عن قتل الدولة القاتلة.. و”صبية الحكم”!

"إيني ميني سيني.. تحت البساتينِ.. في ليمونة حامضة.. بتاكل وبطعميني.. توتوبا.. توتوبا.. بلّوطة"؛ هي إحدى العدّيات التي كنّا، صغاراً، نتوزّع بموجبها الأدوار للانطلاق باللعب. وحين يرسو آخر حرف من آخر كلمة من العدّية عند أحدنا، فهذا يعني أنّ الدور هو دوره لإطلاق اللعبة. "الغمّيضة"، "اللقّيطة"، "وقعت الحرب في.."، "أبطال وحراميّة"... وهكذا.

هكذا كنّا، أطفالاً، نُحكِّم العدّية بيننا لندير”اللعبة”. وهكذا يُحكِّمون، هم صِبْية الجمهوريّة اللبنانيّة، العدّية بينهم ليديروا “الدولة”. هكذا كنّا نلهو ونلعب. وهكذا يتلهّون اليوم ويلعبون. بكرامتنا. بمصائرنا. بحياة أولادنا. كنّا أولاداً. وأمسوا وحوشاً ضارية. صِبْية الحُكم. قَتَلة البلاد. زعران السياسة. أنذال المصارف. عذراً لتكرار الهجاء، أسبوعاً تلو أسبوع، يا أصدقاء. إنّما هجاؤهم بات جرعة المسكّن الوحيد لوجعي.

كنّا نتناقش، زملاء لي وأنا، في حال البلد. قلتُ لهم إنّ لديّ شعوراً لم أشعر به قبل اليوم. هو شعور اللاشعور، في الحقيقة. شعور مَن يحاول الوقوف مع انعدام الجاذبيّة. كأنّني أعيش في طبقةٍ جويّة معزولة عمّا فوقها وعمّا تحتها. تماماً، مثلما يحدث معنا في الأحلام. ها أنا أرى نفسي صغيرةً أمشي على طريق مدرستي في القرية. فجأة، وفي منتصف الطريق، أتنبّه إلى أنّني أسير على الإسفلت حافية القدميْن. وخلال لحظاتٍ قليلة، لا أعرف ما إذا كانت تنتمي إلى “حالة النوم” أو “حالة الاستيقاظ”، أدخل في معترك التفكير “يا ترى هل ما زلتُ أحلم أم إنّني استيقظت؟ وهل ما أراه هو الواقع والحقيقة أم خيال؟”.

حلم آخر يتكرّر. ها أنا أصل إلى الصفّ، ويكون رفاقي قد باشروا الامتحانات. فأستفيق بهلع على بكائي. هذا ما يحدث معي في هذه الأيّام. أبكي على “طير الطاير”، كما نقول بلغتنا العاميّة.

فكأنّني في جنازةٍ مستمرّة. لا أنفكّ أشيّع هذا الوطن وأهله. أهلي. يا إلهي.. لا يمكن لنا أن نكون ما زلنا أحياء، ويحدث لنا ما يحدث من ويلات. هذا حلم. بل، قلْ إنّه الكابوس بذاته. وحلقاته التي لا تنتهي مثل مسلسل مكسيكي، تضرب على أعصابنا. أنظر فلا أرى. أُنصِت فلا أسمع. كلا. لا يمكن أن نكون ما زلنا على قيد الحياة. ربّما نحن في العالم الآخر، ولم نوقن ذلك بعد. لا يمكن أن يكون الإنسان حيّاً، والكلّ يقول له إنّنا بتنا في القعر. لقد وقعنا في الهاوية! أين؟ في الجحيم. ها نحن نتدحرج من طبقةٍ إلى أخرى في ذاك الجحيم. هل هذا ما يسمّونه “جهنّم الحمراء”؟ أين نحن يا عالم؟ نصرخ، ويتردّد صدى صراخنا بينما نحن نهوي ونهوي ونهوي… قبل أن نلامس القعر. هل من أحدٍ ينقذنااااااا؟!

يا لهذا الصمت المدوّي! إذا كنّا قد وصلنا إلى الجحيم الذي تكلّم عنه مرّةً السيد رئيس البلاد (هل تذكرون؟)، فمعنى ذلك أنّ كلّ شيءٍ انتهى. بحسب دانتي أعظم شعراء إيطاليا (في القرن الرابع عشر)، علينا، كي نستحقّ الاستقرار في الجحيم أن نجتاز تسع طبقات قبل أن نرتطم الارتطام الكبير (الذي يبشّروننا به)! دانتي قسّم الجحيم إلى تسعة أقسام، سمّاها دوائر الجحيم. وكلّ دائرة، تفرض عذاباً يناسب الخطيئة المرتكَبة (الحدّ، الشهوة، الشره، الجشع، الغضب، الهرطقة، العنف، الغش، الخيانة). وككلّ المتفوّقين قفزنا من صفٍّ إلى صفّ. دفعونا دفعاً، بالأحرى، للترقّي الجحيمي. أُولي أمرنا، في الوطن المحتلّ، قذفونا، وبتسديدةٍ واحدة، إلى الدائرة الثامنة. لماذا الثامنة؟

