توقيف رياض سلامة.. قضاء لبنان “يستثمر” الغطاء الدولي المفقود!

حسناً فعل القاضي الإداري كارل عيراني بإلزامه وزارة المال في 24 تموز/يوليو 2023 بتسليم تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته شركة "ألفاريز". لولا عيراني، لما انفضحت الخبايا التي وثّقها التقرير وتم رميه في الأدراج بعنوان "سري". ولولاه أيضاً، لما سقط رياض سلامة.. بشراكة مع مدعي عام التمييز بالإنابة القاضي جمال الحجار الذي استدرجه كشاهد فقط لا غير.

برغم حالة الصدمة التي أصابت الطبقة السياسية والرأي العام اللبناني بأسره، الا أنّ توقيف رياض سلامة كان منتظراً. فحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، سبق وأدخل مصرف لبنان المركزي طرفاً في الدعوى الفرنسية المقامة ضدّ سلامة. تعاون منصوري مع السلطات القضائية الفرنسية قلب كلّ المعادلة. فهو الذي قدّم للقضاة ما كان ينقصهم من “داتا” ومستندات توثّق ارتكابات سلامة.

قبل التفاصيل، يجب التوقف عند توقيت توقيف سلامة: حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري متواجد في لندن. رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي أيضاً خارج البلاد. علّق بكلمات قليلة أن القضاء سيد نفسه. رئيس مجلس النواب نبيه بري فوجىء بقرار التوقيف مثله مثل أي مواطن لبناني. وزير المال في حكومة تصريف الأعمال لم يصدق العبارة التي بلغته بأن رياض سلامة أصبح موقوفاً.. أما من يريد مصادرة “الإنجاز” فلا يُمكن أن يُعد هؤلاء أو يحصوا.. “فعندما تقع البقرة بيكتروا السلّاخين”. أما الأهم، فيبقى عنصر المباغتة الذي لجأ اليه القاضي الحجار الذي تتراكم على مكتبه مئات القضايا.. ولسان حاله أن يفرز له وزير العدل قاضيين أو ثلاثة قضاة من “الأوادم” حتى يتبين للبنانيين أن قضاة لبنان “ليسوا جميعاً فاسدين”، كما يُروّج كثيرون وبينهم بعض القضاة.

***

قضائياً، أجرى القاضي جمال الحجار تحقيقاته. حوّل الملف الى المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم الذي ادعى على سلامة بالاختلاس والسرقة والتزوير وتبييض الأموال. هذه الاتهامات المثلثة الأضلاع تعني في لغة القانون”جنايات”، أي أنّ التوقيف الاحترازي في هكذا حالات يُمكن أن يصل إلى ستة أشهر.

بعد ادعاء القاضي علي إبراهيم، سيُحوّل الملف إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي الذي سيُعيّن جلسة لاستجواب رياض سلامة. بعدها، إما يُترك سلامة، أو تصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه. في الحالتين سيُصار إلى الإستئناف. فإذا أُخلي سبيل سلامة، يُمكن للنيابة العامة المالية الإستئناف خلال 24 ساعة. وإذا أصدر القاضي حلاوي مذكرة التوقيف الوجاهية، سيستأنف سلامة الحكم. وفي الحالتين أيضاً، سيحوّل الملف الى الهيئة الاتهامية برئاسة القاضي ماهر شعيتو. وللمفارقة، سبق لسلامة ان خاصم قضاة الهيئة الاتهامية في بيروت في دعوى أخرى. هنا يكون السؤال: هل يتنحى القاضي شعيتو عن الملف أم لا؟ فإذا تنحى، سيتحتّم على الرئيس الأول في محكمة الاستئناف حبيب رزق الله انتداب قضاة جدد للهيئة الاتهامية.

***

من أوصل “الرجل القوي” رياض سلامة إلى السجن؟

الحق على (أوبتيموم) “Optimum”، وقبلها (فوري) “Forry”.

بدأ ملف تحقيقات “Optimum”، مع نشر التقرير الاولي للتدقيق الجنائي الذي أعدته “Alvarez & Marsal”، والذي كشف عما أسمي “الحساب الإستشاري” بين مصرف لبنان والشركة الخاصة. حرّك النائب العام التمييزي السابق غسان عويدات الملف قبل إحالته الى سنّ التقاعد حيث حوّل الملف كاملاً الى هيئة التحقيق الخاصة. بعدها، تعاون منصوري مع الهيئة.

