اكتب الجزء الأول من مقالي وأنا في عجلة من أمري، فأنا، ويجب أن أعترف، لست واثقا من أن صروحا وقوانين وسياسات أمريكية وغير أمريكية عديدة سوف تظل قائمة أو معمولا بها عندما استأنف كتابة مقالي هذا قبل نهاية هذا الأسبوع. أبالغ؟ نعم. ولكن يبرر المبالغة أنه خلال الأعوام الأربعة الماضية هي عمر ولاية الرئيس ترامب كانت التغيرات على كافة المستويات والمواقع أوسع وأعمق وأسرع من قدرات كثيرين من أهل العلم على المتابعة والتقويم. كانت في أغلبها أقرب إلى أن تقع تحت عنوان التحولات منها إلى عنوان التغيرات. أتوقف لأعود بعد قليل.
***
عدت بعد توقف. الآن أواصل المبالغة ولست صاحبها هذه المرة. ما أن وصلت إلى نهاية عبارة قصدت بها أن أعبر عن انبهاري بعمق واتساع التغيرات التي حدثت خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب والتي كادت تتصف بصفة التحولات التي يهتم بها المؤرخون أكثر من التغيرات والتفاصيل العابرة، أقول ما أن وصلت إلى نهاية العبارة حتى جاءني من ينقل نبأ تحليل طبي أجرى للرئيس دونالد ترامب أثبت إصابته بفيروس الكورونا. دونالد ترامب الرافض معظم الوقت الاعتراف بوجود هكذا فيروس ثم المعترف بوجوده ولكن الناكر لخطر يمثله يهدد الأمة والاقتصاد ومكانة أمريكا. ازداد انبهاري بعمق واتساع ما يحدث من حولي. ها هي الطبيعة بكل عنفوانها ومخزون أسرارها تتدخل فتسقط دفعة واحدة نظريات المؤامرة والأساطير، ولكن إلى حين. وبفضل تدخلها ظهرت تهيؤات من نوع آخر جاء بعضها مع من نقل خبر إصابة الرئيس، قيل لي بلا خجل أو تردد، أترى كم أن الطبيعة نفسها غاضبة على الرجل وترفض إلا أن تكون طرفا في عملية نقل السلطة. لن تتركها لبشر لهم أطماع وبينهم أحقاد ويسوقهم العناد. قلت ساخرا، ولكن هذه الطبيعة لن تجد أمامها ومعينا لها إلا هذا النوع من البشر فقد صارت النخبة السياسية، وبخاصة الفئة الحاكمة، كلها من هذا النوع وإلا ما انحدرت أمريكا كل هذا الانحدار وما وصلت هي والعالم إلى هذا الوضع المعقد. ثم همست متشككا بيني وبين نفسي، ومن أدراني فالرجل أثبت من قبل براعته حين فرض علينا، كلنا في أمريكا وخارجها، أن نلعب أدوارا في حلقات مسلسل يكتبها ويخرجها ويمثلها معنا، وهو أيضا المتفرج.
***
أما الانحدار ففي رأيي كان حاصلا منذ عقود وعلاماته لم تكن خافية. كانت الحرب الباردة آخر فرصة أمام أمريكا تتدرب فيها على هيمنة وقيادة. ثم حان وقت الانفراد بالقيادة وعاش العالم مع أمريكا مرحلة خرج منها منهكا مشتت الأهداف، ولعله لم يخرج منها بعد. تصرفت أمريكا خلالها كثور هائج. لا اعتبار لمؤسسات دولية أو قواعد قيادة رشيدة. أزمة العراق كانت نموذجا لرعونة دولة عظمى مترددة، وكانت مع الحرب في أفغانستان، وهي الحرب الأطول في تاريخ أمريكا، الدليل المادي على اتساع الثقوب في حضارة الغرب وعلى سرعة تفكك المعسكر الأطلسي.
***
من أهم ما تركته لنا العولمة الثانية، وهي التي تعايشت مع الحرب الباردة وانتهت تقريبا مع نهايتها، تركت لنا تقاربا في نماذج الحكم في الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تركت فجوات أوسع جدا بين طبقات المجتمع الواحد. تركت استعدادا أوفر لدى حكام الدول الكبرى، وبخاصة في الغرب مهد الديموقراطية ودرعها، للتغاضي عن قواعد وأخلاقيات الليبرالية والفصل بين السلطات. ضاقت الفوارق السياسية بين ممارسات الحكم في واشنطن وموسكو ونيودلهي وبكين. في الوقت نفسه، دخلنا مرحلة تباعدت فيها المداخيل واتسعت الفوارق الاجتماعية، لا استثناء فيها للصين أو الولايات المتحدة أو كينيا أو روسيا والدول العربية. توحدت أو كادت تتوحد أمزجة الحكام وأساليب حكمهم وتنافرت في كل دولة على حدة وفيها جميعا مداخيل الناس؛ فقر مدقع وثراء فاحش.
***
لن أكون في قسوة علماء السياسة الأمريكيين الذين يحملون دونالد ترامب مسئولية الفوضى الدولية وسقوط مكانة أمريكا. من هؤلاء مثلا وليس حصرا ايكانبري من برنستون وإدوارد واتس من جنوب كاليفورنيا وشارل كوبشان من جورج تاون وجوزيف ناي من هارفارد. قرأت مؤخرا لناي قوله “كتمنا النفس أربع سنوات ولن نستطيع أن نكتمه ثمان”. مرارا أقرأ أو أسمع كلمة “قرف” يكتبها وينطق بها خبراء وعلماء أمريكيون. لا أذكر أني قرأتها أو سمعتها من قبل ضمن تحليل أو دراسة لعلاقة دولية أو سياسة خارجية. كاتب آخر يصف اللحظة بالتاريخية، “لحظة التقاء أمريكا بصندوق انتخاب غير آمن ولا مأمونة نتائجه”.
***
أسأل وكثيرون يسألون السؤال نفسه، وبخاصة بعد مشهد مستشفى والتر ريد العسكري، أما آن لمسيرة انحدار الغرب أن تتوقف؟ بدأت الأسبوع مع بعض الظن أن الظروف الصحية للرئيس دونالد ترامب كما نقلت إلينا قد تجبره على رحيل قريب من البيت الأبيض. وصلت إلى نهاية الأسبوع مقتنعا بأن الرئيس غير جاهز لرحلة هادئة، لن تكون بأي شكل رحلة رحيل. لقد أعد الرجل من أدوات الصخب ما يؤمن له ولأمريكا وللغرب والعالم رحلة مثيرة و”غير مسبوقة”.