لأنّ هذه الدائرة مخصّصة لهم. بحيث، يقبع فيها كلّ مَن أخذ الغشّ والخداع أسلوباً مقبولاً في الحياة. لماذا “مقبولاً”؟ لأنّ مَن مورس عليه ذلك الغشّ وذاك الخداع تقبّلهما راضياً خانعاً. والكلام هنا يعنينا نحن، ويفسِّر لماذا وصلنا إلى الجحيم. وبعد، فإنّ هذه الدائرة الجحيميّة الثامنة مقسَّمة، بدورها، إلى عشرة جيوب تحوي كلاًّ من: القوّاد وكلّ مَن يقوم بالإغواء؛ المتملّقين؛ المرتشين؛ السَحَرة والمنجّمين؛ السياسيّين والمسؤولين الفاسدين؛ المنافقين؛ السارقين؛ المسؤولين الذين يسهِّلون فساد الآخرين؛ زارعي الشقاق؛ المزيّفين.

أنظر فلا أرى. أُنصِت فلا أسمع. كلا. لا يمكن أن نكون ما زلنا على قيد الحياة. ربّما نحن في العالم الآخر، ولم نوقن ذلك بعد. لا يمكن أن يكون الإنسان حيّاً، والكلّ يقول له إنّنا بتنا في القعر. لقد وقعنا في الهاوية!

يا إلهي! وكأنّ هذه الدائرة صُمِّمت خصّيصاً لحُكّامنا. هل يُعقَل أنّ مواصفاتهم مطابقة إلى هذا الحدّ؟ لكن يا للخسارة! لو أطال الله بعمر دانتي أليغييري سبعة قرون فقط (والله على كلّ شيءٍ قدير)، كان قد كحَّل عيونه برؤيتهم. لو حصل، أي لو تعرّف دانتي على حُكّام لبنان وسياسيّيه الأفذاذ، لكان أَدْخل في قصيدته الملحميّة “الكوميديا الإلهيّة” بعض التعديلات. فحُكّامنا استثناءٌ في عالم الحُكم والحُكّام. لقد حطموا الأرقام القياسيّة المعروفة والتي لم تُسجَّل بعد. أذهلوا البشر عندما عرضوا عليهم كيف يكون التدبّر والإدارة والعمل السياسي! نعم لعَمَري، وتسألون لماذا؟ إليكم التعليل:

أوّلاً، عندما ينزل الإنسان إلى الجحيم، تؤكّد العقائد الدينيّة، فمعنى ذلك أنّه مات وأعطانا عمره. لكنّ حُكّام لبنان، فعلوا معجزتهم الأولى. إذْ أدخلونا إلى الجحيم على أقدامنا. أي، ورغم زحف الموت إلينا، ما زلنا على قيد الحياة. بمعنى، اللبنانيّون موتى وأحياء، في الوقت عينه. لكنّهم عُراة من كلّ حماية. ومن كلّ أمل. لقد كسر قادتهم القاعدة التي تقول، أن لا حياة لولا فسحة الأمل. بلى. فها نحن، مقيمين ومهاجرين ومهجّرين في وطننا، نعيش، ومنذ زمنٍ طويل، من دون أمل. ومن دون أيّ مخطّطٍ أو مشروعٍ، حتّى، للمستقبل. وهذا المستقبل، على وجه التحديد، لا شأن لنا معه! لنا ماضٍ ولهم حاضرنا ومستقبلنا، ينكّلون بهما كما يرتؤون.

ثانياً، لم يعرف العالم أبداً، هذا الخواء الذي نتمتّع به، على كلّ مستويات الحُكم والإدارة. عرفت البشريّة حُكّاماً فاشلين وتافهين وأغبياء، لكن لم يروا حُكّاماً إنتاجهم الحصري هو البطالة. حُكّاماً عاطلين عن العمل. وعملهم ينحصر في تعطيل الحياة والمؤسّسات، والسهر على ألاّ يقوموا، هم أو غيرهم، بأيّ نشاطٍ يُذكَر. طبعاً، قدرة التعطيل موهبة ربّانيّة لا تتوفّر لأيٍّ كان بسهولة. وهذه الموهبة تقضي، كذلك، بمقدرةٍ استثنائيّة على نحر الوقت وقتله من دون ألم، في كلّ زمانٍ ومكان. وقتل الوقت، بطبيعة الحال، موهبة لكنّه، أيضاً، جريمة. هو إحدى الجرائم التي تكون على شاكلة الانتحار البطيء. يرتكبها حُكّامنا على مرأى و مسمع من الناس، إنّما تبقى كسائر جرائمهم، من دون بصمات أو عقاب!

