العنوان الأبرز للمبادرة الفرنسية هو تشكيل “حكومة مهمة”. هذه ليست غاية بحد ذاتها. إنها وسيلة لتنفيذ المطالب الإصلاحية الأساسية (البرنامج) للمبادرة، أي الإصلاحات التي من شأنها إنتقال لبنان إلى القرن الحادي والعشرين.
المبادرة الفرنسية هي الآتي بإختصار:
١. ما سمعه المسؤولون اللبنانيون من المجتمع الدولي المعني بالوضع اللبناني، إبتداءً من مؤتمر باريس واحد (2002)، ولغاية مؤتمر سيدر (2018)، مرورا بمؤتمري باريس الثاني (2004) والثالث (2007). والجدير بالذكر، أن الرئيس الراحل رفيق الحريري ترأس وفد لبنان الى مؤتمري باريس الأول والثاني، والرئيس فؤاد السنيورة إلى باريس الثالث، والرئيس سعد الحريري إلى مؤتمر سيدر.
٢. ما تضمنته تقارير صندوق النقد الدولي السنوية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، وخاصة بعد أن قرر لبنان تثبيت سعر عملته بالنسبة إلى الدولار، ورفع سعر الفائدة مقارنة بسعرها الدولي، وبدء الإستدانة بالعملة الصعبة.
٣. ما أوردته تقارير البنك الدولي الملحقة بكل المشاريع الإنمائية التي حضّرها وموّلها منذ العام ١٩٩٣، من نصائح لإصلاح القطاعات الإقتصادية المختلفة.
٤. ما بلغ مسامع العديد من المسؤولين اللبنانيين من صندوق النقد العربي وصناديق التنمية العربية ومنها الصندوق العربي، والصناديق الكويتي، السعودي، الإماراتي، والبنك الإسلامي، الذين ساهموا في دراسة وتمويل مشاريع كثيرة منذ بداية التسعينيات حتى الأمس القريب.
٥. ما ردّدته المؤسسات المالية والإنمائية الأوروبية التي دعمت لبنان خلال ثلاثة عقود ومنها البنك الأوروبي للإستثمار والبنك الأوروبي للإنشاء والتنمية ومؤسسات التنمية التابعة لدول أوروبا الغربية، ومنها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا.
٦. ما ورد في ورقة الإصلاحات التي صاغتها حكومة سعد الحريري الثانية في عهد الرئيس ميشال عون، غداة إندلاع ثورة ١٧ تشرين الأول/اكتوبر ٢٠١٩، وقبل استقالة رئيسها.
إنهاء ظاهرة مجالس الهدر والتنفيعات ومنها مجلس الإنماء والإعمار، والهيئة العليا للاغاثة، ومجلس الجنوب والصندوق المركزي للمهجرين
باختصار، ما تضمنته المبادرة الفرنسية ـ وكنت قد تناولته مراراً في مقالات نشرها موقع “180 بوست” ـ ردّده أيضا لبنانيون كثر في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة ومواقع التواصل الإجتماعي، ويشمل الإصلاحات التالية:
أولاً، من خلال التعاون مع صندوق النقد الدولي:
- إصلاح السياسة النقدية: تعويم تدريجي للعملة الوطنية ووضع سعر فائدة متناسب مع السعر الدولي.
- إجراء تدقيق نزيه لحسابات البنك المركزي لتجنيب لبنان أزمات مستقبلية مماثلة.
- التقيد بموازنة سنوية تقر حسب القوانين المرعية الإجراء.
- إصلاح القطاع المصرفي.
- إجراءات مؤقتة لتحويل الرساميل أو “الكابيتال كونترول”.
ثانياً، من خلال التعاون مع البنك الدولي:
-إصلاح قطاعات الكهرباء والاتصالات (سرعة وسعر الانترنت ينعكسان زيادة في الإستثمار والتوظيف) والمواصلات والصحة والتربية والمياه والبيئة ولا سيما قطاع النفايات حيث كلفة معالجة الطن الواحد هي الأعلى بين الدول، ومساعدة الطبقة الفقيرة في ظل إرتفاع عددها بإستمرار وإنحدار أوضاعها بصورة متسارعة. كذلك يجب أن تشمل الإصلاحات إنهاء ظاهرة مجالس الهدر والتنفيعات ومنها مجلس الإنماء والإعمار، والهيئة العليا للاغاثة، ومجلس الجنوب والصندوق المركزي للمهجرين.
ثالثاً، من خلال قرارات محلية:
– نشر مبدأ الحوكمة والشفافية في كل إدارات الدولة والتشديد على مكافحة الفساد والتهريب من وإلى لبنان.
