جرت العادة ان يوجه السيد نصرالله في خطاباته رسائل باتجاهات متعددة، منها السياسي والتعبوي والتصعيدي والتطميني، حسب الشريحة التي يتوجه اليها، سواء في الداخل أم في الخارج، لكنه في خطابه الاخير، توجه الى اللبنانيين عموماً برسالة توضيحية. للمرة الاولى، لم ينفعل. لم يهدد او يتوعد ولم يتهِم الآخرين بالخيانة أو العمالة او تنفيذ اجندات اجنبية.
وعندما قارب مسار التفاوض حول تأليف حكومة مصطفى اديب، إكتفى بإشارة عابرة إلى الدورين السعودي والأميركي، في معرض مقاربته دور نادي رؤساء الحكومة الاربعة السابقين. هذا الهدوء مرده يقين الرجل أقله بصدقية الوقائع التي يعرضها وقدرته على حصد نتائج هذه السردية السياسية لصالح منطقه الحزبي. سر قوته كان مبنياً على أوهام نادي الرؤساء الاربعة الذين إعتقدوا ان الحزب المأزوم قد يسارع الى تقديم تنازلات من دون الانتباه إلى ان القوة المأزومة مستعدة للتماثل مع اسطورة شمشوم بقوله الشهير “عليّ وعلى اعدائي يا رب”، فتسقط الهيكل على رأسها وعلى رؤوس اعدائها.
قد تكون سردية وقائع تكليف مصطفى اديب وتشكيل الحكومة هي الاقرب الى الحقيقة، ويمكن القول ان حزب الله قرر، في لحظة ما، قبول المساكنة التي عرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحيث جاءت المبادرة الفرنسية اصلاحية بالمعنى الإقتصادي التقني ولم تقارب كل الملفات السياسية الخلافية مع الحزب، لكأنه أراد أن يفسح المجال أمام إحتمال المفاوضات الاميركية ـ الايرانية، غداة الانتخابات الرئاسية الاميركية، قبل أن يتم التوصل إلى إتفاق إطار للتفاوض حول الترسيم البحري بين لبنان و”إسرائيل”، وهذا الإتفاق يطرح الكثير من علامات الإستفهام، أقله من جانب حزب الله وحقيقة موقفه وهل يمكن أن يكون شريكاً في مسار يضع لبنان في نهاية المطاف على سكة الإعتراف بالكيان المحتل، من خلال الإقرار بـ”الحدود النهائية”.
لكن الاهم في سردية نصرالله هو الآتي:
أولاً: رد نصرالله على ادعاءات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بوجود مستودعات اسلحة في مناطق سكنية كان سريعا وحاسما لكنه اغفل عن تجاهله لانفجار مرفأ بيروت وزعمه بمعرفته عن مرفأ حيفا اكثر من بيروت عدا عن إبعاد الاعلام عن انفجار عين قانا.
ثانياً: قبوله بحصرية التفاوض حول تشكيل الحكومة مع الرئيس سعد الحريري بما يلغي دور رئيس الحكومة المكلف مصطفى اديب وأيضاً باقي أعضاء نادي الرؤساء، لولا أنهم أقحموا أنفسهم عنوة، لا بل ثمة من يقول إنهم صادروا بعض محطات التفاوض.
ثالثاً: تحدث نصرالله عن الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة وفي نفس الوقت كان الحزب يخوض المفاوضات من دون النظر الى مشاركة باقي القوى السياسية والطائفية الأخرى، وفي هذا الغاء لصلاحيات رئيس الجمهورية. والخشية ان يكون قبوله لمجريات التفاوض بين المكونين السني والشيعي مدخلا الى عقد تأسيسي جديد على حساب المكونات اللبنانية الاخرى.
رابعاً: إصرار الحزب على أن يتمثل في الحكومة مخالفا جوهر المبادرة الفرنسية التي تنادي بحكومة مهمات من الإختصاصيين، ولعل أخطر ما يستبطنه موقف نصرالله في هذه النقطة تحديداً أنه لا يثق بأي من حلفائه من دون إستثناء، وهذا الأمر يأتي معطوفاً على منطق العقوبات الأميركية وكيف يحاول كل حليف من حلفاء الحزب إجراء مناورات للتملص منها أو وقفها عند حدود أسماء معينة.
