لا يُمكن لفكر سياسي أو ديني أن ينوجد في فضاءاته المنفتحة والواسعة من دون حرية مشتعلة في ذات الفرد تتطاير شظاياها لترسم حدود اشتباكاتها مع الحرية العامة، التي كلما كانت حرية الفرد الداخلية نشطة وأصيلة كلما تدرجت نحو الرقي والتحضر.
وكم من نظام سياسي وأحزاب استبدادية وشمولية وديكاتورية – وما أكثرها في العالم المعاصر – وبوجه خاص في عالمنا العربي والإسلامي يخشى الحرية التي تتحول إلى نقد بنَّاء وتغييري يحقّق به الناس مصالحهم ووجودَهم الاجتماعيّ عن طريق السّياسة.
الفرض والطاعة والإسقاط والإذعان والتقديس والشخصنة كلها مفردات نشطة في شرقنا وهي معادية لحرية ذاتية أرادها الله مساوقة للمطلق، متحررة من قيود التخلف، منسجمة مع وعي وصحوة، مواجهة لغفلة قاتلة، فعندما منحها الله للمحدود “الإنسان” كهبة أراد له أن ينزع عنه كل قيد وملوثات في الشعور والموقف والحركة بما يؤكد روح الوجود ذاته.
لذا فإن السياسة فن تنظيم الذات والجماعة من أجل التحرر من الداخل في فعل تصاعدي يرفد الخارج بكل أشكال الخير والبناء والعدالة وإلا كانت السياسة مجرد أداة لتنفيذ مشاريع تبطن كل أنانية ومصلحة آنية وظرفية تقتل هذه الهبة المهداة.
ما نبغي، التّشديدَ عليه هو أنّ السّياسة المنبثقة عن حرية واعية مساوقة للغة الوجود تكتسب معناها على التّحقيق – بوصفها وسيلة لتدبير المصالح وتنظيم الشّؤون العامّة من إقتصادية وسياسية وإجتماعية وثقافية – كلّما تلازمت مع الحريّة الفردية التي تعي أهمية المجموع والحفاظ على بنيته فتعطيه منها مقابل أن يعطيها فضاء تغتني به فلا يخنقها.
ما يجري اليوم من أحداث يجعلنا أمام لحظة حاسمة في وعي المجتمعات حتى تنتفض على قصورها وتقصيرها وتقوم أحزابها ومن يدعي تمثيلها لإعادة قراءة واقع الحال والعمل على تصحيح مسيرة الحياة ما أمكن وفي الحدود الدنيا وتأسيس نواة تغيير تبعث على الأمل بغد أفضل
الحريّة إذن، ظاهرة سياسيّة، في بعض تمظهراتها، كونها منتوج سياسيّ وإنساني لها صعود وهبوط في فضاء الحريّة وميدانها التّداوليّ في الخاص والمجال العامّ؛ مجال علاقات السّياسة وعلاقات التّبادل الاجتماعيّ، أي الدّولة ومؤسّساتها المختلفة فهل وُجد في شرقنا هكذا نمط جدلي حر منتج بين الحرية والسياسة على مستوى بناء الدولة المنتجة؟ أم أن الحس القبلي والعشائري والعائلي والتعصب المذهبي يضبط ما يسمى بحرية مصطنعة واهية تنزاح عن واقعنا عند أول تجربة؟
للأسف يتحكم الحس الطائفي والمذهبي بسلوكياتنا كأفراد وجماعات وانتمائنا الوطني نراه من خلال انتمائنا الطائفي أو وفق ما يسير عليه القطيع الطائفي وتبقى دولة الحريات خاضعة لرهانات أصحاب مزارع الطوائف والناطقين باسمها وكلٌّ يدعي الحرية والسيادة وأنه صاحب مشروع ينعش دولة سلبتها الطوائف روحها.
باعتقادي قد يجوز الحديث عن حريّةِ الفرد المنضبطة الواعية – وهنا أركز على الوعي – باعتبار الفرد يعي قبلاً ما تتركه حريته من أثر طيب لا بد وأن يغرسه في قلب العلاقات الاجتماعية في فضائها الواسع فلا ينزع نحو الانفصال والاستقلال في فضاءات مغلقة، بل هو كائن حر ضمن شبكة علاقات عامة اجتماعية وسياسية لا بد وأن يشارك فيها في عملية تبادلية عمادها الوعي والحفاظ على مكتسبات تنجزها كل آن، إذ لا يمكن لهذه الحرية أن تخضع للاهوتية جامدة فهي عصية على التفسير والتحليل كونها مفردة من صنع الله لم يردها أن تلبس لباس ألفاظ البشر وتصوراتهم المنحرفة، بل هي صوت الله الدائم فينا ينبجس من روح الإنسان نفسه كل لحظة في ثوب جديد.
