عندما إستُدعي مصطفى أديب من برلين إلى بيروت لتولي رئاسة الحكومة، كانت الرسالة الفرنسية ـ الحريرية واضحة جدا: “حكومة مهمة” (Gouvernement de mission). رئيسها لا ينتمي إلى قماشة السياسيين. يمكن أن تُنسب إليه الصفات الآتية: أكاديمي. دبلوماسي. إداري. طرابلسي. آدمي. ميقاتي، لكنه حتماً لا ينتمي إلى السياسة بمعناها الحِرفي والحَرفي.
هذا الخيار كان نتاج قلة دراية سياسية من فريقي 8 و14 آذار إذا صح إستمرار مثل هذا التصنيف السياسي. إستعجل حلفاء حزب الله التضحية بحسان دياب. كان لسان حال “مايسترو” هذه القوى أن لا أحد يفرط بورقة يملكها قبل أن يجلس إلى طاولة المفاوضات. بعد التفاوض وثمرته التوافقية، يُقدم رأس حسان دياب، لكن نكون قد أخذنا شيئا محدداً مقابله. في المقلب الآخر، أي فريق سعد الحريري، كان اللافت للإنتباه أن الأخير سارع إلى تسمية مصطفى أديب من بين ثلاثة كان يدرك أن أديب وحده سيكون مقبولاً من بينهم. مثلاً، هل يتصور عاقل أن ميشال عون أو جبران باسيل يمكن أن يقبلا بمحمد الحوت رئيسا للحكومة؟
ما يأخذه حلفاء الحريري عليه أنه كان بمقدوره أن يضع أسماء من قماشة نواف سلام على الطاولة ويبدأ التفاوض على هذا الأساس. عندها، كان يمكن التوصل إلى خيار مختلف عن مصطفى أديب. يقود ذلك للإستنتاج أن الإدارة السياسية لكلا الفريقين كانت تعاني من خلل ما. خلل مرده الأساس الإفتقاد إلى العقل الإستراتيجي القادر على إتخاذ القرار وفرضه. زدْ على ذلك أن الفريقين، ما زالا يتصرفان على قاعدة أن حدث إنفجار مرفأ بيروت، لكأنه مجرد حادث سير على أوتوستراد بيروت ـ طرابلس أو بيروت ـ صيدا. مصطفى أديب هو نتاج هذه “اللإدارة” من جهة والإندفاعة الفرنسية بإتجاه لبنان من جهة ثانية.
بكل الأحوال، كان لا بد من تلقف المبادرة الفرنسية، لكن الخلل كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لتكليف أديب.
أولاً، الفريق الفرنسي الذي يدير المفاوضات ومن ضمنه رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية الخارجية (DGSE) السفير الفرنسي الأسبق في لبنان برنار إيمييه، لا يبدو أنه تعلم من كل دروس المرحلة الممتدة من 2005 ـ 2008. تبلغ الأخير من المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم الآتي: “أنتم تتعاملون مع بلد إسمه لبنان. ثمة زواريب وممرات سياسية ودستورية تحتاج إلى التواصل مع جميع القوى السياسية لأن فرنسا لا تتحمل الفشل وأيضا لا مصلحة للبنانيين بفشل المبادرة الفرنسية”. بالفعل، جرت محاولة فرنسية للتصحيح، لكن في التوقيت غير المناسب، وتحديداً، بعدما بلغت الأمور الحائط المسدود ودخل الأميركيون على الخط بقوة.
ثانياً، ليس مفهوماً، ماذا يخسر الرئيس المكلف مصطفى أديب أو الجانب الفرنسي لو بادر أحدهما إلى إبلاغ رئيس مجلس النواب أو رئيس الجمهورية أن المطلوب تشكيل حكومة إختصاصيين غير حزبيين، ولذلك، سيصار إلى إعتماد قاعدة مختلفة عن المرات السابقة. ما حصل هو العكس، فقد قرر الرئيس المكلف أن يقفل خطوطه ويجلس بين أربعة جدران مفتوحة فقط بإتجاه بيت الوسط. حتى بديهية الإتصال بدت غير موجودة في قاموسه. نصحه البعض بالإستعانة بعدد من “الأصدقاء” اللبنانيين الذين يمكن أن يساعدوه في تعطيل الألغام السياسية إذا إعترض أحدها طريقه. بدا الرجل ممتلئاً ثقة أنه طالما رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون يقف وراء تكليفه و”حكومة المهمة”، فلا قدرة لأية قوة محلية على التعطيل.
ثالثاً، بغياب قدرة التعطيل عند السعوديين الرافضين لكل السياق الداخلي اللبناني منذ إفراجهم عن سعد الحريري قبل ثلاث سنوات، فإن الأميركيين لعبوا دوراً سلبياً، خصوصاً عندما كانوا يضغطون على فرنسا التي تراجع رئيسها عن حكومة الوحدة الوطنية ومن ثم الحكومة التكنوسياسية إلى أن وصلنا إلى “حكومة مهمة”. مهمة عمرها فقط ستة أشهر. حكومة من 14 وزيراً. كلهم من أهل الإختصاص. المداورة إلزامية في الحقائب السيادية. أدى الضغط الأميركي من خلال العقوبات التي إستهدفت الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس إلى خلخلة قواعد التأليف، وبرز ذلك جلياً بتشدد “الثنائي الشيعي” (حزب الله وأمل) ليس برفض المداورة وبالتالي تمسكه غير القابل للأخذ والرد بحقيبة وزارة المالية، بل بإصراره على تسمية الوزراء الشيعة الثلاثة في حكومة الـ 14 وزيراً.
