بينما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منشرحاً بالاستقبال اللبناني الحافل له، وبانصياع معظم الطبقة السياسية لما حمله من أملٍ وانذارٍ أخيرين، كانت التظاهرات تزداد حجماً وخطورة في إسرائيل مهددة بإنفراط عقد الإئتلاف الحكومي القسري بين “الليكود” و”أزرق أبيض” وحلفاء الإثنين، بسبب الخلاف على الميزانية وغيرها، فيما يستمر التلويح بسيف القضاء ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومستقبله السياسي الذي سينتهي حتما بتهم الفساد والرشوة وسوء استخدام السلطة مهما طال الزمن.
في المقابل، فإن حزب الله، العدو الأبرز والأخطر لإسرائيل، يجلس إلى طاولة الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر، كأحد أبرز أركان الطبقة السياسية في لبنان. وما قيل علنا من قبل ماكرون، وما تسرّب لاحقا، يفيد بأن باريس ستعتمد على الحزب الموسوم بالإرهاب أميركيا وعند دول أوروبية وعربية، ليس فقط لتسهيل مهمة حكومة مصطفى أديب، وانما ايضا لإعادة صياغة العقد السياسي الجديد، بما يضمن استعادة المسيحيين شيئاً مما فقدوه بعد اتفاق الطائف.
مشهد ماكرون وحزب الله أقلق تل أبيب، وما زاد المشهد اثارة للقلق في إسرائيل هو وصول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية الى بيروت، حيث لحزب الله دورٌ كبير منذ سنوات في تجميع وعلى الأرجح المساهمة عبر إيران في تمويل معظم التنظيمات الفلسطينية المقاومة. ثمة اجتماعات فلسطينية تجري وستجري في بيروت لإعادة صياغة خطة المواجهة، تتزامن مع تسريع الإدارة الأميركية خطوات التطبيع العربية مع إسرائيل قبل انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب.
صحيح أن قطر دفعت باتجاه تسوية مؤقتة بين حماس وإسرائيل لتمرير حاجات إنسانية وطبية الى قطاع غزة، لكن الصحيح أكثر أن لا نتنياهو يستطيع التراجع عن خطة ضم ثلاثين في المئة من الضفة وغور الأردن، ولا التنظيمات الفلسطينية وداعموها في الخارج يستطيعون تمرير مثل هذا الأمر لان فيه نهاية حتمية لفكرة المواجهة.
لعل ماكرون يلعب هنا دور الإطفائي، بحيث يحصل على غطاء أميركي مقابل تحييد إيران وحزب الله مؤقتا عن اثارة مشكلة امنية او سياسية كبيرة
المشكلة ليست فقط هنا، وانما بالعلاقة الأميركية الإيرانية. فهي تحتمل حالياً وجهين، أولهما، ان يعقد ترامب صفقة مع إيران إذا كانت تساهم في تحسين وضعه الانتخابي، وثانيهما تمرير هذه المرحلة بلا مشكلة تثيرها إيران او حزب الله في ما بقي من وقت للقطار الانتخابي. لعل ماكرون يلعب هنا دور الإطفائي، بحيث يحصل على غطاء أميركي مقابل تحييد إيران وحزب الله مؤقتا عن اثارة مشكلة امنية او سياسية كبيرة. فطهران تريد الانتقام لمقتل الجنرال قاسم سليماني، والحزب يريد الانتقام لقتل إسرائيل أحد كوادره قرب مطار دمشق. والاثنان لن يقدما على ذلك بمعزل عن العلاقة الأميركية الإيرانية.