على مستوى الأحزاب والحركات، ما يلفت الإنتباه هو الإرتباط الإنفعالي الضيّق الذي سرعان ما يذوب على نار العصبيات والتعصب والتعلق بأشخاص على حساب الفكر والنهج، فكانت هذه الأحزاب حية شكلاً وميتة روحاً؛ أي جسد بلا روح وأبدان بلا عقول، فيما المطلوب والضروري هو ليس إقامة مؤتمرات داخلية شكلية بين الفترة والأخرى وإلقاء الخطب وتكرار المكرر، بل العمل جدياً وفق رؤية تجديدية تصحيحية لبرنامج هذه الأحزاب والحركات بما يناسب المستجدات والطموحات والعمل على إبراز النخب الشبابية المنفتحة، وهذا ما لا يمكن أن يحصل في ظل بيئة مختنقة مذهبياً وطائفياً تغذي صغارها على خطاب خشبي وتعلُّق بالأشخاص والشعارات من دون ترشيد وتثقيف وتربية وطنية وتوعوية عامة سليمة تصنع جيلاً خلاقاً لا جيلاً مجرد أبواق تنفخ وقت الحاجة وتصفق عندما يطلب منها ذلك.
ترى ما هي نسبة الحرية الذاتية التي تعيد تشكيل صورتنا لأحزابنا وسياستنا العامة داخل كياناتنا المنفصلة؟ وهل من أدنى حرية لدى هكذا أحزاب في مراجعة خطابها وهيكليتها وأطرها؟ وهل لديها الشجاعة والقدرة على تجديد ممثليها وقياداتها التي ربما مرّ على بعضها عشرات السنوات؟ لكن كل هذه التساؤلات تنتفي حيويتها إذا ما نظرنا نظرة خاطفة إلى واقعنا حيث العادة الغالبة والتربية المنحرفة التي تخنق الحرية بدءاً من البيت إلى الشارع والمدرسة والجامعة وصولاً إلى ما يتلقاه الجيل الناشىء من خطابات ومحتويات إعلامية مستهلكة وما يتلقاه من معارف من خلال بيئته العائلية أو الحزبية الضيقة وغير ذلك بعيداً عن تنشئته على حب التثقف والتفكر والقراءة النوعية لمضمونات فكرية تغني شخصيته وتصنع منها إنساناً واعياً مؤثراً بإيجابية لا متأثراً بسلبية وحاملاً لعقد متنوعة.
نستعير في هذا المقام مقولة الفيلسوف الفرنسي إميل أوغوست شارتييه، المعروف بـ”آلان” (1868-1951) وهي: “أن تفكر: أن تقول لا”، بغض النظر عن تشعبات هذه الفلسفة لكنها قد تلتقي مع مقولة المفكر الإسلامي علي شريعتي: “التفكير على نمط واحد هو بمنزلة عدم التفكير”.
بما أن الحريّة، بهذا المعنى هي المجال الخاص الراسم لحدود العامّ؛ مجال علاقات التّبادل الاجتماعيّ السّياسيّ داخل أيّ مجتمع، لذلك هي تعبير عن حالات معيوشة من أجل بناء المجتمع والدّولة على أسس تبادلية نشطة ومنضبطة وواعية.
لقد تغيّرت المعايير الدولية والسياسات والأدوات الإعلامية والمؤثرات الثقافية والتوجيهية وكلها تحتاج إلى من يقرأها ويعي تحدياتها على مستوى تأثيراتها فلا يمكن لأحزاب وحركات اليوم في بلادننا أن تختار من رأسها العيش في جزيرة منعزلة فلا يعد هذا الأمر صالحاً.
نستعير في هذا المقام مقولة الفيلسوف الفرنسي إميل أوغوست شارتييه، المعروف بـ”آلان” (1868-1951) وهي: “أن تفكر: أن تقول لا”
ما يجري اليوم من أحداث يجعلنا أمام لحظة حاسمة في وعي المجتمعات حتى تنتفض على قصورها وتقصيرها وتقوم أحزابها ومن يدعي تمثيلها لإعادة قراءة واقع الحال والعمل على تصحيح مسيرة الحياة ما أمكن وفي الحدود الدنيا وتأسيس نواة تغيير تبعث على الأمل بغد أفضل.
قد يقول البعض إنه إذا كانت الحريّة الفرديّة محترمة أو حتّى مقدَّسة، في الدُّول الحديثة بحيث لا حقّ لأحدٍ أو سلطةٍ في التّدخُّل فيها وفي كلّ ما هو في حُكْمِ الخاصِّ والحميميّ عند الأفراد، فما ذلك بسبب أنّ هذه الحريّة الخاصّة بالفرد تفرض نفسَها على المجتمع والدّولة والقانون، بل لأنّ مَأْتى حُرمتها من المجتمع والدّولة والقانون؛ هذا الكلام ليس دقيقاً في المضمون والعمق حيث الحرية سابقة على الشكل السياسي والإجتماعي وعلى الحرية وتفرض نفسها باعتبار ماهيتها الأصيلة في النفس والمساوقة لزمن الله ولغته وبمقدار ما تكون الحرية دافعة نحو فعل وجودي وكوني حضاري بمقدار ما يكون شكل الحياة السياسية والإجتماعية رحباً ومنفتحاً.
لكن هيهات هيهات أنىَّ هذا في بلدان مزّقتها الأنانيات والأهواء، وتربّعت على عرشها العصبيات الدينية والسياسية وغذّتها الحسابات والتدخلات الإقليمية والدولية، التي تلاعبت بمصير البلاد والعباد، وداست على صنع الله وهبته، على حد وصف القديس أفراييم السرياني.