رابعاً، أصيب ميشال عون وفريق عمله ومن ضمنه جبران باسيل بإحراج وإرباك سياسي غير مسبوق منذ توليه رئاسة الجمهورية في العام 2016. حتى أن إمتحان إعتقال سعد الحريري ومن ثم الإفراج عنه في خريف العام 2017 كان أهون بكثير من التعامل العوني مع المبادرة الفرنسية. وُضِعَ ميشال عون وجبران باسيل أمام أحد خيارين: القبول بالمبادرة الفرنسية كما هي أو رفضها ومحاولة تعديلها. سرعان ما إستسلم جبران باسيل، وكان السباق إلى “الإستسلام” من قبله “وزير البلاط” سليم جريصاتي المهجوس بالعقوبات. إستنجد الأخير بنافذين سياسياً وأمنياً وراح يطلب منهم إقناع رئيس الجمهورية أن يقبل المبادرة الفرنسية كما هي “فنحن لا نستطيع تحمل فشلها”.. أما ميشال عون، فقد كان ضائعاً ومتردداً. من جهة، يُحرّض كل الكتل والشخصيات على التمسك بالمداورة وعدم التنازل عن حقيبة المالية لمصلحة الطائفة الشيعية؛ ومن جهة أخرى، كان يقول إنه لن يتخلى عن حقه الدستوري بالشراكة في التأليف مع رئيس الحكومة المكلف، فضلاً عن رغبته بعدم التصادم مع الفرنسيين.
خامساً، ما أن إصطدم الرئيس المكلف بـ”الثنائي الشيعي” حتى تنفس رئيس الجمهورية الصعداء. قرر إستدعاء رؤساء الكتل أو من يمثلهم. لبى الكل دعوته إلا “الاشتراكي” و”القوات”. إستمع الى وجهة نظرهم في موضوع المداورة بالحقائب وتسمية الوزراء وموضوع توزيع الحقائب. بإستثناء “الثنائي”، أيّد الجميع المداورة، ومن كان متردداً، نصحه رئيس الجمهورية بعدم مسايرة “الثنائي” في موضوع وزارة المالية. معظم الكتل ابدت رغبتها بتسمية الوزراء لا أن يسميهم الرئيس المكلف.
وبمعزل عن النقاش حول دستورية أو عدم دستورية ما قام به عون، فإن هذه المشاورات تقاطعت مع قرار الرئيس المكلف بفتح خطوطه ـ ولو بشكل متأخر أيضاً ـ مع القوى السياسية الوازنة، من دون إستثناء. أبلغهم، وبما لا يقبل الإلتباس، الآتي:”أنا رئيس حكومة مهمة ستتألف من إختصاصيين. أنا لست سياسياً ولم أُكلف حتى أكون رئيس حكومة سياسية أبداً. إذا أردتموها كذلك، إبحثوا عن أحد غيري. لو قبلت بأي تمثيل سياسي، سيكون مصيري مثل حسان دياب أو بعض الوزراء في حكومته، ممن كانوا يخرجون كل دقيقة من مجلس الوزراء حتى يتشاوروا مع مرجعياتهم. أنا أنتمي إلى مدرسة وسطية لا تكسر مع أحد. الجميع عندي مثل كل أبناء بلدي لا بل هم في قلبي، ولكن في ما يخص الحكومة، إذا كنتم تريدون حكومة سياسية لن أبقى مكلفا ساعة واحدة ولن أقبل بأن أكون مكلفا حتى إشعار آخر. التكليف بتصرفكم. إبحثوا عن أحد غيري وأنا جاهز للإعتذار سريعاً، وسأكون شاكراً وممتناً لكل من أعطاني الثقة”.
عملياً، صار الكل في مناخ أن مصطفى أديب سيقدم إعتذاره إلى رئيس الجمهورية غداً أو بعده، وذلك بالتنسيق مع الفرنسيين الذين شكلوا خلية أزمة في قصر الأليزه كانت تتواصل مع خلية أزمة إجتمعت في السفارة اللبنانية في باريس وهي تضم عددا من الوجوه الفرنسية اللبنانية، فضلا عن تواصل الفرنسيين مع الأميركيين الذين قالوا كلمتهم بلسان وزير الخارجية مايك بومبيو الذي نعى المبادرة الفرنسية قبل أن تعلن فرنسا موتها.
ماذا بعد؟
حسان دياب سيعود إلى السراي الكبير، بعدما إستعجل مغادرته قبل عشرة أيام. تصريف الأعمال سيستمر حتى الإنتخابات الأميركية. لننتظر الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية هذا الأسبوع، وعلى الأرجح ستكون صادمة ببعض الأسماء التي ستشملها، وبينها وجوه من بيئات لبنانية متعددة.. لننتظر المزيد من الفوضى والإنهيار.. للبحث صلة.