كانت مصر وسوريا والأردن قد مُنيَت بهزيمة أليمة عام 1967، وشمل الاحتلال الإسرائيلي غزّة وسيناء والضفّة الغربيّة والقدس والجولان. لقد انتفض المهزومون وعملوا على استعادة قوّتهم وبدأت حربٌ يوميّة دامت ست سنوات تخلّلتها معاركٌ دائمة – بريّة وجويّة – وعرفت تلك السنوات نشوء “حركة التحرير الوطني الفلسطينيّة”.
كان الهدف حينها استنزاف الاحتلال عسكريّاً واقتصاديّاً وبشريّاً لدفعه إلى إعادة الأراضي المحتلّة وتطبيق قرار مجلس الأمن 242. وقد دعمت بلدان الخليج العربي في ذلك الوقت “دول المواجهة” بشكلٍ كبير، وكذلك فعل الاتحاد السوفياتي، بينما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل. ووقفت دولٌ أوروبيّة، وخاصّة فرنسا الجنرال ديغول، موقفاً مناهضاً للاحتلال لأنّه يخلق حُكماً اضطهادياً، ومقاومةً سيصفها ذلك الاحتلال بـ”الإرهاب”، ولأنّ لا حلّ للنزاع سوى من خلال الانسحاب من الأراضي المحتلّة.
اليوم، تُوصف الحرب الحالية في فلسطين، المستمرّة منذ أكثر من شهر، بأنّها ستكون “طويلة ومكلِفة”، و”حرب استنزاف” جديدة. الفلسطينيّون أعلنوا أنّ هدفها هو تحرير الأقصى، أي تحرير القدس الشرقيّة المحتلّة منذ العام 1967. وأعلن الإسرائيليّون أنّ هدفها هو إعادة احتلال غزّة، وضمنيّاً تثبيت ضمّ الضفّة الغربية وطرد أغلب الفلسطينيين من القطاع وكذلك من الضفّة الغربيّة. هذا في الوقت الذي تخطّت فيه الجرائم المرتكبة ضدّ المدنيين والإنسانيّة كلّ ما عرفته الصراعات السابقة.
الهدف هو ألاّ “تُستنزَف” إسرائيل
تُقدّم الولايات المتحدة كل الدعم لإسرائيل- سياسيّاً وعسكريّاً- وبشكلٍ واضح تخطّى كل المستويات التي عرفتها المنطقة في السابق، بعد أن اعترفت بضمّ إسرائيل للقدس الشرقيّة والجولان، وذلك بحجّة حقّها في “الدفاع عن النفس” ضدّ “الإرهابيين”. ووقفت الدول الأوروبيّة بوضوح وبشكلٍ غير مسبوق مع إسرائيل، سياسيّاً وعسكريّاً، إلى درجة تقليص الحريات العامّة لديها وحشد إعلامها، مقوّضةً بذلك نموذج الحريّة والديموقراطية الذي صنعته نضالات شعوبها. واضحٌ أنّ الهدف هو ألاّ “تُستنزَف” إسرائيل، ليس فقط على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، بل وأيضاً على صعيد الرأي العام في الغرب الذي باتت الجرائم الإسرائيليّة واضحة أمامه برغم الأكاذيب.
في المقابل، لا يُشكّل الموقف العربي، وخاصّةً لدول الخليج التي تمتلك عناصر القوّة اليوم، رافعةً فعليّة لدعم صمود الفلسطينيين واستنزاف إسرائيل والدول الداعمة لها. بالطبع، يؤكّد الموقف المعلَن رفض مبدئي لاحتلال غزّة وتهجير الفلسطينيين، ولكن لا جدوى حقيقيّة له. وهناك حشدٌ للمساعدات الإغاثيّة، التي لا تصِل إلاّ بالقطَّارة وبحسب الرغبة الإسرائيليّة. وهناك أيضاً حديثٌ عن إعادة إعمار القطاع. وينتهي سقف الموقف عند حدّ المطالبة بوقف إطلاق النار وتأكيد ضرورة العمل على دعم “الحقوق الفلسطينيّة وحلّ الدولتين”.
العالم العربيّ شديد الاختلاف: هويّته أضحت هويّات، نظرته إلى العروبة أضحت “عروبات”، مآسي الفلسطينيين تقتضي الإغاثة وليست تضحيات ومقاومة لتثبيت حقوقهم، والقضية الفلسطينيّة لم تعُد سوى أمراً مزعجاً يُعيق إعادة ترتيب المنطقة والتحالفات الاقتصاديّة الإقليميّة الدوليّة
بالتأكيد لن يوقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إطلاق النار إلاّ مُرغَماً. إذ أنّ الحرب هذه فرصته لإنقاذ نفسه سياسيّاً، وفرصة لإسرائيل لفرض حلٍّ للقضيّة الفلسطينيّة على طريقتها. حلٌّ كان يُحَضّر لتنفيذه حتّى في ظرفٍ مختلف عمّا انطلق في “طوفان الأقصى”، خاصة في ظلّ الدعم الغربي غير المسبوق و”استنزاف” روسيا في حرب أوكرانيا. أضف إلى ذلك أنّ وقف إطلاق النار سيُجبر نتنياهو على تفاوضٍ مهينٍ له حول الرهائن.
