منذ العام ٢٠١٥، ينتشر على أرض سوريا أكثر من أربعة آلاف جندي وضابط روسي بين قاعدة حميميم ومرفأ طرطوس. ترافق ذلك مع إحكام روسيا قبضتها على صناعة النفط والغاز السورية عبر توقيع حزمة من الاتفاقات طويلة الأمد مع دمشق للتنقيب في مناطق الصلاحية البحرية المتوسطية، فضلا عن تجديد الاستثمارات بقطاع الطاقة السوري وتوسيعها، وإعادة إعمار بنيته التحتية وتشغيلها. كان آخر الاتفاقات في آذار/مارس الفائت عندما أُعلنت دمشق عن توقيع عقدين مع شركتي كابيتال ليميتيد (Capital Limited) وايست ميد عمريت (East Med Amrit) الروسيتيْن لبدء التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي قبالة السواحل السورية في البحر المتوسط، ناهيك عن إتفاقيات روسية سورية في العديد من المجالات، في إطار العلاقة الإستراتيجية بين البلدين.
وفي جزيرة قبرص التي لا تبعد أكثر من ٢٨٠ ميلًا عن الساحل السوري، استخدمت موسكو بموافقة نيقوسيا قواعد الجزيرة الجوية وموانئها للمقاتلات والبوارج الروسية منذ العام ٢٠١٥ نفسه، حيث شنت هجمات صاروخية ضد تنظيمات إرهابية سوريا مثل “داعش” و”النصرة”، في الوقت نفسه الذي إنطلقت فيه طائرات حربية بريطانية من الجزيرة عينها لضرب أهداف للجيش السوري، من دون إغفال ما تقوم به روسيا من توسيع دائرة تأثيرها المالي والمصرفي والثقافي والديني (الأرثوذكسي) في الشق اليوناني من الجزيرة المتوسطية.
ليبيا ولبنان
في ليبيا، تدخلت روسيا عسكريًا وعبر مرتزقة “فاغنر” لدعم قائد الجيش الوطني الليبي الجنرال خليفة حفتر من أجل الحفاظ على مصالح روسيا في شمال أفريقيا وتحديدًا في قطاع الطاقة، وهي مصالح اسست لها العلاقات الروسية الليبية في زمن العقيد معمر القذافي، خاصة في منطقتيْ سرت والجفرة اللتيْن تعتبران المصدر الرئيس للنفط الليبي.
وفي لبنان، استحوذت روسيا عبر شركة “نوفاتيك” على ٢٠٪ من الكونسورتيوم الدولي للتنقيب عن النفط والغاز في الرقعتين ٤ و٩ بالشراكة مع شركة “توتال” الفرنسية (٤٠٪) و”إني” الإيطالية (٤٠٪). وفي مطلع العام ٢٠١۹ وقعت شركة «روس نفط» العملاقة، اتفاقية مع وزارة الطاقة والمياه اللبنانية، لإدارة وتخزين منتجات نفطية لمدة 20 عاما في منشآت طرابلس التي لا تبعد الا عشرات الكيلومترات عن القواعد الروسية في الساحل السوري. وأعطت الحكومة الروسية مؤخراً إشارات واضحة إلى شركات روسية لتقديم عروض في العديد من القطاعات الحيوية اللبنانية (ثمة وفد روسي يبدأ زيارته إلى بيروت اليوم (الإثنين) في هذا السياق).
ويعوّل لبنان أيضًا على دور روسيا في تسوية خلافاته الحدودية مع سوريا عبر ترسيم الحدود البحرية معها، بعدما ابدت موسكو اهتمامًا بالعمل على الرقعتين ١ و٢ على الحدود الشمالية اللبنانية.
