يروي رونين بيرغمان ان الظهور الاول لبوادر الثورة الفلسطينية كان مع الفتى الفلسطيني خليل الوزير (من مواليد الرملة جنوب شرق تل ابيب عام 1935، وقد هجر مع عائلته الى قطاع غزة في العام 1948 حيث عاش في مخيم للاجئين). تولى هذا الشاب، وهو في سن الثامنة عشرة، قيادة اكثر من مائتي مقاتل فلسطيني في عمليات روّعت المستوطنين اليهود. ويضيف ان القيادة المصرية عززت قدرات خليل الوزير برفده بالشباب الفلسطيني المقيم في مصر وكان من بين هؤلاء شاب يدعى محمد ياسر عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوة الحسيني الذي كان يعرف باسم “ياسر عرفات” وباسمه الحركي “ابو عمار”.
يشير الكاتب إلى تضارب المصادر حول مكان ولادة عرفات، فيقول البعض منها انه ولد في العام 1929 في مدينة القدس، فيما تقول مصادر اخرى انه ولد في القاهرة او في قطاع غزة، ولكن بمعزل عن مكان الولادة فقد كان عرفات سليل عائلة فلسطينية عريقة اذ ارتبط اسمه باسمي القائدين الفلسطينيين الشهيرين المفتي الحاج امين الحسيني وقائد القوات الفلسطينية في حرب العام 1948 عبد القادر الحسيني.
يقول بيرغمان ان اجهزة الاستخبارات استخفت بهذين القائدين (عرفات والوزير) وبحركتهما في قطاع غزة، كما في الشتات، وكان اهتمامها منصبا على مواجهة عبد الناصر وملاحقة العلماء الالمان في مصر اذ ينقل عن احد قادة جهاز “امان” قوله “لم يكن لدى عرفات والوزير قوة معتبرة تشكل خطرا استراتيجيا بل اقصى ما يمكن اعتباره هو انهما مع ما امتلكاه من قوة شكلوا خطرا تكتيا انتهى مع النصر الذي حققته اسرائيل في حرب العام 1956 عندما اجتاحت قطاع غزة”، والتي كان من نتيجتها ان مصر اوقفت كل عمليات الفدائيين التي كانت تنطلق من غزة. غير ان ياسر عرفات وخليل الوزير اعتبرا ان معركة التحرير لا بد ان تكون على ايدي حركة مسلحة مستقلة عن اي نظام وبالتالي لا بد من انشاء هكذا حركة.
اولى العمليات “الارهابية” التي شنتها حركة “فتح” كانت في اول كانون الثاني/يناير عام 1965 وقد استهدفت تفجير خزان المياه الرئيسي وقناة المياه التي تزود جنوب البلاد بالماء من بحيرة طبريا (يسميها الكاتب بحر الجليل) في الشمال
بعد سنوات من التنقل من بلد عربي الى اخر، استقر عرفات والوزير عام 1959 في الكويت وعملا الى جانب ثلاثة قادة اخرين، على مدى سنتين، على صياغة اطار تنظيمي وعملياتي، وذلك بسرية تامة لعدم مواجهة اي اعتراض رسمي عربي. وهكذا في العاشر من اكتوبر/تشرين الاول عام 1959 انشئت رسميا حركة التحرير الفلسطيني (اختصارها حتف) ولكن نظرا الى ان هذا الاختصار يعني باللغة العربية الموت السريع فقد اقترح خليل الوزير الذي بات يعرف بـ”ابو جهاد” ان تعدل التسمية لتصبح “فتح” اي “النصر العظيم”.
وبعد أن يعرض بيرغمان إلى بعض ما نص عليه اعلان حركة “فتح”، الذي اصبح لاحقا دستورا للفلسطينيين، وبينها إعتبار الصهيونية “اداة للامبريالية العالمية”، يقدم سرديته لتاريخ الثورة الفلسطينية بالقول ان اولى العمليات “الارهابية” التي شنتها حركة “فتح” كانت في اول كانون الثاني/يناير عام 1965 وقد استهدفت تفجير خزان المياه الرئيسي وقناة المياه التي تزود جنوب البلاد بالماء من بحيرة طبريا (يسميها الكاتب بحر الجليل) في الشمال. ويقول الكاتب ان هذه العملية حملت بعدا رمزيا كبيرا اكثر من نتائجها العسكرية التي لم تكن ذات اهمية. فقد كانت القوة المكلفة بتنفيذ العملية مؤلفة من ثلاث مجموعات، تم اعتقال المجموعة الاولى في غزة قبل اسبوع من التنفيذ فيما اعتقلت المجموعة الثانية في لبنان قبل ايام قليلة من العملية التي اقتصر تنفيذها على المجموعة الثالثة القادمة من الاردن والتي تمكنت من تفجير عبوة ناسفة في منطقة الخزان الرئيسي للمياه من دون ان تتسبب باية اضرار تذكر، ويضيف الكاتب “على الرغم من هذا الفشل الصارخ للعملية فقد ترددت اصداؤها في كل ارجاء العالم العربي على انه بات هناك قوة فلسطينية منظمة اخذت على عاتقها محاربة اسرائيل”، ومع ذلك ـ يضيف الكاتب ـ ان اجهزة الاستخبارات اخذت علما بالامر ولكنها لم تفعل شيئا.