والتساؤل الكبير هو حول ما سيقود نتنياهو وإسرائيل حين يصلون إلى أهدافهم بأن يقبَلوا بحلّ الدولتين على أساس حدود 4 حزيران/يونيو 1967؟ بل أيضاً الانسحاب من الجولان المحتلّ الذي يتمّ تناسيه؟
كانت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 قد أنهت حرب الاستنزاف وفرضت واقعاً جديداً خاصّة مع الموقف الخليجي المساند الفعليّ عبر قطع النفط عن داعمي إسرائيل، ما أدّى في النهاية إلى استرجاع مصر لسيناء. وكانت دول الخليج قد دعمت مصر وسوريا والأردن ومنظمة التحرير بشكلٍ فاعل برغم الخلافات الكبيرة مع أنظمتها ومع القائمين على السلطة فيها، لأنّ غرق دول المواجهة في وحول الهزيمة ربمّا كان سيشكِّل تهديداً لمستقبل الخليج برمّته وحتّى… لهويّة بلدانه الوطنيّة.
السؤال اليوم، وبعد صراعات عربيّة-عربية قاسية؛ بدأت بالحرب الأهليّة في لبنان ثمّ حروب العراق وحتّى الحروب الأهليّة وبالوكالة في ليبيا وسوريا واليمن؛ وبعد المهاترات والمواجهات الطويلة على أسسٍ مذهبيّة، هل ستقوم دول الخليج بخطوةٍ سياسيّة أو اقتصاديّة يكون لها حسابها في ميزان القوّة مع نتنياهو وحكومته ومشروعهم لـ”نكبة جديدة”؟ خطوةٌ تدعم حقوق الفلسطينيين وتفرض على داعميه الذهاب إلى مفاوضات تفرض واقعاً جديداً يُنهي الاحتلال، عن غزّة والضفّة الغربيّة والقدس، وعن الجولان أيضاً؟
اختلاف في كل شيء.. حتى العروبة
في الآونة الأخيرة، أبدت دول الخليج موقفاً يُظهِر استقلاليّةً عن واشنطن، سواء فيما يخصّ الحرب الأوكرانيّة أو في العلاقات مع الصين أو في المصالحة التاريخيّة بين السعودية وإيران. فهل هنالك ترجمة لهذه الاستقلاليّة فيما يخصّ معاناة الفلسطينيين وصمودهم، وفي الانهيار الذي يعيشه كلّ من لبنان وسوريا والتقسيم الفعليّ لهذا البلد؟ خاصّةً وأنّ البلدين الكبيرين الآخرين، العراق ومصر، يفتقدان اليوم أيّة عناصر قوّة تؤثّر على الموازين الإقليميّة والعالميّة.
إنّ موقفاً كهذا ضروريّ من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار وكبح القتل وكذلك من أجل فرض طاولة المفاوضات المقبلة، مهما كان أمدها أو حتّى اتساعها الذي يبقى احتمالاً مفتوحاً. وهذا الموقف هو الذي يدلّ في الواقع على نظرة قادة دول الخليج اليوم، ليس فقط لمستقبل الفلسطينيين، بل أيضاً لما يعاني منه اللبنانيون والسوريون الذي يشكّل المشروع الصهيوني تحدّيهم الوجوديّ. بل وأيضاً لمستقبل أبناء الخليج.
لكن ربّما تأتي الحرب الحالية في عالمٍ عربيّ شديد الاختلاف عن ذلك الذي كان قائماً في الستينيات والسبعينيات. اختلافٌ في مفهومه حول هويّته التي أضحت هويّات. واختلافٌ في النظرة إلى العروبة؛ إنّها “عروبات” متعدّدة متباينة لكلٍّ أهدافها وطموحاتها. واختلافٌ في النظرة إلى مآسي الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربيّة على أنّها فقط معاناةٌ لبشر يقتضي الواقع إغاثتهم وليست تضحيات ومقاومة في سبيل حصول المتبقّين منهم على حقوقهم. واختلافٌ في نظرة “العالم العربي” اليوم حول القضيّة الفلسطينيّة التي لم تعُد سوى أمراً مزعجاً يُعيق إعادة ترتيب المنطقة والتحالفات الاقتصاديّة الإقليميّة الدوليّة. واختلافٌ حول مصير سوريا المقسّمة والخاضعة لاحتلالات إلى ما شاء الله. واختلافٌ حول مصير لبنان الذي يُترَك لانهياراته وانقساماته.
في حرب الاستنزاف الحالية، الفلسطينيّون وأبناء سوريا ولبنان واليمن وليبيا هم الذين ينزِفون.. دون أي مقابل.