شاركَ نائب الرئيس الأميركي باراك أوباما في سنته الأولى وقتذاك: جو بايدن، في مؤتمر ميونيخ الأمني للعلاقات الأوروبيّة الأميركيّة المنعقد في سنة 2009 ممثلاً للولايات المتحدة، ومعبّراً عن وجهة نظر الرئيس أوباما حيال العلاقات الأوروبيّة/ الأميركيّة على ضوء التوتّرات التي كانت تشهدها أبخازيا وأوسيتيّا الجنوبيّة. قال بايدن قبل أن يفتتح خطابه الذي لخص سياستهُ ورؤيتهُ لمسار العلاقات الدوليّة بعامة:”إنّ العالم لا يمكنهُ حلّ مشاكله دون أميركا، ولا تستطيع أميركا بدورها حلّ مشاكل العالم وحدها”. ثمّ علّل موقف أميركا غير الداعم لاستقلال أبخازيا وأوسيتيّا الجنوبيّة، دون أن يسهوّ في الآن ذاته عن الحديث عن نوعٍ من “التطابق” في وجهات النظر بين أميركا وروسيا في “أماكن كثيرة” باستثناء الموقف الروسي الداعم لاستقلال أبخازيا وأوسيتيّا الجنوبيّة. وقد تُرجمتْ العبارة التي أوردها بايدن عن “التطابق مع روسيا في أماكن كثيرة” عملياً في الشروع على هامش مؤتمر ميونيخ لسنة 2009 في مفاوضاتٍ جادّة بين البلدين حول “اتفاقية ستارت2” الهادفة إلى الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، والتي انتهت بالتصديق عليها بشكل رسمي بعد اللقاء الذي جمع وزيرة الخارجية الأميركيّة هيلاري كلينتون ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أعقاب مؤتمر ميونيخ لسنة 2011.
في خاتمة الخطاب الذي ألقاهُ بايدن في مؤتمر ميونيخ لسنة 2009 استشهد بشاعرٍ إيرلندي لم يسمهِ واكتفى بمقطعٍ من إحدى قصائدهِ التي لم يشر إلى عنوانها أيضاً: “كل شيّء تغيّر، تغيّر تماماً، لقد وُلد جمالٌ رهيب”، في سياق حديثهِ عن انتعاش العلاقات الأوروبيّة الأميركيّة، وسلامة الأدوات الدبلوماسيّة بين الحليفين، واقتدارهما المستمر على تلافي أيّ نوعٍ من الخلل الذي قد يشوب دولاب العلاقة.
ترامب الذي كان يعتقد بأنّه “انتُخب فقط لأنّه ليس نمطياً” وهو محقّ في ذلك، بلّ إنّها إحدى الحالات النادرة لصدقه، قد دفّع العالم برمتهِ ثمن الخروج من “الإستبلشمينت” الأميركي والدخول إلى الماركنتلية العنيفة
والحال أنّ بايدن اقتطع من قصيدة شهيرة للشاعر وليم بتلر ييتس، رثى فيها القادة السبعة الذي أضرموا “انتفاضة عيد الفصح”، حين قادَ الجمهوريون الإيرلنديون الثورة لإنهاء الحكم البريطاني في إيرلندا سنة 1916، وقامَ البريطانيون زمنذاك بقتل 485 شخصاً نصفهم على الأقل من المدنيين، وأسر 3500 إيرلندي، وتمّ إعدام رموز تلك الانتفاضة الذين رثاهم ييتس، أبرزهم: توماس ماكدونا، جون ماكبرايد، باتريك بيرس وجيمس كونولي. لا أدري بالضبط هل قرأت الصحافة البريطانيّة وقتها في هذا الشاهد أيّ نوعٍ من الغمز من قناةٍ لرئيس الوزراء البريطاني غولدن براون.
لكن رغم ذلك، كان بايدن من الذين يولون خيار القوّة في حسم النزاعات مكانةً وأهميةً، فقد اشتُهر بانتقاده الشديد للرئيس الأميركي جورج بوش الأب (كان منافسه في الانتخابات الرئاسيّة في 1988) وللموقف الأوروبي في أوائل تسعينيات القرن الماضي بسبب ما كان يسميه بايدن “تخاذلهما” في استخدام القوة الجويّة في ضرب المدافع الصربيّة المرابطة في البوسنة وضد القوّات اليوغسلافيّة الموجودة في صربيا (مجلة “المجلّة” خريف 1993)، مثلما اشتُهر بتصويته لاحتلال العراق سنة 2003، رغم أنّه ندمَ عليه واعتبر بأنّ الرئيس جورج بوش الابن خدعه!
