مسكين مصطفى أديب. وجد هذا الحمل الوديع نفسه وسط غابة من الوحوش السياسية. كلما راجع نفسه، يقول “الأفضل لي أن أحفظ كرامتي”. حفظ الكرامة بمفهومه يعني أن يُقدم إعتذاره إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، والعودة فوراً إلى مركز عمله في برلين، سفيراً لبلده وعميداً للسلك الدبلوماسي العربي هناك.
عملياً، يصح القول إن كتاب الإعتذار بات مكتوباً، لكن ثمة مهلة مفتوحة، قد لا تتجاوز نهاية هذا الشهر، فإذا تمكن مصطفى أديب من “سرقة” الحكومة، ينتقل من منزله إلى السراي الكبير، وإذا تعذر ذلك يعود إلى العاصمة الألمانية. بماذا تشي تطورات الساعات الأخيرة؟
أولا، المبادرة الفرنسية مستمرة. سواء تمكن مصطفى أديب من التأليف أم تعذر ذلك عليه. الفرنسيون ألقوا بثقلهم في الساعات الأخيرة لبنانياً. لم تهدأ إتصالاتهم مع كل القوى السياسية اللبنانية. لسان حالهم دعوة الجميع إلى التسهيل والإلتزام بالتعهدات التي أعطيت لرئيس فرنسا إيمانويل ماكرون في جلستي قصر الصنوبر. إذا فشل خيار مصطفى أديب، بات الفرنسيون يملكون “الخطة باء” وهم يتكتمون على تفاصيلها.
ثانياً، ما أن تبلغ “الثنائي الشيعي” من الفرنسيين أن عقدة وزارة المالية قد حُلت وأنه بمقدور حزب الله وحركة أمل تقديم عشرة أسماء إلى ماكرون حتى يختار واحداً منها، إنسجاماً ومضمون إتصاله الأخير برئيس مجلس النواب نبيه بري، حتى قرر “الثنائي” الإستئذان من الفرنسيين، بأن يجري تقديم اللائحة إلى رئيس الحكومة المكلف.
ثالثاً، أجرى المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل إتصالاً بمصطفى أديب وإتفقا على لقاء ثلاثي يجمعهما وحسين الخليل المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وبالفعل عقد اللقاء الثلاثي في مقر أديب المؤقت المطل على الكورنيش البحري. أبدى الخليلان مجدداً كل رغبة بالتسهيل وفق مندرجات المبادرة الفرنسية. رد الرئيس المكلف بأنه منذ اليوم الأول أبلغ كل من راجعه بأنه لن يقدم أية تشكيلة حكومية لا تحظى بإجماع جميع القوى بما في ذلك حزب الله وحركة أمل، وقال لهما إن هذه الحكومة ستتخذ قرارات صعبة وبالتالي، لا بد وأن تحظى قراراتها بإجماع لبناني، وإلا تصبح محرقة ويكون مصيرها كمصير حكومة سعد الحريري الأخيرة وأيضا حكومة حسان دياب، أي السقوط في الشارع، وأنا لست مستعداً لأن أتحمل وحدي هذه المسؤولية. ثمة شراكة وطنية هي شرط أساسي لنجاح المبادرة الفرنسية.
وقال الخليلان لرئيس الحكومة المكلف إن “الثنائي” كان يفترض به أن يرسل لائحة من عشرة أسماء إلى الفرنسيين حتى يختاروا من ضمنها وزيراً للمالية، لكنهما، وإحتراماً منهما لمقام رئاسة الوزراء في لبنان، قررا تسليمه هذه اللائحة، وعندما همَّ أحدهما بتقديم اللائحة إليه، تمنى مصطفى أديب عليه الإحتفاظ باللائحة. سألهما إذا كانا يمانعان أن يسمي هو من خارج اللائحة التي بحوزتهما، فكان جوابهما نفسه الذي كان قد سمعه كل من ماكرون وسعد الحريري. أبلغاه أيضاً أن لا تنازل عن السقف الذي صار يعرفه القاصي والداني. “الثنائي” سيسمي الوزراء الشيعة الثلاثة، ولرئيس الحكومة المكلف أن يستخدم حق “الفيتو” على أي إسم، وعندها سيجري تقديم أسماء جديدة، حتى يتم التفاهم بين الطرفين.
عند هذا الحد من النقاش، وما تخلله من تذكير بالثوابت التي لن يتنازل عنها “الثنائي”، طلب مصطفى أديب مهلة قبل أن يتسلم اللائحة، ووعدهما بإعادة التواصل معهما في الساعات المقبلة، ليخرج الخليلان بإنطباع مفاده أن الرجل غير قادر على التحرر من “ثوابت” نادي رؤساء الحكومات، وبالتالي، لن تكون الأمور سهلة كما يتوقع الجميع أن تكون.
رابعاً، لنفترض أن رئيس الحكومة المكلف قد تسلم اللائحة من “الثنائي” وأدرجها في تشكيلة الـ 14 وزيراً، هل يمكن أن تعترضها عقبات أخرى؟ الجواب حتماً ستعترضها عقبات جديدة وأبرزها عقبة توقيع رئيس الجمهورية الذي قرر الرد على مبادرة سعد الحريري التي نسفت مبادرته بالقول أنا شريك في التاليف ولن أتخلى عن الشراكة. في هذا السياق، ينتظر أن يجتمع أديب برئيس الجمهورية ميشال عون غدا (الجمعة) في بعبدا وأن يطلعه على حصيلة مشاوراته. نقطة الإرتكاز في هذا اللقاء هي الآتية: إذا طلب مصطفى أديب من عون تسليمه لائحة بأسماء عدد من الوزراء المسيحيين الذين يرشحهم للوزارة وبينهم وزير الدفاع على سبيل المثال لا الحصر، فإن ذلك سيؤسس إلى تعديل قواعد التاليف بصورة جذرية، أي التشاور مع جميع القوى المؤثرة في مسار التاليف، وإذا رفض أديب أن يكون عون شريكاً في التأليف، فمعنى ذلك بدء العد العكسي لإعتذار أديب قبل نهاية الشهر الحالي والعودة إلى مركز عمله في برلين.
تجدر الإشارة إلى أن أديب وفي الزيارة التي قام بها إلى بعبدا قبيل المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية مع رؤساء الكتل النيابية أو من ينوب عنهم، كان يريد إيداع تشكيلة من 14 وزيراً لدى رئيس الجمهورية، لكن الأخير سأله هل تضمن إذا وقعتها الآن أن تنال الثقة النيابية غدا، فأجابه أديب كلا، عندها قال له عون “دع اللائحة في جيبتك، وسأجري مشاورات مع الكتل”، وكانت النتيجة إجماع الكتل على ضرورة أخذ رأيها في التاليف، فضلا عن تبني معظم الكتل المداورة بإستثناء أمل وحزب الله.