عبد الناصر فى إختبار الزمن
(Original Caption) Hoda Abdel Nasser with her daughter Hala and her father. (Photo by Maher Attar/Sygma via Getty Images)

تحت عنوان «البحث عن الأفضل»، تساءل الصحفى البريطانى «آدم شروين» على صفحات «التايمز»، يوم (٢٣) شباط/فبراير (٢٠٠١): «من هى الشخصية الأكثر تأثيرا وإلهاما فى التاريخ؟».

لم تكن مصادفة أن ترشح أعرق الصحف البريطانية ــ مع مطلع القرن الحادى والعشرين ــ «جمال عبد الناصر” و«مانديلا» مع الأديب الروسى «ليو تولستوى» للفوز بلقب «الشخصية الأعظم» فى العالم.
فى ذلك الوقت، نظمت هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» استطلاع رأى لاختيار الشخصية البريطانية الأعظم.
استقر رأى البريطانيين على أنه «ونستون تشرشل» بوصفه الأكثر احتراما فى تاريخ الأمة.
كما اختار ــ فى استفتاء مماثل ــ (٣) ملايين ألمانى «كونراد إديناور» مستشار ألمانيا الفيدرالية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه تجسيدًا للعزة الوطنية.
نجاح الاستفتاءين أغرى المؤسسة الإعلامية العريقة لدعوة المشاهدين فى كل أرجاء المعمورة، لتحديد الشخصية الأكثر تأثيرا فى التاريخ.
لم يتم الاستفتاء بتدخل من جهات عربية حتى لا تأتى النتيجة لصالح «عبد الناصر».
ما نحتاجه ــ بالضبط ــ أن ندرك الحقائق، أو ألا نهدر ما يستحق الاعتزاز به دون التخلى عن حق النقد والاختلاف.
فى اختبار الزمن، نصف قرن بالكامل، تأكدت قوة حضور «جمال عبد الناصر»، كأنه لم يغب أبدا، ولا خفتت الحملات عليه يومًا واحدًا.
فى استهدافه حيًا وميتًا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
حسب تعبير شهير للإمام «أحمد بن حنبل» عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز».
كانت جنازته بحجمها الاستثنائى تأكيدا لا يخطئ على عمق تجربته وإلهام مشروعه.
فى ذلك اليوم البعيد بكت مصر، كما لم يحدث من قبل ولا من بعد.
فاضت المشاعر الحزينة على ضفاف النيل، ومن بين الجموع الحزينة المتدافعة علا نشيد «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين»، لا ألفه شاعر ولا لحنه موسيقار.
ترددت نبوءة فى هتافاتها: «يا جمال يا عود الفل.. من بعدك هنشوف الذل».. وقد كان.
على مدى نصف قرن من رحيله، كان مستلفتا طغيان صورته حيث مصداقية الرؤية فى اختبار الزمن.
عند كل انعطافة، تستدعى صوره إلى الميادين، كما حدث فى انتفاضة الخبز (1977) وثورتى «يناير» و«يونيو» وفى كل الاحتجاجات التضامنية مع القضايا العربية التى عمت البلد.
فى سنوات يوليو، أطلق أوسع عملية حراك اجتماعى نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدر مشهد حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا ملهمًا العالم الثالث كله.
قيمة «عبد الناصر» الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس ونزاهته الشخصية كرّست صورته فى التاريخ، غير أن التناقض كان فادحًا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
ثغرات نظامه أفضت إلى هزيمة مروعة فى يونيو (1967).

فى اللحظة التى أمّم فيها «الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية»، لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح. وفى اللحظة التى أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «سنقاتل»، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير فى العالم الثالث

