20 سنة لهيكلة مصارف لبنان.. وإعادة الودائع!

إنتهت مع نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2020 المهلة التي منحها مصرف لبنان للمصارف اللبنانية لتقديم الخطوط العريضة لخططها المستقبلية (5 سنوات) بشأن الحاجات الرأسمالية وتحديد الخسائر وكيفية تكوين المؤونات مقابل خسائر سندات الخزينة والقروض والتوظيفات لدى مصرف لبنان.

بعد أقل من شهرين، تبدأ الجولة الأولى من هيكلة القطاع المصرفي، بخطوة صغيرة جداً في ميدان الألف ميل الذي قد يمتد جيلاً كاملاً إذا أراد اللبنانيون استعادة ودائعهم بشكل أو بآخر، فالمطلوب قبل نهاية فبراير/ شباط 2021 زيادة الرساميل المصرفية 20 في المائة وتكوين سيولة خارجية لدى المصارف المراسلة بما نسبته 3 في المائة من الودائع.

على صعيد زيادة الرساميل، اذا التزمت كل المصارف ـ وهذا مستبعد ـ سيتم ضخ 4 مليارات دولار في رؤوس الأموال وما هي إلا 10 الى 20 في المائة من الخسائر المتوقعة. بيد أن الرساميل متآكلة عن بكرة أبيها اذا طبقت معايير بازل 3 والمعيار المحاسبي الدولي رقم 9 (آي أف آر أس ناين). فالتطبيق الحرفي يؤدي حتماً الى تصفية ذاتية لعدد كبير جداً من المصارف التي ستؤول ملكيتها الى مصرف لبنان. أما إعادة الرسملة على مراحل للوصول إلى أموال خاصة بقيمة 21 ملياراً، كما في نهاية 2019، فتستغرق سنوات طويلة بزيادات متتالية ومن دون توزيع أرباح، ونجاحها مرتبط باصلاح اقتصادي طويل النفس والأمد يضع لبنان على سكة النمو المستدام في مدى عقدين من الزمن، بعدما فقد الناتج كل ما حققه من نمو في عقدين، وفقاً لحسابات صندوق النقد الدولي.

ومن المفارقات، أن التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والذي دخل في متاهات سياسية، هو أكثر من ضرورة على الصعيد المصرفي لمعرفة حجم الخسائر التي تتراوح الأرقام الأولية بشأنها بين 40 و80 مليار دولار. لذا يبقى التدقيق شراً لا بد منه، بانتظار القرار السياسي الخاص بالتوزيع العادل لتلك الخسائر واطفائها مع الزمن بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين وحملة سندات الدين في الداخل والخارج.

لكن بعض ما سبق ينتظر طبخة بحص التشكيل الحكومي الجديد وخطته الاصلاحية التي لن تستطيع إلا الاعتماد على صندوق النقد الدولي. فلا دولارات طازجة تعدل بعض خسائر ميزان المدفوعات إلا من الصندوق الذي إذا محض البرنامج الاصلاحي ثقته يمكن أن يشجع جهات أخرى على اقراض لبنان عبر برنامج “سيدر” مثلاً.

وبرامج صندوق النقد، وفقاً لتجاربه مع دول كثيرة لجأت إليه، تبدأ ولا تنتهي بسهولة، وتمتد لعقود أحياناً كما حصل مع الأرجنتين على سبيل المثال. فالاصلاحات التقشفية تعترضها احتجاجات شعبية حتمية تسقط بفعلها حكومات، لتقوم أخرى مكانها ربما تسقط أيضاً كما حصل في دوامات اليونان والأرجنتين والبرتغال والأردن.

تطرح حلول بينها فصل الأصول القديمة المسمومة بفعل التعثر عن أصول جديدة يجدر تكوينها تدريجياً بجذب ودائع من الخارج لخدمة الاقتصاد بتسليفات انتاجية

واذا اختزلت المشكلة في ميزان المدفوعات الذي سجل في 10 سنوات عجوزات بنحو 30 مليار دولار قضت على كل الفوائض التي تراكمت منذ 1991، فان القروض المتوقعة من صندوق النقد والدول المانحة لا تغطي سنوياً إلا 25 الى 50 في المائة من العجز المتوقع وفقاً لأكثر السيناريوهات تفاؤلاً، ما يعني تغييراً جذرياً مطلوباً في النموذجين الاستهلاكي والإنفاقي وعلى مدى سنوات بانتظار عودة الثقة كاملة غير منقوصة سياسياً وأمنياً واجتماعياً، وهذا من المعجزات الشفائية العجائبية “الجميلة” إذا حصل في بلد مثل لبنان وفقا للمعطيات المرضية القائمة حالياً.

ومن العوامل المحددة لمسار إعادة الهيكلة، هناك تحديد سعر جديد لصرف الليرة اللبنانية يصحّح تشوهات قيم موجودات ومطلوبات تتفاوت تقديراتها الآن بين الضعفين والخمسة أضعاف! ذلك السعر الجديد، عندما يتحدد، لا يمكن الركون إليه من دون ضبط حركة الرساميل والتحويلات (الكابيتال كونترول) في مدى سنوات وسنوات، وإلا تتفاقم المضاربة عند مفترقات فقدان الثقة بالعلاج ونفاد الصبر من طول مدته، فتعود العشوائية لتضرب أبشع الأمثلة في انتقال الثروة الشحيحة الباقية من يد إلى أخرى كما حصل أيام الحرب الأهلية اللبنانية.