هل شُتِم نظام وحُكم وسلطة وسياسيّون مثلما حصل لنظامنا وحُكمنا وسلطتنا وسياسيّينا؟ شتائم محلّية وأخرى عالميّة، بالجُملة والمفرّق. إذلال وتقريع وتوبيخ وإهانات وامتهان للكرامات. هل مَن يسمع؟ كلا. هل مَن يخجل؟ ألف كلا

ثالثاً، لم يسمع الناس، على الأرجح، إلاّ في لبنان، عن سلطةٍ تعيش من دون شُرعة أخلاقيّاتٍ للحكم. عن سلطة مجرّدة، بالكامل، من كلّ كرامة وعزّة وعنفوان وتبقى صامدة في مكانها! هل شُتِم نظام وحُكم وسلطة وسياسيّون مثلما حصل لنظامنا وحُكمنا وسلطتنا وسياسيّينا؟ شتائم محلّية وأخرى عالميّة، بالجُملة والمفرّق. إذلال وتقريع وتوبيخ وإهانات وامتهان للكرامات. هل مَن يسمع؟ كلا. هل مَن يخجل؟ ألف كلا. فكلّ هذا الضجيج لا يعنيهم. وإذا حصل وسمعوا، كلمة واحدة تخرج من أفواههم الكريهة: إنّها المؤامرة علينا يا أيّها الشعب الغفور. كلّ هذا الإجماع العربي والأوروبي والأميركي حول دور حُكّامنا المركزي في إيصال البلد إلى الموت الحتمي، يُصنّف على أنّه مؤامرة صهيونيّة. ولكن، كيف يتصدّون لهذه المؤامرة؟ باجتراح معادلتهم الفظيعة التي لا ترى في السياسة “فنّ الممكن”، بل “فنّ اللامبالاة”!

إقرأ على موقع 180  "المارونية السياسية": أسطورة التأسيس وفرادة لبنان عربياً (2)

رابعاً، لم يحدث في التاريخ الحديث، أن عرفت بقعةٌ في العالم (حتّى تلك الواقعة في أكثر جمهوريّات الموز تخلّفاً) حالة التساكن التي تُعاش في لبنان. يعيش القاتل مع القتيل. والمجرم مع ضحيّته! فقط في بلاد أرز الربّ، يروح القَتَلة والمجرمون والقتلى والضحايا ويجيئون، تحت سقفٍ واحد. لا بل أهمّ من هذا وذاك. لا يزال القَتَلة قَتَلة، ولا ينفكّون أسياداً أحراراً يسودون ويحكمون ويتحكّمون بعبيدهم. قَتَلة يسرحون ويمرحون ويعدّون عدّية “إيني ميني سيني..”، ليعرفوا مَن سيتولّى إطلاق موجة القتل الجديدة وبأيّ أسلوب؟ وللأمانة، لقد برع حُكّام لبنان في استخدام أنواع قتلٍ لا تريق قطرة دمٍ واحدة! هل تعرفون قَتَلة بهذه “النظافة” في سجّلات جرائمهم؟ كلا، بالتأكيد.

خامساً، لم يستطع حاكمٌ في العالم، إلاّ إذا كان من النموذج اللبناني للحُكّام، أن يجعل ضحاياه قابلين به ومتقبّلين له ومتفهّمين لحاله. وأكثر. ضحايا يعرفون، مسبقاً، مخطّطات الحُكّام لإزهاق أرواحهم. لكنّهم  لا يفعلون شيئاً لوقفها. لا يفعلون شيئاً لإيقافهم. بلى. يفعلون شيئاً واحداً. يشكون ويتذمّرون ويهاجمونهم بالكلام أمام كاميرات التلفزة. والهجوم الكلامي لا يعني، إطلاقاً، القبول أو النيّة بإزالتهم من الصورة. إذْ ينبغي “ألاّ نبحث عن حقيقة الناس في ما يقولونه، بل في ما يفعلونه حقاً”، كما يقول الفيلسوف الألماني فريدريك إنجلز. عجباً. وحدهم ضحايا حُكّام لبنان، من بين جميع الضحايا، يعشقون جلاّديهم. بل يطلبون المزيد من القهر والإذلال. هناك شيء من المازوشيّة يا ناس!

