رست التوازنات الآن في القوقاز على عودة إقليم ناغورنو قره باخ إلى كنف روسيا، وهو الخارج عن سيطرتها منذ 1988، في أوائل تفسخ الاتحاد السوفياتي. أرضى إلهام علييف غروره القومي باستعادة جزء من الإقليم. وأصبح في إمكان رجب طيب أردوغان التباهي بتحول تركيا قوة إقليمية يمتد نفوذها من القوقاز إلى ليبيا والعراق وسوريا بينما سفنه ترسم الحدود في البحار، من المتوسط إلى الأسود إلى إيجه.
بات استمرار الحرب يحمل في ثناياه إحتمال تدخلات دولية أكبر، ولا تريد روسيا أن يتم تدويل الأزمة وأن يصبح تدخل الغرب فيها باسم حماية الأرمن أمراً لا مفر منه. وبينما كانت قدرة أرمينيا على الصمود تتآكل، بدا أن علييف قد أعد للحرب، بمساعدة أردوغان، عدتها اللازمة. وأخذت روسيا على حين غرة بالحرب. فوجئت بالمرتزقة السوريين وبالمسيرات التركية والإسرائيلية تدك حصون ناغورنو قره باخ وترسم معالم سياسية جديدة في القوقاز. كانت روسيا تتحسب لجورجيا، فأتتها المفاجأة من أذربيجان. ومن ناحية سياسية – عسكرية لا يمكن موسكو أن تتحمل شوكة في خاصرتها الجنوبية، بينما حلف شمال الأطلسي يطبق عليها من بولونيا ودول البلطيق.
كانت روسيا تتحسب لجورجيا، فأتتها المفاجأة من أذربيجان. ومن ناحية سياسية-عسكرية لا يمكن موسكو أن تتحمل شوكة في خاصرتها الجنوبية، بينما حلف شمال الأطلسي يطبق عليها من بولونيا ودول البلطيق
في الشكل، يسعى أردوغان إلى الظهور بمظهر المنتصر، لكنه مضطر ليبلع كبرياءه لأن اتفاق وقف النار لا يحمل التوقيع التركي. هنا اختلف الأمر عن سوريا. ومع أن المسؤولين الأتراك يسوّقون لمسألة مشاركتهم في قوات حفظ السلام التي ستشرف على وقف إطلاق النار، فإن الكرملين كان حريصاً على الإيضاح أكثر من مرة أن القوات الروسية وحدها هي المناط بها التمركز في قره باخ، وأن موسكو منفتحة على اتفاق منفصل مع تركيا لإقامة نقطة مراقبة مشتركة في الأراضي الأذرية وليس في قره باخ.
بذلك، أراد الكرملين قطع الطريق على تركيا. مناطق “خفض التصعيد” في سوريا لا يمكن أن تطبق في القوقاز. لم يخفِ أردوغان رغبته في معرض التعليق على اتفاق وقف النار في قره باخ، في أن يتوصل مع بوتين إلى اتفاق مماثل في سوريا. أي أن يتعدى التعاون الميداني القائم بين الجيشين الروسي والتركي لمراقبة مناطق “خفض التصعيد” في سوريا، إلى البحث السياسي في مستقبل سوريا. وما يلمح إليه أردوغان لا يحتاج إلى منجمين لتفسيره.
وبالطبع كان أردوغان يمني النفس بوضع توقيعه إلى جانب توقيع بوتين وعلييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، كي يصبح جزءاً من عملية صنع السلام في منطقة يعتبر الرئيس التركي أن الدعم الذي قدمه لأذربيجان، كان العامل الحاسم في تثبيت موازين القوى الجديدة وأتاح لباكو استرجاع جزء مهم من أراضيها.
حتى الآن، نجحت موسكو في منع نيران القوقاز من التمدد ومن التحول حرباً أوسع تضعها أمام خيارات أصعب بكثير
لكن الهزيمة كانت ستكون أثقل بكثير على أرمينيا لو قبل بأن ينضم أردوغان إلى اتفاق وقف النار، لأن مثل هذا الأمر ينطوي على رمزية لا يمكن أي زعيم أرميني أن يتجرع مرارتها، وتعادل خسارة أكبر بكثير من خسارة الأراضي في قره باخ. وروسيا المدركة للحساسية التاريخية للعلاقة بين أرمينيا وتركيا، تجنبت دعوة أردوغان إلى التوقيع على الاتفاق، وحرصت على أن تأخذ هي على عاتقها مهمة الإشراف على وقف النار، التي هي في الواقع لا تعدو كونها حماية الجزء المتبقي من الأرمن في الإقليم.
وفي محاولة استدراك النتائج والخروج بمكسب معين، طرح أردوغان، اتفاقاً مشابهاً لتقاسم النفوذ في سوريا، يكون بديلاً من تفاهمات “خفض التصعيد”. لكن الاقتراح التركي وقع على آذانٍ صماء في روسيا. وأقصى ما يمكن منحه من تعويض شرفي لأنقرة هو إشراكها في موقع مراقبة لوقف النار من الأراضي الأذرية، خصوصاً أن تجربة روسيا مع نقاط المراقبة التركية، ليست بالتجربة الناجحة، والنفوذ الذي تتمتع به “هيئة تحرير الشام” تحت مرأى الجيش التركي ومسمعه في إدلب السورية شاهد على ذلك.
حتى الآن، نجحت موسكو في منع نيران القوقاز من التمدد ومن التحول حرباً أوسع تضعها أمام خيارات أصعب بكثير.