لم يكن ما جرى من تطورات ميدانية ومن مشهد سياسي ـ إعلامي في الساحة العراقية بسيطاً في الأيام والساعات الأخيرة. منذ أن إنطلقت قبل أسبوع صواريخ “الكاتيوشا” بإتجاه المنطقة الخضراء في بغداد، بدا وكأن هناك من ينصب كميناً للعراقيين، سواء أكان عراقياً أم مكلفاً بهكذا مهمة من الخارج. حضر قائد قوة القدس في الحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني إلى بغداد. إجتمع بعيداً عن الأضواء بعدد من المسؤولين العراقيين من أمنيين وسياسيين، وأبرزهم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. الرسالة الإيرانية واضحة: أربعة أسابيع وتنطوي صفحة دونالد ترامب في البيت الأبيض. خلال هذه الفترة ليس مستبعداً أن نشهد فصلاً جديداً من فصول جنون الإدارة الترامبية بتحريض إسرائيلي مكشوف. لذلك، المطلوب في موازاة التأهب القائم في كل ساحات المنطقة، تفويت الفرصة ونزع الذرائع.
مضمون رسالة قاآني دعوة إلى “المعروفين” بهوياتهم ومجموعاتهم ممن يقفون وراء ظاهرة “صواريخ الكاتيوشا المجهولة” إلى التوقف عن “مغامراتهم الطائشة” التي لا تمت بصلة إلى “الصراع الكبير”.
منذ اليوم الأول لوصول الكاظمي إلى السلطة السياسية في العراق، إنعدمت الكيمياء بينه وبين بعض فصائل الحشد الشعبي ولا سيما كتائب حزب الله العراقية. جرى التعبير عن ذلك بوسائل عديدة أبرزها إتهامه عندما كان مديراً للمخابرات العراقية بالتورط في حادثة إغتيال سليماني والمهندس. سارع الإيرانيون إلى نفي التهمة وإبداء ثقتهم بالرجل الذي إستقبله السيد علي خامنئي قبيل توجه الكاظمي إلى واشنطن، برغم كل الإجراءات الصحية التي يحاط بها عادة “المرشد”. حتى أن هذه الرسالة لم تتلقفها بعض الفصائل وكانت ترغب دائماً بالتشويش على رئيس الوزراء. زاد الطين بلة أن وريث سليماني كان غير راغب بلعب الدور نفسه الذي كان يلعبه سلفه، فضلا عن عدم توفر المواصفات القيادية نفسها. لذلك، أبرز هذا الواقع خللاً ليس سهلاً علاجه في إدارة ملف حلفاء طهران في بغداد.
هذا الواقع من الفوضى والإرتجال جرى التعبير عنه طوال هذه السنة في المشهد العراقي السياسي والأمني ولا سيما ظاهرة الصواريخ التي كادت تتحول إنقلاباً في إحدى ليالي منطقة البوعثية في بغداد، عندما إقتحم جهاز مكافحة الإرهاب بقرار من الكاظمي مقرا لفصيل في الحشد تورط بقضية “الصواريخ المشبوهة”، فكان الرد بإقتحام القصر الجمهوري ومقرات أخرى في المنطقة الخضراء وإطلاق سراح كل الموقوفين، فكانت بداية غير واعدة لتجربة مصطفى الكاظمي في الحكم.
زاد الطين بلة أن وريث سليماني كان غير راغب بلعب الدور نفسه الذي كان يلعبه سلفه، فضلا عن عدم توفر المواصفات القيادية نفسها. لذلك، أبرز هذا الواقع خللاً ليس سهلاً علاجه في إدارة ملف حلفاء طهران في بغداد
في الساعات الأخيرة، وبالتناغم مع طهران، وبدعم غير علني من المرجعية في النجف، وبالتنسيق غير المباشر مع التيار الصدري، قرر الكاظمي توجيه رسالة إلى الفصائل التي “قررت أن تفتح دكاكين على حسابها”، فلم يرضح للضغوط التي مارستها حركة عصائب أهل الحق بزعامة الشيخ قيس الخزعلي لإطلاق سراح أحد أفرادها الذي إتهم بإطلاق صاروخ على المنطقة الخضراء، بل بلغ التحدي حد قيام رئيس الوزراء بجولة في حي المنصور قادته إلى مدينة الكاظمية شمال بغداد، حيث زار مرقد الإمام الكاظم، وتعمد إلتقاط صور في الشوارع مع المواطنين.
ومن يقرأ حروف البيان الصادر عن الكاظمي يدرك مضمون الرسائل التي تعمد إرسالها ولا سيما لجهة قوله “طالبنا بالتهدئة لمنع زج بلادنا في مغامرة عبثية أخرى، ولكننا مستعدون للمواجهة الحاسمة إذا اقتضى الأمر”، ويبدو أن الرسالة وصلت بدليل البيان التراجعي الذي صدر عن زعيم عصائب أهل الحق وقال فيه “نجدد إلتزامنا بالدولة ومؤسساتها وفي نفس الوقت حق المقاومة في إنهاء تواجد القوات العسكرية الأميركية مع الحفاظ على هيبة الدولة بعدم إستهداف البعثات الدبلوماسية”.
وكان لافتاً للإنتباه بيان كتائب حزب الله في العراق الذي تلاه المتحدث الرسمي بإسمها أبو علي العسكري ودعا فيه الكاظمي إلى عدم إختبار “صبر المقاومة”، معتبراً ان “الوقت مناسب جدا لتقطيع اذني” الكاظمي، حسب تغريدته، وقال إن المنطقة “تغلي على صفيح ساخن، وان احتمال نشوب حرب شاملة قائم، وهو ما يستدعي ضبط النفس لتضييع الفرصة على العدو بان لا نكون الطرف البادئ لها”.
وجاءت هذه البيانات على وقع إنتشار عسكري لـ”العصائب” قابله إنتشار للعديد من الأجهزة الأمنية الرسمية ولا سيما جهاز مكافحة الإرهاب، فيما حذر التيار الصدري من وقوع العراق ضحية الصراع الأميركي ـ الإيراني، وهو الأمر الذي تلقفه رئيس الوزراء الذي قال أمام زواره إنه ليس مسموحاً جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات بل يجب تحصينه سياسياً وأمنياً وإقتصادياً. وجاءت دعوة الكاظمي في ظل خشية متصاعدة من تطورات أمنية أو عسكرية، ولا سيما في ضوء “النصائح الودية” التي وجهها ترامب لإيران وقال فيها: “إذا قُتل أميركي هناك (العراق) سأحملكم المسؤولية. فكّروا ملياً”. كما رصدت الدوائر الأمنية العراقية مؤشرات حول نية مجموعات إرهابية تنتمي إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) القيام بأعمال إرهابية في مناسبة الأعياد، كما تقاطع المشهد مع تحذيرات وجهتها بعض الأجهزة العراقية إلى المسؤولين مخافة حدوث إغتيالات سياسية تؤدي إلى تعقيد المشهد الداخلي.
في الخلاصة، يبدو أن الرسائل المتبادلة بين طهران وواشنطن من جهة وبين الإيرانيين والعراقيين من جهة ثانية وبين العراقيين أنفسهم من جهة ثالثة، أعطت مفاعيلها في الساعات الأخيرة، لكن التجربة بيّنت أن هناك من يريد أن يصطاد دائماً في الماء العكر، ولذلك، يستمر حبس الأنفاس من الآن حتى العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل موعد إنتهاء ولاية ترامب ودخول جو بايدن إلى البيت الأبيض.