الى جانب الاعلان الرسمي لقيام حركة “فتح” والعملية الاولى لها، كان هناك ضابط في “الموساد” اسمه “يوري اسرائيل” يعمل في الاستخبارات تحت اسم “لدية” وبصفة رجل اعمال فلسطيني، ويقول بيرغمان إن “لدية” انشأ علاقات وطيدة مع الفلسطينيين، ومن بين هؤلاء هاني الحسن الذي كان يترأس منظمة الطلبة الفلسطينيين في المانيا الغربية والذي كان اخوه خالد الحسن احد القادة الخمسة الذين انشأوا حركة “فتح”.
استمع “ايتان” لاحاديث القادة الفلسطينيين عبر اجهزة التنصت ورأى فيها حركة ذات افاق جدية ولديها قائد خطير وذو كاريزما عالية هو ياسر عرفات
كان الحسن يواجه مشاكل مالية، فتقدم “لدية” لمساعدته وعرض عليه ان يدفع عنه ايجار الشقة التي كان يستأجرها في شارع بيتهوفن 42 في فرانكفورت، وكانت تستخدم مقراً رئيسياً لمنظمة الطلبة الفلسطينيين وكان قادة “فتح” يجتمعون فيها من وقت لاخر. وفي يناير/كانون الثاني، تمكنت عناصر من وحدة “كولوسيوس” التابعة “للموساد” من زرع اجهزة تنصت في الشقة. وعلى مدى ثمانية اشهر استمع عناصر الوحدة الى قادة “فتح” وهم يتحدثون “عن خططهم لمسح اسرائيل عن الخريطة”، بحسب اقوال مسجلة لابو جهاد (خليل الوزير).
في تلك الاثناء، حل “رافي ايتان” مسؤولا لعمليات “الموساد” في اوروبا وهو كان ضابطاً في الجيش نفذت وحدته عملية ابعاد عائلة “ابو جهاد” من منزلها في مدينة الرملة خلال حرب العام 1948. بصفته الاستخبارية في ذلك الحين، استمع “ايتان” لاحاديث القادة الفلسطينيين عبر اجهزة التنصت ورأى فيها حركة ذات افاق جدية ولديها قائد خطير وذو كاريزما عالية هو ياسر عرفات، كما سمع في الاحاديث ان الطلبة الفلسطينيين قالوا لعرفات ولابي جهاد ان هناك خمس عشرة منظمة فلسطينية في اوساطهم لا بد ان تتوحد تحت قيادة واحدة، لكن عرفات قال لهم ان لا ضرورة لذلك بل من المفيد ان يكون لكل منظمة ميليشيا وموازنة خاصتين بها وبذلك “سنضمن مواصلة النضال ضد الصهيونية حتى نرمي اليهود في البحر”.
ويضيف بيرغمان انه طوال العام 1965 صعدت حركة “فتح” عملياتها بزرع الالغام في الطرق وتخريب خطوط الانابيب واطلاق النار على مستوطنين مسلحين باسلحة خفيفة، وقد بلغ عدد العمليات في ذلك العام حوالي 39 عملية، مع العلم ان معظم هذه العمليات كان فاشلا غير انه أحدث صدى كبيرا وصل الى “رافي ايتان” في باريس الذي طلب من رئيس “الموساد” حينها “مائير اميت” ان يعطي امرا لوحدة “قيصرية” لاقتحام الشقة في شارع بيتهوفن في فرانكفورت واغتيال كل من فيها لكن “اميت” رفض الاقتراح واعتبر ان هذه المجموعة من الفلسطينيين هي عبارة عن مجموعة شباب يشكلون عصابة ليس لديها امكانيات حقيقية.
يقول بيرغمان انه مع تصاعد عمليات “فتح” بات واضحا ان ياسر عرفات وخليل الوزير اصبحا مشكلة يبدو حلها غير قريب. وهكذا فقد فرض هذا الواقع على عالم الاستخبارات ان يرد بطريقتين نموذجيتين بحسب قول نائب رئيس جهاز امان “اهارون ليفران”. هاتان الطريقتان هما “اولا انشاء قسم خاص للتعامل مع الموضوع وثانيا ضرب رأس الهرم”، بحسب قول “ليفران”. وهكذا فقد تم في اغسطس/اب عام 1965 انشاء لجنة سرية لدرس كيفية التعامل مع العمليات الفدائية للفلسطينيين، ضمت ثلاثة اعضاء هم الى جانب “ليفران”، نائب رئيس وحدة “قيصرية” “مايك هراري” وقائد الوحدة 504 في جهاز “امان” “شاموئيل غورين”. وتوصلت هذه اللجنة الى اصدار قرار باغتيال ابو عمار وابو جهاد ولكن نظرا للفشل الذي منيت به وحدة قيصرية في العديد من عملياتها خلال تلك الفترة، فقد نصحت اللجنة باللجوء الى الرسائل المفخخة المرسلة الى قادة ومسؤولين في “فتح” في كل من سوريا ولبنان عبر استخدام المعلومات التي كان يزودها بها “لدية” وفريقه. وهكذا استقر الرأي على ارسال هذه الرسائل الى القادة على انها من اشخاص معروفين جيدا من قبلهم وقد اختيرت لتنفيذ هذه المهمة في بيروت امرأة اسمها “سيلفيا رافائيل” وهي امرأة من جنوب افريقيا تحمل جواز سفر بريطاني ومن اب يهودي وقد تدربت على ايدي “موتي كفير” لتصبح لاحقا اشهر عميلة ميدانية عملت ضمن وحدة “قيصرية”.
