيعي في باريس. وقد علق محلل سياسي على ذلك بالقول إن في الأمر “شبهة رشوة مفضوحة”، لاستمالة الجزائر لدعم موقف فرنسا المساند للواء خليفة حفتر في الحرب الدائرة في الجارة ليبيا، علماً بأنّ دول المغرب العربي تلتزم الحياد الإيجابي الذي يصب في جانب ما يسمى “حكومة الوفاق” التي يرأسها فايز السراج المعترف به من قبل الأمم المتحدة.
الحدث الثاني يتصل بجرائم فرنسا في رواندا، إذ من المعروف أن فرنسا متورطة في حرب الإبادة الجماعية التي شهدها هذا البلد الإفريقي في تسعينيات القرن العشرين. كل مرة يعاد فيها فتح ملفات اتهام فرنسا بالتورط في حملة الإبادة الرواندية، يستأنف الجدال حول الدور الفرنسي في فظائع الجرائم ضد الإنسانية، التي ذهب ضحيتها أكثر من ثمانمائة ألف شخص، كما هو مدون وثائق “اللجنة الرواندية الوطنية لمكافحة الإبادة”.
المعروف ان فرنسا لا تتوقف عن إبعاد الاتهامات التي تطالها، حيث تتكفل بذلك وسائل الإعلام الفرنسية التي تصبح فجأة موالية لحكومة باريس. هذا ما حدث حتى الآن مع كل الحكومات الفرنسية المتعاقبة، حيث شاهدنا كيف ساهم صحافيون وإعلاميون فرنسيون في توجيه الرأي العام الفرنسي والدولي عبر تقارير صحفية وتحليلات حاولت إلصاق الاتهام بالمتصارعين المحليين الروانديين. وساهمت صحف وقنوات فرنسية في خلط الأوراق واستباق الحديث عن الإبادة الجماعية في رواندا بترويج معلومات تسقط الاتهام عن فرنسا سلفا، لتضييع الحقيقة حول مصير المفقودين والقتلى والجرحى الذين فاق عددهم مئات الآلاف. والمثير ان متورطين في التضليل صحافيون معروفون بصدقيتهم المهنية.
لقد ظلت اجتهادات الإعلام الفرنسي دائما مثل ثقوب غربال، الا ان ذلك لم يستطع تغطية أشعة شمس الحقائق الساطعة والحارقة التي تلقي إضاءاتها الواسعة على ملابسات أكبر مجازر القرن العشرين وتورط الجيش الفرنسي بها، اذ لم تكف ستة وعشرون عاما مرت حتى اليوم، على نسيان الفضيحة المجلجلة، او محوها من الذاكرة الرواندية، والإنسانية عموما، ومن تسبب فرنسا في إشعال حرب أهلية في هذا البلد الإفريقي الواقع بمنطقة البحيرات العظمى.
ولمناسبة ربع قرن على الفضيحة، وتحت ضغط الرأي العام الحقوقي، عين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السنة الماضية فريقا من المحققين والمؤرخين لإظهار الحقيقة حول مدى تورط فرنسا في جرائم الإبادة في رواندا، خصوصا بعد نشر وثائق وفيديوهات واضحة حول مجازر “فرق الموت” الهوتية ضد أبناء التوتسي في أنحاء رواندا.
وبحسب مصادر أميركية، فإن إسرائيل لم تكن بعيدة عن جرائم الإبادة الجماعية في رواندا. كما أشارت تقارير إلى الأسلحة الإسرائيلية كانت تصل من الكيان الصهيوني إلى فرق الموت من الهوتو، من بنادق وذخيرة وقنابل، وأن إسرائيل دعمت نظام الهوتو عسكريا خلال الحرب الأهلية. لذلك فإن المحكمة العليا في تل أبيب تصر على منع نشر وثائق فترة الإبادة الجماعية في رواندا، بتبرير عدم المس بأمن وعلاقات إسرائيل الخارجية. لكن تورط الدولة العبرية باتت تتحدث عنه أكثر من جهة، رغم غياب الحقائق الكاملة التي يتستر عنها والكامنة في أرشيف ووثائق الخارجية ووزارة الأمن والجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك.