بالنسبة لبوتين، شكّلت خطوة بيع تركيا منظومة “إس إس 400” الروسية ضربًا لأساس وجود حلف شمال الأطلسي “الناتو” وزرعًا للشك في منظومة علاقات البلدان المنضوية تحت رايته
مصر وإسرائيل
اما في مصر، فقد اشترت “روس نفط” من شركة “إيني” الإيطالية ٣٠٪ من اسهمها في حقل «ظهر» البحرى، وهو الحقل الأضخم في شرق المتوسط، إذ يضم احتياطياً يقدر بنحو ٣٠ تريليون قدم مكعب.
في المقابل، لم تنجح روسيا في اقتحام سوق الطاقة في إسرائيل مع رفض تل أبيب عروض شركة «غاز بروم» لشراء ٣٠٪ من حقل «ليفيثان» الغازي لأسباب سياسية قطعًا.
البحر الأسود
ينتشر في منطقة ترانسديتريا في مولدافيا على حوض البحر الأسود ١٥٠٠ جندي روسي، وفي القرم يتواجد ٢٨٠٠٠ جندي، اما في جورجيا، فيتواجد ٧٠٠٠ جندي موزعين بين أبخازيا وجنوب اوسيتيا، يضاف الى ذلك دخول قوات روسية لحماية اتفاق وقف النار بين اذربيجان التي دخلها ٢٠٠٠ عسكري لمدة زمنية محددة (خمس سنوات)، وأرمينيا التي استقبلت ٣٥٠٠ جندي موزعين على قاعدة غويومري والحدود الأذرية غداة حرب إقليم ناغورنو كاراباخ.
العلاقة مع تركيا
بعد اسقاط طائرة “سوخوي” روسية على يد سلاح الجو التركي عام ٢٠١٥ في سماء سوريا، تدهورت العلاقة الروسية التركية، لكن الكشف عن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام ٢٠١٦ بمساهمة استخبارية روسية، أعادت الأمور إلى نصابها، فتعززت العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق ولو انها بقيت احجية لدى معظم المراقبين. فالعلاقة بين البلدين تقوم على التعاون والتنافس في الوقت عينه كما هو الحال في سوريا وليبيا ويدير البلدان الظهر لبعضهما في اوكرانيا وقبرص ويتمايزان في ملف ارمينيا ـ اذربيجان، ويتضح ان الدولتين الجارتين ترغبان في إيجاد أرضية مشتركة وتوازناً دقيقاً يجنب فرض إرادة اي كان على الآخر.. وصولًا إلى صياغة علاقة إستراتيجية من المنظور الروسي.
روسيا أحد أكبر المصدرين التجاريين لتركيا منذ تحلل الاتحاد السوفياتي وتحتل الطاقة اهم مادة للتبادل بين البلدين، فتركيا تعتمد على الغاز الروسي للإستهلاك ولإعادة التصدير الى أوروبا، وما خط Turk stream تورك ستريم الا باكورة العلاقة بين البلدين عبر البحر الأسود. كما ساهمت روسيا في بناء مفاعل akkuyu النووي التركي، ولطالما أكد الروس إستعدادهم لمساعدة أنقرة في التنقيب عن مصادر الطاقة الهيدروكربونية في شرقي المتوسط، ناهيك عما يشكله قطاعا البناء والسياحة من أهمية للبلدين ولا سيما للأتراك.
شكّل استحواذ تركيا على منظومة “إس إس٤٠٠” الدفاعية الروسية إنعطافًة تركيًة أراد من خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التعبير عن خيبة امله من الغرب بشقه الأميركي تسليحًا ومحاولة انقلاب عليه، والأوروبي رفضًا لضم تركيا للاتحاد الأوروبي اضافة الى ضغوط اقتصادية وسياسية عليه، وبالنسبة لبوتين، شكّلت خطوة بيع تركيا منظومة “إس إس 400” الروسية ضربًا لأساس وجود حلف شمال الأطلسي “الناتو” وزرعًا للشك في منظومة علاقات البلدان المنضوية تحت رايته.