سادساً، حُكّامنا، كما يقول ابن خلدون، “يقلبون توجسهم وغيرتهم من الشعب إلى خوفٍ على ملكهم، فيأخذهم بالقتل والإهانة”. لذا، نراهم يقترفون شتّى أنواع المخالفات والجُنح والجنايات، لكنّهم يبقون من دون محاكمة ولا مساءلة حتّى! لماذا؟ لأنّهم يعتبرون قتل الناس وامتهانهم حقاً لهم عليهم. حقّ السيّد على عبده. فلا تتساءلون مثلاً، لماذا لا يخاف هؤلاء الأسياد من كلّ التوقّعات التي تسري بين اللبنانيّين عن نوايا مبيّتة لهم (للحُكّام) لتفجير الوضع الأمني من خلال شوارعهم الطائفيّة، متى شعروا بالخناق يضيق عليهم؟ منذ متى لا يخاف القاتل من فضح نواياه الإجراميّة؟ عندما نراه يسعى، وبشكلٍ حثيث، إلى دفن العدالة. كيف؟ من خلال نشاطه في جعل الطوائف تتغوّل على حساب الدولة. فلقد حوّل قوّاد السلطة قادة الطوائف اللبنانيّة، وبتفوّقٍ يستحقّ الثناء، إلى مرتكبين وخارجين على القانون. لا يتمخّض عقلهم المريض بالعصبيّة والتعصّب، إلاّ ليغطّي موبقات وجرائم زعماء الطوائف (كلٌّ على حدة)، تحت شعار “حماية الطائفة من الأنجاس المناكيد” (في الطوائف الأخرى). حُكّام لبنان حوّلوا نزعة القتل والإجرام إلى حقٍّ طائفي مكتسب، يتوارثونه أبّاً عن جدّ. أي ساسة لبنان وقادته (ولا سيّما الستّة الكبار)، يُجرمون داخل حدود الوطن وخارجه، وفق قاعدة الـ 6 و6 مكرّر. بكلامٍ أوضح، ممنوع أن يُرمى المجرم الماروني بوردة، إلاّ إذا نُثِرت باقي ورود الباقة على المجرمين السنّي والشيعي والدرزي والأرثوذكسي والكاثوليكي والأرمني والأشوري والكلداني والسرياني..إلخ. وإذا لم يكن هناك جريمة موصوفة فيجب اجتراح واحدةٍ، بأيّ ثمن! إنّه الدخول المتكرّر في الحلقة الجحيميّة. وبعد، هل سنستفيق من هذا الكابوس؟

الأمل الوحيد، في الوقت الراهن، هو رؤيتهم يأكلون بعضهم بعضاً. وقد بدأت نُذُر تهاوش الضباع على بعضها البعض. فالنزاع العنيف اندلع حول “الصَيْدة”. والمضحك المبكي أنّ شعار “كلّن يعني كلّن” بات شعارهم. فها هم يصيحون “كلّنا يعني كلّنا”. وقد بدأ الانتقام بعد الغرام، عندما بلغ غضب أحد صِبْية الجمهوريّة المدلّلين الزبى. فلدى هذا الصبي هوس خبيث من النوع الذي يمكن أن يصيب الدماغ، ويجعل المرء معتوهاً تماماً! المهمّ أنّ صبي الجمهوريّة المهووس، قرّر أن يقلب الطاولة على كلّ رفاقه. نظر بحنق الطفل المعجزة وقال “سترون ما أستطيع فعله”. وبدأت لعلعلة ملفّات الفساد، بإطلاقها عشوائيّاً. وقابلها قصفٌ مركَّز بالتصريحات الفضائحيّة. صار حال أركان الطبقة السياسيّة الحاكمة شبيهاً بحال المافيات والعصابات التي تعيش آخر أيّامها. فعندما تتنقّل عمليّة شدّ الخناق بين أركانها، تبدأ حرب التصفيات. وكلّ طرفٍ يعتقد أنّه إذا صفّى وأنهى خصومه، فسيكون قادراً عندئذٍ على النفاذ بجلده! لا يعرف المسكين أنّها النهاية. نهايته ونهايتهم.

وفي الحديث عن النهايات، كلمة أخيرة. كتب الشاعر والصحافي اللبناني الراحل أنسي الحاج يوماً يقول (وكأنّه كان يعلّق على ما نعيشه اليوم): “هذه نهايات عصور. فلنتفاءل بها كممرّاتٍ إلى بدايات. بعض النهايات كان يجب أن تحصل، أيّاً تكن عواقبها. فهناك أزمان، يشكّل مجرّد استمرارها اعتداءً على الحياة، وتورّماً في التاريخ. فلنتفاءل بالنهايات”. إقتضى التفاؤل، إذاً، لكن بعد استئصال التورّم الخبيث من تاريخنا.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الهوية الوطنية اللبنانية ممكنة أم مستحيلة؟