بحسب مصادر أميركية، فإن إسرائيل لم تكن بعيدة عن جرائم الإبادة الجماعية في رواندا
وحكاية الواقعة تأتي بعد تحطم طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا مع نظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا، حيث هلك جميع ركاب الطائرة. واتهمت حينها قبيلة الهوتو (80% من السكان) جماعة قبيلة التوتسي، ثم انطلقت صافرة القتل المنظم. اصطفت فرنسا إلى جانب الهوتو، وأشرفت على تدريب الميليشيات وعصابات الإجرام، حيث لم يتورع الهوتيون في قتل أصدقائهم وجيرانهم من التوتسي، بل قتل الزوج زوجه من القبيلة الأخرى. وسهلت بطاقات الهوية مأمورية القتلة من الهوتو، إذ كانت بطاقات التعريف الشخصة تشير إلى الانتماء العرقي بحسب قانون المستعمر البلجيكي السابق.
في الأسبوع الاخير من شهر تموز/يوليو عام 2020، قام الموقع الفرنسي الشهير “ميديا بار” بمحاورة الناشط المدني والأستاذ الجامعي آلان غوتييه Alain Gauthier أحد المتعقبين للمشتبه في قيامهم بأدوار في الإبادة الجماعية في رواندا. ويقوم غوتييه بهذه المهمة بصحبة زوجته المهندسة الكيميائية السيدة دافروزا الناجية الوحيدة من بين أفراد عائلتها من “الجينوسيد”، وهما معا يلاحقان المجرمين ضد الإنسانية الذين لجأوا إلى فرنسا ولا يزالون يعيشون فيها، ويشتبه في أنهم الأسوأ من بين المتورطين.
أكد آلان غوتييه أن التحقيقات أثبتت أن أحد الضباط الروانديين في استخبارات العسكر وقت جرائم الإبادة الجماعية ضد التوتسي مختفٍ في أوريالنز، واسمه: أيوس نتيويراغابو (Aloys Ntiwiragabo)، ولم يكن أحد يعلم بمصير الضابط الرواندي المشار إليه، ولا أحد كان يعرف من قبل هل لا يزال على قيد الحياة.
في العام 2001 أسس آلان غوتييه تجمعا للأحزاب المدنية لرواندا، وقد سعى هذا التحالف إلى التقدم بثلاثين شكوى ضد مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية المفترض أنهم يعيشون في فرنسا، ومن الفالتين من العقاب، وكلهم ممن استفادوا من تساهل الإدارة الفرنسية التي منحتهم بسهولة “صفة لاجئ”، ما سمح لهم أحياناً بتغيير أسمائهم.
إن قرب فرنسا من النظام الذي أدى إلى الإبادة الجماعية يفسر بالتأكيد هذا التسامح على ما يبدو. ليس لدى اليوس نتيويراغابو أوراق ولكن زوجته كانت قادرة على تسوية وضعه هنا وتغيير اسمه. ويستفيد هؤلاء المشتبه بهم من شبكات منظمة للغاية. وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من مائة من المشتبه فيهم في فرنسا.
لكن عدم وجود العدد الكافي من القضاة في محكمة باريس ساهم في بطء وتيرة العدالة وعرقلة مسارها. ولم يساعد تأسيس ما يعرف بـ”القطب الجنائي لجرائم الإبادة” في المحكمة الفرنسية عام 2012، على عدم الإفلات من العقاب، رغم صدور قرار بمنعهم من الفرار والقبض عليهم لتقديمهم إلى المحاكم الدولية بسبب ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.