على أميركا أن تعيد دراسة الموقف من كل من تركيا وروسيا كما تفعل مع إيران كي تبني على الشيء مقتضاه في المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تتسم نسبيًا بسعي أميركا إلى التركيز على لجم التمدد الصيني وضرب “التنين الأصفر” تحت الحزام إن استطاعت الى ذلك سبيلًا
استراتيجية روسيا
لطالما اعتمدت روسيا على مداخيلها من النفط والغاز لتعزيز اقتصادها، وهي تطمح إلى رفع الأسعار لزيادة المداخيل، كما ترغب في تخفيف الاعتماد على أوكرانيا لتوريد الغاز الى أوروبا الغربية عبر خلق ممرات جديدة كالسيل التركي Turk stream. وتأمل كذلك بلعب أدوار سياسية عديدة في منطقتي البحرين المتوسط والأسود، فهي تقوم بوساطة بين تركيا و”مجلس سوريا الديموقراطي” (مسد)، الجناح السياسي لقوات سوريا الديموقراطية عبر استضافة مباحثات تجريها وفود رسمية من الجانبين. كما تقوم بدور الوساطة بين نيقوسيا وأنقرة، وبمحاولة التقريب بين اذربيجان وارمينيا، كما أسلفنا سابقًا.
وتهدف روسيا أيضًا الى:
- تثبيت وجودها بشكل دائم في سوريا ومن خلالها تثبيت أقدامها في المياه المتوسطية.
- مكافحة التنظيمات الإرهابية المتطرفة التي تشكل خطرًا على أمنها القومي سواء في الداخل أو عند تخومها بدليل مشاركة عشرات المجموعات الأجنبية المتطرفة (من أوزبكية وشيشانية وغيرها) في الحرب على أرض سوريا.
- إحداث توازن مع نفوذ حلف شمال الأطلسي في البحرين الأبيض والأسود (قواعد عسكرية، تدخل، تسليح، إلخ..).
وفي الوقت الذي تتقدم فيه روسيا عملانيًا، تفشل أوروبا في تبني استراتيجية واضحة لمواجهة تمدد القيصر الروسي أو حتى التعامل معه، لا بل إن معظم التحديات لم تحسن اوروبا التعامل معها، ما أتاح لروسيا ملء الفراغ وخلق وقائع جديدة إلى حد لم يعد من السهل تجاوز الدور الروسي في منطقتنا كما نفوذ روسيا في البحرين الأسود والمتوسط، وهو حضور آخذ بالتمدد ليبلغ البحر الأحمر والقارة السمراء، ليشكل مع الدور الصيني هناك كماشة حقيقية.
خلاصة
لقد اعتمدت الولايات المتحدة وأوروبا، في العقد الماضي، العقوبات سبيلًا لضبط نفوذ روسيا لكنها لم تنجح الى حد بعيد في تحقيق هدفها ولعل اميركا تعيد دراسة الموقف من كل من تركيا وروسيا كما تفعل مع إيران كي تبني على الشيء مقتضاه في المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تتسم نسبيًا بسعي أميركا إلى التركيز على لجم التمدد الصيني وضرب “التنين الأصفر” تحت الحزام إن استطاعت الى ذلك سبيلًا.
ما شهدته قمة جنيف الروسية الأميركية ومن ثم القمة الأوروبية يشي بعدم وجود إستراتيجية أطلسية أو أوروبية واضحة في كيفية التعامل مع روسيا. لقد أسقط قادة أوروبا، الأسبوع الماضي، إقتراح المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القاضي بعقد قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. اعتبرت الدول الرافضة، وفي مقدمها دول البلطيق وبولندا والسويد وهولندا بأن ذلك سيبعث برسالة خاطئة للروس، غير أن ما يجري من إنسحاب أميركي متدرج في العديد من الساحات الدولية، قد يجعل الأوروبيين يقبلون إقتراح ميركل المدعوم فرنسيًا.. لكن عندما لا يكون من مصلحة روسيا التجاوب معه!