ولأجل عودة المصارف الى لعب الأدوار الأساسية التي تعطلت منذ 17 تشرين الأول/ اكتوبر، واستعادة القدرة على جذب الودائع ومنح التسليفات، تطرح حلول بينها فصل الأصول القديمة المسمومة بفعل التعثر عن أصول جديدة يجدر تكوينها تدريجياً بجذب ودائع من الخارج لخدمة الاقتصاد بتسليفات انتاجية. أي قيام بنوك جديدة تابعة للقديمة ومنفصلة عنها(!) او جديدة كلياً. فالجديدة تبدأ من الصفر تقريباً، بينما تعالج القديمة الأصول المتعثرة التي في حضنها على المدى الطويل. على سبيل المثال لا الحصر: الضمانات العقارية مقابل التسليفات فقدت نحو ثلثي قيمتها بالأسعار الحقيقية للدولار الطازج مع توقع عودة أسعار العقار إلى مستويات ما قبل 20 سنة.. وعلى صعيد الودائع بالدولار، التي زادت 100 مليار في 20 سنة، لم يبق منها حالياً إلا النذر اليسير غير القابل للسحب، واعادة تكوينها تحتاج إلى نفس الفترة تقريباً وربما اكثر (أي نحو جيل كامل) هذا اذا كان النموذج المقبل أكثر انتاجاً بالاعتماد على التصدير أكثر من الاستيراد، وأقل ريعاً  بلا فقاعة مالية تغذيها الفوائد المرتفعة.

لقد ولّت أيام الرخاء السامح بمكرمات الدمج والاستحواذ المصرفي على حساب المال العام، ولا نشاط اقتصادياً نامياً يغطي مراحل التعافي بسرعة. لذا يتسرب من البنك المركزي، هذه الأيام، ان المعالجات قد تستغرق جيلاً كاملاً

في الأثناء، يحدث في لبنان ما لم تشهده أي دولة في العالم تعرض قطاعها المصرفي للتعثر الشديد. فالإدارات المصرفية بقيت كما هي برغم الزلزال المالي المدوي، والملكيات المصرفية على حالها حتى تاريخه. وما ثباتها إلا الدليل الإضافي على التشابك المصلحي بين الطبقتين السياسية والمالية بأواصر متينة ووشائج شبكية معقدة يصعب فك متلازماتها كما يحلو للبعض أن يعتقد. والفك المطلوب لمنع استمرار تضارب المصالح وتطبيق حوكمة رشيدة يحتاج الى تغيير نوعي ما في التمثيل السياسي لا يمكن ترقب حصوله إلا بعد عدة انتخابات بقوانين غير التي يحيكها السياسيون على مقاسهم منذ اتفاق الطائف.

إقرأ على موقع 180  للصين أن تحمي بوتين حماية لمصالحها أولاً.. كيف؟

بالعودة الى المدى القصير، يجد مصرف لبنان نفسه أمام مفترق جديد بعد نهاية الشهر القادم إذا تخلفت مصارف عن زيادة الرساميل. عندها، ستؤول إليه تركة ثقيلة إضافية فيجد نفسه في مواجهة مع المودعين أشد مضاضة مما سبق و”ذاق” منذ 15 شهراً إلى الآن.

لقد ولّت أيام الرخاء السامح بمكرمات الدمج والاستحواذ المصرفي على حساب المال العام، ولا نشاط اقتصادياً نامياً يغطي مراحل التعافي بسرعة. لذا يتسرب من البنك المركزي، هذه الأيام، ان المعالجات قد تستغرق جيلاً كاملاً، أي الفترة نفسها التي تكوّن فيها الورم المالي بعيداً عن أي اقتصاد حقيقي يوازيه، على أمل أن يغير السياسيون، أو اللبنانيون عموماً، النموذج باتجاه الانتاج المستدام بدلاً من الريع المنقطع او المنفقع.

وما مصرف لبنان إلا واحداً من بنوك مركزية تصدت لأزمات وحملت على عاتقها معالجات طويلة الأمد. فالاحتياطي الفدرالي الأميركي يحمل إلى اليوم أصولاً مسمومة هي من تبعات أزمة 2008، والبنك المركزي الأوروبي يحمل أصولاً من تبعات أزمات 2008 العالمية و2011 الخاصة بالديون السيادية الأوروبية، ومصرف اليابان المركزي هو الآخر مستمر الى اليوم في معالجة ذيول أزمة المصارف في 1997.

أما التعويل على صندوق سيادي، يضم عقارات وأملاكا ومؤسسات عامة لتعويض خسائر المصارف، فدونه عقبات سياسية وأخلاقية، لأنه يعتدي على عدالة توزيع الثروة بين الأجيال  ليضع مقدرات الوطن في أيدي “أوليغارشية” قليلة العدد تحكم على الأجيال المقبلة بعوز وضيق حال وتحوّلهم إلى أجراء مقهورين، وهذا من المحال استمراره او استقراره  بالحتمية التاريخية للصراع الطبقي، وهي العبارات التي لا يستسيغ سماعها أصحاب المصارف، حتى لو كان قائلها خريج مدرسة غير ماركسية!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  النرجسية والسادية في حكم لبنان.. "إنني أتهم"