في العام 2020، قام أنطوان سلامة، المالك السابق لـ”Optimum” ببيع الشركة لـLI Bank”. مع انكشاف العمليات التي دارت في فلك “Optimum”، ارتبك مفوض الرقابة في الشركة وخاف من إجراءات النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، فسارع وطلب من شركة التدقيق المالي “Kroll” (كرول) تقييم حقيقة الوضع وأرسل التقرير النهائي الى القاضية عون. 45 عملية بين مصرف لبنان المركزي و”Optimum” بقيمة 43 مليون دولار كُشفت.

يُبيّن التقرير أن سلامة وخلال عهده في مصرف لبنان المركزي الذي امتدّ لـ30 سنة، تمكن من خلق حلقة خاصة من حوله تضم أسماء مثل (ب. ك.) و(م. ت.) و(م. ع. خ.) و(ن. ع.) و(م. ح.) و(ر. س.). هؤلاء شكّلوا حلقة رياض سلامة الضيقة. من خلالهم “حصراً” كانت تمرّ العديد من معاملات المصرف المركزي. هؤلاء انصاعوا لأوامر الحاكم وحوافزه وكان من الطبيعي أن يستفيدوا كثيراً. من هذا المنطلق، لا يمكن فصل قضايا الاختلاس والتزوير والألاعيب المحاسبية وتبييض الأموال عن قضية سرقة أموال المودعين وسلب الدولة ونهبها عبر سندات “اليوروبوندز”.

في 14/09/2024، رأت هيئة التحقيق الخاصة (بالاستناد الى تقرير التدقيق الجنائي):

  • أنّ كلفة الهندسات المالية كانت مرتفعة جداً بسبب الفوائد والعلاوات التي تمّ تسديدها عند شراء سندات خزينة، وتجديد الايداعات لدى مصرف لبنان وفارق سعر الصرف. وحدّدت “ألفاريز آند مارسال” كلفة الهندسات المالية بـ115 مليون تريليون ليرة بما فيها من علاوات بـ30 تريليون في حين حدد مصرف لبنان هذه الكلفة بـ85 تريليون ليرة، مع الإشارة إلى أنه لم يكن هناك من قيود على رياض سلامة في تنفيذ الهندسات. كما لم تخضع تلك الهندسات لأي رقابة لاحقة ولا لدراسة جدوى.
  • فيما خصّ حساب العمولات، تمّ تحويل 111 مليون دولار من حساب العمولات لدى مصرف لبنان إلى حسابات مصرفية مفتوحة لدى 6 بنوك وحساب مصرفي سويسري. وقد غُذيَ هذا الحساب من العمولات على الهندسات المالية. هذه الملايين وُزّعت على أشخاص لم ترد تفاصيل عنهم، الأمر الذي يتطلب توسعاً في التحقيق لمعرفة هوية المستفيدين النهائيين من شركتي “فوري” و”أوبتيموم”.
  • حوّل رياض سلامة 98.8 مليون دولار من حساباته لدى مصرف لبنان الى حسابات في سويسرا والمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ والمملكة المتحدة بين الأعوام 2015 و2020.

***

عمليّاً، مرّت سنة على خروج رياض سلامة من حاكميّة مصرف لبنان المركزي. لا رئيس جديد للجمهورية ولا حكومة جديدة تتولى تنفيذ رزمة الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي. لم تشهد الساحة المالية تغيّرات تذكر: لا الإصلاحات المصرفية تمّت، ولا الودائع عادت، باستثناء توقيف رياض سلامة وزيادة حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري حوالى مليارَ ونصف المليار دولار على احتياطات المركزي، إلّا أنّ أبرز التحدّيات التي تمكّن منصوري من تخطيها هي:

  • فصل شخص رياض سلامة عن مصرف لبنان المركزي، واعتماد نهج من المحاسبة هدفه استعادة أموال مصرف لبنان.. والأهم استعادة الثقة اللبنانية والدولية بالمصرف.
  • وضع قواعد ثابتة للعلاقة بين مصرف لبنان والسلطة التنفيذية، إستناداً إلى قانون النقد من جهة وقانون الموازنة من جهة ثانية، وبالتالي وقف “مزراب” الصرف الذي استمر ثلاثين سنة، من خلال إقراض الدولة عبر طبع العملة اللبنانية أو من خلال إحتياطي مصرف لبنان من العملة الصعبة.
  • العمل على إعادة مصرف لبنان المركزي الى كنف قانون النقد والتسليف.
  • وقف الهدر والنزيف والتزوير المستمرين في مصرف لبنان المركزي وماليّته منذ 30 عاماً.
  • إيجاد خطّة قابلة للعيش لإعادة الودائع (85 مليار دولار).

في هذا الاطار، علم موقع “180 بوست” أنّ مجلس حاكمية مصرف لبنان المركزي بصدد الإعلان عن خطّة لإعادة الودائع قوامها شطب الفوائد المراكمة فوق الـ2٪، بالإضافة الى شطب أرباح الهندسات المالية التي حقّقتها المصارف، كما شطب الأموال المُحققة من التهرب الضريبي للمهن الحرة وفرض ضرائب عليها. كما تتضمن خطة منصوري حذف الودائع الهالكة (حوالي 7 مليار دولار) لشخصيات غير لبنانية. هذه الخطوات الأربع تُمكّن من التخلص من حوالى 45 مليار دولار من أصل 85 مليار دولار. بعدها تأتي مرحلة التمييز بين المودع والمستثمر. المستثمر، وفقاً للخطة، سيجد مصلحته في امتلاك اسهم في مصرف (bail-in) أما الودائع لغاية 100 الف دولار فتُردّ على دفعات شهرية بما يقارب 1000 دولار شهرياً مع الأخذ في الاعتبار سلم أولويات (نموذج كبار السن وفئة المتقاعدين إلخ..). إضافة إلى اعتماد الرقم المالي الموحّد.

إقرأ على موقع 180  ما لم يناقشه المؤتمر الـ 12 للحزب الشيوعي اللبناني (2)

وبغضّ النظر عن مدى قابليّة هذه الخطة للحياة، سيتطلّب حلّ معضلة الودائع ما لا يقل عن 10 سنوات، من دون أن ننسى طبعاً قضية التوقف عن سداد “اليوروبوندز” التي اقتربت من دخول عامها الخامس..

***

ليس تفصيلاً أن يُعلّل تقرير التدقيق الذي أعدّته “Alvarez & Marsal” كيف اعتمد الحاكم السابق معايير محاسبيّة غير تقليديّة، بحجة الحفاظ على استقرار سعر النقد، وتأمين نمو السوق النقدية والمالية، وحماية الاستقرار الاقتصادي.

وليس بسيطاً أن يشرح التقرير الأوّلي كيف لجأ مصرف لبنان المركزي الى إجراءات هدفها إخفاء خسائر وطمس أرقام وتوهّم أرباح، برغم أنّ شركة “Alvarez & Marsal” ليست متخصّصة بالتدقيق الجنائي.

لم يقدّم التقرير حقائق جديدة. وهو لم يوثّق أدلّة غير معروفة. بل شرح ما توفّر من “داتا” ومعلومات كلها جاءت متطابقة مع معطيات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC) الذي أدرج سلامة على لائحته السوداء لممارسته “أنشطة فاسدة” أدّت إلى انهيار سيادة النقد والقانون في لبنان.

المقصود هنا ودائماً تلك الهندسات المالية والعمولات التي دارت في فلكها. إذ دفع رياض سلامة مئات ملايين الدولارات في “عمولات غير مشروعة”، مع رفضه الكشف عن المستفيدين النهائيين أو طبيعة المعاملات. وأبلغ بانتظام عن حالة مالية إيجابية، في حين كانت احتياطاته سلبيّة منذ العام 2017، وما قبله. وأمّن كلّ التسهيلات للبنوك التجارية حتى تنقل سيولتها من المصارف الأجنبية المراسلة إلى مصرف لبنان، بفوائد مغرية ومكافآت غير عادية. والنتيجة كانت هبوطاً مدمّراً في سيولة البنوك بالدولار، وهو العنصر الذي أدى إلى انهيار القطاع المصرفي في العام 2019، من دون أغفال الأبعاد السلبية لقرار جمعية المصارف بالاقفال لمدة شهر قبل نهاية العام 2019، وهو القرار الذي اتخذته الجمعية أثناء وجود رئيسها والأعضاء في العاصمة الأميركية!.