هل يمكن أن يتصور أي عاقل لبناني ماذا كان موقف حزب الله، في يومنا هذا، لو أنه نزل في 17 تشرين/أكتوبر إلى الساحة وحمى تلك المشهدية غير المسبوقة في تاريخ لبنان؟ هل كان يمكن لقوة لبنانية ثانية غير حزب الله أن تستثمر فائض قوة الشارع لمصلحة معركة الإطاحة بكل الفساد والفاسدين الذين قال نصرالله إنهم باتوا يشكلون خطراً يفوق خطر الإرهاب والإحتلال؟
خامساً: صحيح أن حزب الله يريد أن يكون حضوره وازناً في المعادلة الإقتصادية والمالية للوقوف بوجه توجهات صندوق النقد الدولي خلافاً لكل منطقه السابق ما قبل 2005 حين فوّض الرئيس الشهيد رفيق الحريري إدارة الملفين الإقتصادي والمالي مقابل إطلاق يد المقاومة في معادلة الصراع مع “إسرائيل”. اللافت للإنتباه في هذه النقطة، أن حزب الله عندما يحمّل السياسات الحريرية مسؤولية ما يحصده اللبنانيون من جوع وفقر وبطالة وانهيار، يعبر عن تناقض لا يمكن توريته بمحاولته الهروب من مسؤولية التفويض الاول وشراكته في الحكومات المتعاقبة منذ اغتيال الحريري حتى يومنا هذا.
سادساً: لم يلغ تواضع نصرالله حقيقة أنه ألغى عملياً المبادرة الفرنسية او على الأقل ذهب الى ما أراده ماكرون نفسه. فالاثنان نعيا المبادرة من دون الذهاب الى دفنها ولكل منهما غايته التي لا تتسق مع نفسها انما تتسق مع مصالحهما. فلا الرئيس الفرنسي قدم أفكاراً لإزالة العوائق التي واجهت المبادرة ولا تمسك نصرالله بها كان هدفه ملاقاة ماكرون في منتصف الطريق. الإثنان يريدان أن يسحبا يدهما من دم هذا الصديق!
سابعاً: تحدث نصرالله للمرة الاولى اقله منذ 17 تشرين/أكتوبر الى اللبنانيين في محاولة واضحة لإعادة ترميم الثقة المفقودة بينه وبين جمهور الساحات اللبنانية كلها من صور والنبطية إلى طرابلس مروراً بساحة الشهداء في بيروت. قبل حوالي السنة، بدا نصرالله الراعي الرسمي لهذه السلطة بكافة مكوناتها بدءا من شريكه في “الثنائية” وصولا الى اصغر مكون فيها، لكأنه أراد تجيير فائض القوة الذي يختزنه لمصلحة كل أركان السلطة من دون إستثناء (لنتذكر أنه رفع قبل سنة لاءات ممنوع سقوط رئاسة الجمهورية ومجلس النواب وحكومة سعد الحريري).
ثامناً: ما قام به حزب الله معطوفاً على جائحة كورونا أدى إلى تعطيل قوة الدفع العفوية التي اتسمت بها الإنتفاضة ثم كان انفجار مرفأ بيروت كارثة وطنية اعادت الغضب الى الشارع لكنه عرف كيف يستفيد من زيارة ماكرون، فأعاد تنفيس الإحتقان بالتلهي بحكومة انقاذ تبين أنها مجرد وهم.
تاسعاً: برغم صدقية معظم سردية نصرالله السياسية، إلا أن خصومه نجحوا على مدى الاشهر الماضية في شيطنة حزب الله وكسر هيبة أمينه العام لكنهم ما كانوا لينجحوا لولا ان الحزب اساء الى تراثه النضالي وانحاز الى السلطة بدلا من الإنحياز إلى شعبه.
عاشراً: يحيلنا هذا الأمر إلى سؤال سنبقى نطرحه على حزب الله: هل يمكن أن يتصور كل عاقل لبناني ماذا كان موقف حزب الله، في يومنا هذا، لو أنه نزل في 17 تشرين/أكتوبر إلى الساحة وحمى تلك المشهدية غير المسبوقة في تاريخ لبنان؟ هل كان يمكن لقوة لبنانية ثانية غير حزب الله أن تستثمر فائض قوة الشارع لمصلحة معركة الإطاحة بكل الفساد والفاسدين الذين قال نصرالله إنهم باتوا يشكلون خطراً يفوق خطر الإرهاب والإحتلال الإسرائيلي؟
حادي عشر: لقد بات لبنان مكشوفا بشكل كامل. لا القوة ولا الإستقواء يمنعان لبنان من الانزلاق الى خطر انفجار اجتماعي او انكشاف امني امام مجموعات ارهابية لا نعرف هوية مشغليها. أيضا، هناك خطر العدوان الاسرائيلي القائم في كل يوم ودقيقة، بغض النظر عن العربون الذي تم تقديمه للعدو بالموافقة على اتفاق إطار بشأن ترسيم الحدود البحرية.
في الختام، يمكن للحزب ان يسيطر على اجزاء كبيرة من لبنان في حالة الحرب مع الغدو الإسرائيلي.. ولكنه سيجد نفسه في اليوم التالي، في ارض محروقة، غارقاً في بحر من العصبيات التي لا بد ان يصب الجوع زيته فوق نارها الملتهبة.