بايدن وأوروبا “الجديدة”
يؤمن بايدن بالعولمة ويعتقد بدور أميركا المهمّ في أوروبا، ويتصوّر بأنّ الحلف الأطلسي (الناتو) يمثل أكثر من ضرورة، بلّ إنّه أبلغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بذلك في اتّصال هاتفي جرى يوم الثلاثاء الماضي 10 نوفمبر/ تشرين الثاني (2020)، حمل بعض الملامح المتوقعة لسياسة الولايات المتحدة إزاء قضايا الاتحاد الأوروبي والأمن في إفريقيا. تأتي هذه المكالمة من أجل رأب الصدع الذي أحدثته تركة دونالد ترامب مع الجانب الأوروبي، وشعور الأوروبيين على نحوٍ خاص بأنّ ترامب يعاملهم باستعلاءٍ وعجرفة، ممّا أظهر نوعاً من العداء بين الطرفين. أيّ أنّ الرجل (ترامب) الذي كان يعتقد بأنّه “انتُخب فقط لأنّه ليس نمطياً” وهو محقّ في ذلك، بلّ إنّها إحدى الحالات النادرة لصدقه، قد دفّع العالم برمتهِ ثمن الخروج من “الإستبلشمينت” الأميركي والدخول إلى الماركنتليّة العنيفة! فضلاً عن احتدام الخلاف التجاري الأوروبي الأميركي في زمن الرئيس السابق، الذي ألقى بتداعياتهِ الثقيلة على أدبيّات التهاني بفوز الرئيس الجديد، إذ رأى وزير الخارجيّة الألماني هايكو ماس بأنّ انتخاب بايدن تنتظرهُ مشاكل تجاريّة لا تزال عالقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لا سيما أنّ الصين تبحث عن موطئ قدم في أوروبا، وتسعى لأنّ تجد لنفسها مصالح حيويّة بديلة في الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي بدت فيه أميركا في زمن ترامب مشغولة تماماً بإدارة الصراع البارد مع الصين، مثل التعليق التبسيطي على الفارق في الميزان التجاري مع الصين بحوالي 360 مليون دولار، إذ قال ترامب: “الصين أكلت وجباتنا الغذائيّة”، ثم إصراره على تطويب المصطلح “كوفيد 19” إلى “الفيروس الصيني” وتوظيف ذلك في الدفع إلى محاصرة الصين بواسطة حصر الاستياء العالمي من تعامل الصين مع “سريّة” حدوث الفيروس في بداياتهِ، ثم محاولة اختراق العلاقة الروسيّة الصينيّة من خلال هذا المعبر، الذي لم يصمد طويلاً أمام الاستخدام المكثّف لاصطلاحات فجّة طغت عليها شعوبيّة رثّة؛ باتت مع الوقت، محلّ تندّر عالمي.
أميركا تخطّط للعودة إلى أوروبا من نافذ البيئة، وتحديداً من خلال العودة إلى مقرّرات قمّة الأرض حول المناخ التي انعقدت في باريس سنة 2015، وسوف يجد بايدن نفسه على الأرجح أمام مواجهة حتميّة مع “فريدم كوكس” (تكتّل الحريّة) التي ازداد عددهُ بعد الانتخابات الأخيرة بستة أعضاء (43 عضواً)، وهو تكتّل رجعي قومي متطرّف يضمّ أقصى يمين الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، ناهيك عن المواجهات الأخرى داخلياً.
تراءى للعالم من خلال سياقات الحملة الانتخابيّة؛ بأنّ ترامب برز مرشحاً وهو رئيس، فيما بدا بايدن رئيساً حتى وهو مرشح
بايدن والاستيطان الإسرائيلي
لم يُعنَ بايدن بقضايا الشرق الأوسط أثناء حملته الانتخابيّة كثيراً، بسبب تركيزه على الشأن الداخلي الأميركي، حيث جاءت حملتهُ في سياق النقض/ الردّ على الاستخدامات السلبيّة لاصطلاح “أميركا أولاً” التي قامت عليها سياسة منافسه الآفل من ناحية، ومن جهة أخرى؛ وجد بايدن في وباء كورونا المستجدّ مستثمرة نقديّة لكل سياسات المرحلة السابقة.
شرق أوسطياً؛ يُقرّ بايدن صراحةً بأنّه صهيوني، لكنّه يؤيّد في الوقت نفسه خيار الدولة الفلسطينيّة، ويُعارض ضمّ الضفة الغربيّة إلى إسرائيل، ولا يرغب في إعادة النظر في نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس، وسبق لهُ أن عارض بناء المستوطنات في القدس الشرقيّة سنة 2010، واعتبرها “ديناميت يُلهب المنطقة” كما نقلت صحيفة “السفير” عن رويترز في عددها المؤرّخ بـ 12 مارس/ آذار 2010، دفع إسرائيل لـ “الاعتذار” عن هجومها عليه وربما عن خطة الاستيطان، كما عبّرت عن ذلك جريدة “ديلي تلغراف” البريطانيّة في عنوان افتتاحيّتها في مارس/ آذار 2010.
كان للرئيس الأميركي الجديد جو بايدن تصريحات ناريّة ضد الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن كلّ هذا قد يدخل في نطاق التعبئة التي تشهدها الحملات الانتخابيّة عادةً، رغم أنّ بايدن في حملته الموجّهة للداخل الأميركي، بدا أكثر “أبوّةً” (بالمفهوم الأخلاقي) واستيعاباً (بالمعنى السياسي) لكل شرائح المجتمع الأميركي، على نقيض ترامب الذي كان يغذي الخلافات الأثنيّة والعرقيّة، ويطلق تصاريح غير مسؤولة، من شأن تداولها بين القوميّات البيضاء أن تساهم في تعزيز الهوّة بين الأميركيين من أصول أوروبيّة والأميركيين من أصول لاتينيّة (الهيسبانيك) والأميركيين من أصول أفريقيّة.. وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك.
لذلك، تراءى للعالم من خلال سياقات الحملة الانتخابيّة؛ بأنّ ترامب برز مرشحاً وهو رئيس، فيما بدا بايدن رئيساً حتى وهو مرشح.