الى هذين الاحتمالين، هناك الاحتمال الثالث، حيث أن طهران قد تنسج خيوط صفقة مع المرشح الديمقراطي جو بايدن الذي أعلن غير مرة رغبته بالعودة الى الاتفاق النووي. بمعنى ان إيران لديها الان ورقتين اميركيتين وورقة فلسطينية تضاف الى الأوراق الأخرى من لبنان الى سوريا مرورا بالعراق (برغم المحاولات الأميركية لدفع رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي للتعبير عن موقف معارض للتدخل الإيراني). بالتالي، فان “المحور” قد يتحرك عسكريا لتحسين شروط التفاوض او لرفع الضغط في ساحات لا تؤدي الى حروب كبرى مثل شرق الفرات (عبر عمليات العشائر ضد الجيش الأميركي) او ادلب، خصوصا ان الجو الدولي والعربي مشحون حاليا ضد تركيا.
يُلاحظ هنا ان روسيا نجحت في جمع الفريقين الكرديين على ارضها برغم ان احدهما (أي قسد) تدعمه اميركا. حصل الاجتماع على الأرجح بالتفاهم الروسي الأميركي الذي يزعج رجب طيب اردوغان ولكن ربما يمهد لانسحاب أميركي آمن بعد الانسحاب من العراق. فرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أوصل قبل فترة رسالة أميركية الى القيادة السورية.
في حال شعرت إسرائيل بان حركة ماكرون ستعزز وضع حزب الله وإيران بلا أي مقابل حدودي لها، ستعمل على اثارة جو اعلامي وسياسي ضد ماكرون في فرنسا نفسها
كيف لإسرائيل ان ترتاح أمام هذا المشهد؟
لا بد لتل أبيب ان تعمل على قطع الطريق امام إعادة تعويم حزب الله دوليا، وامام احتمال صفقة إيرانية أميركية. لذلك استعادت طريق عدوانها على سوريا، حيث تستهدف أماكن حساسة تطال المواقع السورية ومواقع لحلفاء إيران وقد تذهب أبعد من ذلك.. وفي حال شعرت بان حركة ماكرون ستعزز وضع حزب الله وإيران بلا أي مقابل حدودي لها، ستعمل على اثارة جو اعلامي وسياسي ضد ماكرون في فرنسا نفسها، كما فعلت سابقا مع الرئيس الراحل جاك شيراك حين قال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون، ان باريس صارت الدولة الأكثر معاداة للسامية في العالم.
بالمقابل، ثمة من يقول ان ترامب أهدى القدس لإسرائيل وشرّع احتلالها للجولان ووافق ضمنيا على ضم أجزاء من الضفة، وذهب باتجاه خنق إيران وسوريا وحزب الله اقتصاديا، وضغط لتسريع خطوات التطبيع العربي مع إسرائيل، أما المحور الآخر، فلم يستطع ان يعطّل أيا من هذه الخطوات الاستراتيجية الكبرى، وهذا هو الأهم بالنسبة لإسرائيل. وهي بالتالي لا تمانع في أن يقود ماكرون او غيره خطوات سياسية تحيّد إيران والحزب عن إمكانية تعطيل مسار التطبيع بالقوة.
المقياس سيكون إذا في الحركة الفلسطينية الداخلية ومدى دعم إيران وحزب الله لها في الأسابيع والأشهر المقبلة، ذلك ان هذا هو مكمن الخطر الأساس على إسرائيل مقابل توسعها في الوطن العربي عبر اتفاقيات سلام ستزداد بعد انضمام دول عربية أخرى إليها قريباً. وعلى هذا بالضبط يمكن رصد العلاقات الإيرانية الأميركية ومدى تقدمها او تعطيلها. ففلسطين كانت وستبقى المقياس. ولذلك يحاول ماكرون الإيحاء بان ما يعمل عليه حاليا سيؤدي الى السلام في المنطقة لاحقا.
قال ماكرون صراحة بعد أربعة أيام من الاتفاق الاماراتي الإسرائيلي للرئيس محمود عباس:”إني مصممٌ على العمل للسلام في الشرق الأوسط وان استئناف المفاوضات للوصول الى حل عادل يحترم القانون الدولي يبقى الأولوية”. فهل ينجح حيث فشل غيره؟
من الصعب أن ينجح في ظل قناعة إسرائيل بان التطبيع ما عاد بحاجة لاتفاقيات مع الفلسطينيين.