***

كان اللبنانيون عبيداً لعقلية المصارف المكيافيلية. لم يلاحظوا “نمط” فتح الحسابات من دون البراهين المفروضة قانوناً، ولا الإفراط في تقديم القروض الشخصية غير المرتبطة بأهداف مهنية او تجارية او استثمارية (القروض العقارية، قروض شراء مسكن، وسيارة، قروض التعليم، والاستشفاء والسفر والتسوق، وحتى قروض عمليات التجميل والنحت والتنفيخ والتكبير والزواج والطلاق!!..) كل ذلك حظي بتغطية من حاكمية مصرف لبنان التي نقلت لعبة مؤشرات الفوائد إلى السوق المحلية. فاستعيض عن المؤشرات الدولية، وتُرك تحديد نسب هذه الفوائد إلى جمعيّة المصارف عبر مؤشر “Beirut Reference Rate”. بهذه الطريقة، أصبحت تكلفة تمويل القروض هستيرية قياساً بالمؤشرات العالمية.

توازياً، أوهمت إدارات المصارف نفسها أنها تنمو. علماً أنها لم تكن تجني المال بل تخسره. حاملو الأسهم كانوا معجبين بهذا النمط.

لم يتجرأ أحد قطّ على فضح عدم فعالية الإدارات في دحض السلوكيات غير الأخلاقية التي انتهجتها المصارف، من دون أن ننسى عمليات تبييض الأموال. ودعوى “بارتليت” الأميركية ضدّ 13 مصرفاً لبنانياً خير دليل على ذلك.

على خطّ آخر، وبالاتفاق مع وزراء المال والحكومات المتعاقبة، أصدرت وزارة المال سندات “يوروبوندز” من دون حاجة الحكومة الى تلك الأموال، بغية زيادة احتياطات مصرف لبنان المركزي بالعملات الأجنبية. ومن ثمّ اجراء عمليات إقراض للقطاع المالي الخاص بشرط استثمار المصارف التجارية في “اليوروبوندز”.

في نهاية 2019، كان مصرف لبنان يحمل في ميزانيته سندات “يوروبوندز” بقيمة 5.03 مليارات دولار، وكانت المصارف اللبنانية تحمل سندات “يوروبوندز” بقيمة 13.9 مليار دولار. لكنها علمت بأمر التوقف عن السداد قبل إعلانه رسمياً، فسارعت إلى التخلّص من بعض هذه السندات وبيعها في السوق.. وهذه القصة ربما يكون لها “أبطالها” من صلب النظام اللبناني!

في المقابل، منذ العام 2018، و”مقايضة” مخاطر التسديد الائتماني لدين لبنان الخارجي المجدول للأعوام الخمسة المقبلة، تتخذ منحى تصاعدياً. ذلك يعني أنّ مصرف لبنان ومعه المصارف التجارية والسلطة التنفيذية أدركوا خطورة الوضع. وهم علموا أيضاً أنّ انفجار الفقاعة الاقتصادية (Bubble Economy) بات وشيكاً. هكذا بدأت “المضاربة” والاستثمار في احتمال عدم تسديد مستحقات الـeurobonds، وازدهرت عملية شراء الـcredit default swap، أي مبادلة مخاطر الائتمان (CDS) عبر بورصة لندن. هذا النوع من الأوراق المالية، بمثابة تأمين على عدم دفع الدولة لدينها. فاذا تعثّرت حصل حاملو الـCDS على التعويض المالي، وإن سدّدت مستحقاتها خسروا المراهنة. هذه الآلية حققت عوائد تخطت 2.5 مليار دولار لحملة الـCDS بغطاء من مصرف لبنان المركزي. ثمّ تهافتت المصارف فباعت نسب من سندات الدين للـvulture funds، وهي صناديق ديون متعثرة تستثمر في الديون المتخلّفة عن السداد. أما العوائد فتخطّت 30% من قيمة السندات وُزّعت على المصارف والمصرفيين المتواطئين و”حُماتهم” على حساب الدولة اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  فطور صباحي سياسي.. مع مقاوم لبناني