مع مرور الوقت يختفي ناجون وكذلك جلادون، وشهود أيضاً، أو لا يعودوا يتذكرون، وأحياناً لا يريدون التكلم. إن السباق مع الزمن يلعب لصالح مجرمي الإبادة الجماعية.
يبقى ان ما حدث في رواندا قبل ربع قرن جريمة حية تلاحق فرنسا، وفي كل مرة يتم نزع الغطاء عن حقائق جديدة ويتم كشف وثائق جديدة تؤكد الدور الفرنسي في الحرب الأهلية الرواندية، رغم القيود القانونية والإدارية الفرنسية لمنع الولوج إلى الأرشيف السري والملفات والوثائق المتعلقة بتلك المرحلة، ورغم إقدام القضاء الفرنسي على حفظ الملف.
مع مرور الوقت يختفي ناجون وكذلك جلادون، وشهود أيضاً، أو لا يعودوا يتذكرون، وأحياناً لا يريدون التكلم. إن السباق مع الزمن يلعب لصالح مجرمي الإبادة الجماعية.
وقد سبق أن نشر الموقع الفلسطيني (عرب 48) العام الفائت بعض الوثائق المسربة التي تفضح تورط الكيان الصهيوني في تأجيج وإذكاء الصراع العرقي والمشاركة في جرائم “الجينوسيد” في بلد الهضاب أو”أرض الألف تل”، ترجمة اسم البلد باللغة المحلية.
رواندا من دول منبع نهر النيل في شرق إفريقيا في منطقة البحيرات العظمى. حدودها من الشرق تنزانيا، وأوغندا شمالاً، والكونغو الديموقراطية من الغرب، وبوروندي من الجنوب.
ويتابع العالم اليوم كيف استطاع هذا البلد الإفريقي أن ينهض ويتعافى ليصبح نموذجا يضرب به المثل في نجاح التنمية الوطنية، بمعدل دخل تضاعف ثلاث مرات في أقل من عشر سنوات، وأجمعت جهات عديدة ومختلفة على اعتبار الحكومة الرواندية واحدة من أكثر الحكومات كفاءة ونزاهة في أفريقيا. في العام 2009 أصبحت اللغة الرسمية هي الانجليزية بانضمامها إلى دول الكومنولث، بالرغم من أنها لم تكن يوما مستعمرة بريطانية سابقة، وذلك كرد فعل موجه لفرنسا التي قدمت إغراءات كثيرة للحكومة الرواندية حتى تظل تحت جناح المجموعة الفرانكفونية.
واليوم تعود إسرائيل إلى رواندا بوجه جديد لتؤسس اختراقها للقارة السمراء، حيث فتحت سفارتها في العاصمة الرواندية كيغالي السنة الماضية، وتحت شعار وضع اليد في اليد في الحرب ضد اللاجئين، إذ جاء في بيان إسرائيلي بمناسبة تطبيع العلاقات بين البلدين: إن “رواندا أثبتت أنها صديق حقيقي ثابت لإسرائيل، كما أنها تشبه إسرائيل، فهي صغيرة من حيث المساحة، ولكنها كبيرة في القدرات والتطلعات”، وهو ما يؤكد مضمون ما كشفت عنه وثائق تثبت التورط الإسرائيلي بالابادة، في “السعي لكسب تأييد رواندا في المحافل الدولية، بما يتصل بقضية اللاجئين الفلسطينيين”، حيث ارادت الاستفادة من كون رواندا تواجه قضية مماثلة بعد اضطرار مئات الآلاف من قبائل التوتسي إلى اللجوء من وطنهم هربا من مجازر دكتاتورية نظام الهوتو.
كل هذا جرى ويجري في غياب موقف عربي وإسلامي، فبرغم وجود جاليات عربية ومسلمة في رواندا تتمتع بسمعة إيجابية لدى السكان، ليس هناك سعي لمواجهة “كسر التأييد الافريقي للفلسطينيين في مؤسسات الأمم المتحدة” كما أعلن ذلك بنيامين نتنياهو.