– تقوية وحدة المناقصات المركزية وإلزامية مرور كل عمليات الشراء العام (إحتياجات الوزارات والمؤسسات الرسمية ودوائر الدولة) بإشراف ومتابعة هذه الوحدة.
لا بد من عملية إصلاحية ولو كانت قيصرية حتى تأتي نتائجها سريعة. الوقت لم يعد لصالحنا وكل يوم تأخير، هو مزيد من نزيف ما تبقى من إحتياطي العملة الصعبة في مصرف لبنان
كان بالإمكان البدء بالإصلاحات المطلوبة بعد مؤتمرات باريس الثلاثة الأولى، لكن الإلتزامات المالية ومعظمها ديون، كانت غير مشروطة ببدء الإصلاح. كانت مقررات هذه المؤتمرات تكتفي بالحث على الإصلاح، لكن، في مؤتمر سيدر اشترطت الدول المانحة أن يقوم لبنان بإصلاحات مالية وإقتصادية قبل المباشرة بتقديم المساعدات، وحالياً، صارت الظروف أصعب، ولذلك، أدى إعلان تعثر لبنان عن دفع ديونه إلى وضع حواجز بينه وبين كل المقرضين والمانحين، وصار لزاماً على لبنان أن يبدأ بالإصلاحات وإلا لن ينال فلساً واحداً من الخارج. وأسوأ مما سبق، لقد فقد اللبنانيون في الداخل ثقتهم بالقطاع المصرفي اللبناني فراحوا يحفظون أموالهم في بيوتهم، وكذلك فقد المغتربون ثقتهم بالقطاع المصرفي حتى كادت تنعدم تحويلاتهم من الخارج إلى المصارف اللبنانية.
قيل في أعقاب مؤتمر سيدر أن الإصلاحات ستنفذها الحكومة التي ستشكل بعد الإنتخابات النيابية التي أجريت في ربيع ٢٠١٨. غير أن حكومة العهد الثانية برئاسة سعد الحريري لم تنفذ شيئاً من تلك الإصلاحات المطلوبة، وشعرت في نهاية صيف ٢٠١٩ أن الحالة المالية والإقتصادية تنذر بالإنهيار، وبدلاً من التفكير ببدء الإصلاحات ومن ثم إستلام مساعدات الدول المانحة، قررت زيادة الضرائب على اللبنانيين الأمر الذي سرّع إنهيار الوضع وصولاً إلى إنتفاضة/ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد مضي حوالي سنة ونصف السنة على إجراء الإنتخابات النيابية.
تفاءل اللبنانيون عندما تم تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب في الشهر الثاني من العام ٢٠٢٠. لكن خاب ظنهم مباشرة بعد نيل هذه الحكومة الثقة لأنها لم تمتلك القرار المستقل. عملت وكأنها تشكل إستمراراً للحكومات السابقة وأدت إستقالتها بعد إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس إلى تجميد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأنها لم تعد تمتلك صلاحية القيام بالإصلاحات اللازمة والمطلوبة.
خمسة أشهر مضت على الإنفجار ولبنان بلا حكومة تتولى تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والسبب هو الخلافات المبيتة بين الطبقة السياسية التي لا يمكن تشكيل حكومة من دون الحصول على توقيعها وموافقتها.
خمسة أشهر على تدمير العاصمة ولسان حال، لا بل أماني وآمال معظم اللبنانيين أن تتشكل حكومة بأسرع وقت حتى تطلق ورشة الإصلاح الحقيقي ولو تحت عنوان “عفا الله عما مضى”.
يريد اللبنانيون من يعيد إليهم ثقتهم ببلدهم. من يوقف هجرة لا تستثني منزلاً لبنانياً، وهي بمعظمها “هجرة أدمغة”، ولذلك يقع على عاتق الحكومة العتيدة المنوي تأليفها، حكومة الطبقة السياسية التي تحكم لبنان منذ إنتهاء حربه الداخلية، أن تجعل من الإصلاحات جواز مرورها نحو مستقبل عصري وحديث وأن لا تكون مجرد “حبة بانادول” تشفينا مؤقتاً وتأخذنا إلى أزمة أكبر وإنهيار يصعب إصلاحه.
لا بد من عملية إصلاحية ولو كانت قيصرية حتى تأتي نتائجها سريعة. الوقت لم يعد لصالحنا وكل يوم تأخير، هو مزيد من نزيف ما تبقى من إحتياطي العملة الصعبة في مصرف لبنان، وكل يوم تأخير يُنذر بالمزيد من خسارة ثروتنا البشرية أغلى ما عندنا. هل الإنقاذ ممكن؟