لماذا خرجت الملايين تطالب ببقاء القائد المهزوم؟
إذا قيل بالادعاء أن الأمر كان مصطنعا، فماذا يمكن أن يقال عن خروج العاصمة السودانية الخرطوم لاستقباله بحفاوة لا نظير لها إثر الهزيمة مباشرة.
إنه قوة المشروع وما حققه من تحولات جوهرية فى بنية المجتمع وما خاضه من معارك أضفت على مصر هيبة القيادة وما أطلقه من أحلام كبرى لم يكن يسيرا التنكر لها.
ثم إنها الوطنية المصرية التى أدركت فى لحظة السقوط إنها مقصودة بذاتها.
أثبتت الأحداث في ما بعد أن الرهان على «عبد الناصر» كان فى محله.
أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها فى التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندى ــ أغلبه من خريجى الجامعات المصرية.
لم يكن التفويض الاستثنائى الذى منح لـ«عبد الناصر» شيكًا على بياض، فقد خرجت مظاهرات طلابية عام (١٩٦٨) تندد بالأحكام المخففة على التقصير الفادح لقادة سلاح الطيران فى حرب يونيو.
ماذا كان يمكن أن يحدث إذا انقضى شأن «عبد الناصر» يوم التنحى؟
التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية غير أن الهزيمة تبدأ فى «الإرادة».
فى اللحظة التى أمم فيها «الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية»، لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح.
وفى اللحظة التى أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «سنقاتل»، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير فى العالم الثالث.
عندما ولدت زعامته فى أتون حرب السويس مضى قدمًا فى بلورة مشروعه، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أى إلهام.
قوة «عبد الناصر» الكامنة فى مشروعه السياسى العريض لا فى ثغرات نظامه القاتلة.
حاكم نظامه بأقسى ما يمكن تصوره من عبارات. لم يكن مستعدًا أن يسامح نفسه على أنه لم يحسم الأوضاع المختلة فى القوات المسلحة قبل أن تقع الواقعة، أو أن يتسامح مع أسباب الهزيمة.
كان من رأيه كما سجله فى محاضر رسمية، أن النظام الحالى استنفد مداه ولا بد من نظام جديد.
«.. إن لم نغير نظامنا الحالى سنمشى فى طريق مجهول ولن نعلم من يستلم البلد بعدنا».
كانت شجاعة المراجعة إحدى تجليات عظمة الشخصية.
فى أعقاب حرب أكتوبر (١٩٧٣) بدا أنه قد حان الوقت وتهيأت الظروف للإعلان عن توجهات جديدة وبناء نظام آخر على أنقاض إرث «عبد الناصر» وتوجهاته وسياساته.
«أطلقوا ألسنتهم فيه على اعتبار أنه كان سبب الهزيمة بينما السادات سبب النصر، وبعد أن كانوا يهاجمونه ضمنًا فى حملتهم على مراكز القوى أصبحوا يهاجمونه شخصًا، وعينًا، وتاريخًا، وإنجازات وأصبح فى قفص الاتهام كل شيء قاله أو فعله وتدفقت كتب ومقالات تعفى الاستعمار وإسرائيل من مسئولية تخريب مصر، وتلقيها على عاتق الإصلاح الزراعى، والسد العالى، ومجانية التعليم، ومحاربة الاستعمار، والتطور الصناعى، والتحول الاشتراكى.. إلى آخر هذه الجرائم الفادحة!».
كان ذلك توصيفًا للحملة وضراوتها كتب عام (١٩٧٥) بقلم رئيس تحرير مجلة «روز اليوسف» «صلاح حافظ»، وهو واحد من أكثر الصحفيين موهبة وكفاءة فى تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.
فى مساجلات «يوليو» والدفاع عنها لم يتخلف كاتب واحد له قيمة وتأثير فى إبداء موقفه، كـ«أحمد بهاء الدين» صاحب مقولة «موتوا بغيظكم» و«كامل زهيرى» بعبارته الشهيرة «عبد الناصر أقوى من الهزيمة والسادات أضعف من النصر».. ودخل «محمد حسنين هيكل» إلى قلب المعركة بكتابه «لمصر لا لعبد الناصر» حتى لا يُقال «إن كل رجاله خانوه».
بتوصيف الدكتور «يونان لبيب رزق» لـ«هوجة المذكرات»، التى تصدى لكتابتها فى السبعينيات من لم يسمع عنهم من قبل وأسندت إلى أصحابها أدوارا بطولية لم تحدث، فإنها «ظاهرة لم تعرفها مصر على هذا النحو الواسع من قبل».
«لأن ما تم فى عهد عبد الناصر كان كبيرًا، فقد كان من الطبيعى أن يجيء رد الفعل بحجم الفعل، وأن تُشارك جبهات عديدة فى ضرب الحقبة الناصرية» ـ كما فسر الظاهرة.
«لن يتركونى أبدًا».
كانت عبارته قاطعة، وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى ينالوا منه «قتيلا، أو سجينا، أو مدفونا فى مقبرة مجهولة».
كان يُدرك أن القوى التى يحاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مروعا.
بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبى، وهو يستمع إليها ذات مساء من شهر كانون الأول/ديسمبر (١٩٦٩) عند ذروة حرب الاستنزاف ـ كما روى لى نجله الأكبر «خالد عبد الناصر».
بقدر ضراوة الحملات المتصلة عليه تأكدت قوة مشروعه وإلهامه فى اختبار الزمن.

إقرأ على موقع 180  مصر وإثيوبيا.. هل دقت طبول أول حرب مياه في أفريقيا؟

(*) نقلا عن موقع “الشروق” المصري:shorouknews.com 

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "أوراق دبلوماسية" في القاهرة.. بساتين الأدب والسياسة