عملت المؤسسات الاستخبارية كل ما يمكنها لمنع ذكر اسم حركة “فتح” عند الكلام عن العمليات الفدائية وعند السؤال عن هوية منفذي العمليات كان الرد بكلمة “باها” وهي اختصار عبري لـ”نشاطات ارهابية معادية”
يقول بيرغمان إن “اميت” أبلغ رئيس الوزراء “ليفي اشكول” انه ستكون هناك عما قريب موجة كبيرة من الرسائل المتفجرة، ثلاث منها كانت لاهداف خاصة بـ”الموساد” و12 لاهداف خاصة بجهاز “امان” ولكن الاهداف الـ 15 هي لمسؤولين في حركة فتح في كل من الاردن ولبنان. يضيف الكاتب ان “اشكول” شكك بجدوى العملية، مذكرا “اميت” بفشل عمليات مماثلة في مصر وسوريا لكن “اميت” اكد ان العملية ستنجح هذه المرة لان كمية المتفجرات في الرسالة ستكون حوالي عشرين غراماً. غير ان مخاوف “اشكول” تحققت وفشلت العملية اذ ان عددا قليلا من مستلمي الرسائل اصيب بجروح بسيطة فيما جرى اكتشاف معظم الرسائل الاخرى وفككت قبل ان تتسبب باي اذى.
يضيف بيرغمان، في تلك الفترة كان ابو عمار وابو جهاد يقيمان في دمشق التي قدمت لحركة “فتح” منشآت تدريبية سورية، بينما كانت قدرات الاستخبارات “الاسرائيلية” هناك محدودة جداً، خاصة بعد انكشاف أمر عميلها ايلي كوهين واعدامه ما ادى الى اخلاء كل العملاء الاخرين، وهكذا تمكن الفلسطينيون من تنفيذ المزيد من العمليات ضد اهداف في “اسرائيل”، وعلى الرغم من ان عدد هذه العمليات لم يحقق رقما اعلى من الذي نفذ في العام 1965 اذ بقي بحدود الاربعين عملية ولكن النوعية اختلفت وباتت هذه العمليات تقترب اكثر الى الاهداف العسكرية، وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1966، قتل ثلاثة جنود في الجيش “الإسرائيلي”، عندما اصطدمت اليتهم بلغم ارضي، فكان أن ردت “اسرائيل” بعملية في قرية “صموا” جنوب مدينة الخليل التي كانت تحت الوصاية الاردنية، وذلك بتهديم بيوت الفلسطينيين في البلدة، ولكن صداما وقع بين القوة العسكرية “الاسرائيلية” المهاجمة والجيش الاردني ادى الى مقتل 16 جنديا اردنيا وجنديا اسرائيليا واحدا.
يقول بيرغمان إنه برغم الكر والفر، كان التوجه الاستخباري “الاسرائيلي” يقضي بـ”اخفاء المشكلة الفلسطينية الجديدة تحت السجادة”، فعملت المؤسسات الاستخبارية كل ما يمكنها لمنع ذكر اسم حركة “فتح” عند الكلام عن العمليات الفدائية وعند السؤال عن هوية منفذي العمليات كان الرد بكلمة “باها”، وهي اختصار عبري لـ”نشاطات ارهابية معادية”.
مع بدايات العام 1967، ازدادت وتيرة العمليات الفدائية وبلغ عددها حتى مايو/ايار حوالي المائة عملية عبر حدود سوريا ولبنان والاردن ومصر وقتل فيها 13 “اسرائيليا” بينهم اربعة جنود، ما ادى الى ارتفاع وتيرة التوتر على كل الحدود مع الدول المجاورة. وهكذا فقد اصدرت “اسرائيل” في 11 مايو/ايار انذارا لسوريا تقول فيه ان لم تسارع دمشق الى لجم عمليات حركة فتح فانها ستلجأ الى عمل عسكري واسع النطاق، وقد ادى هذا الانذار الى قيام قيادة عسكرية مشتركة لكل من مصر وسوريا والاردن واستنفار القوى العسكرية على جبهات هذه الدول.