تعد قراءة هذا الفصل ضرورية إذا ما أردنا معرفة موقع أعمال وحيد حامد على خريطة الأفلام السينمائية التي تناولت قضية الإرهاب، أما لماذا هذا النوع من أعماله بالتحديد التي يهتم مقال اليوم بالإضاءة عليها فلأنه يمثل حجر الزاوية في المشروع التنويري لوحيد حامد وأحد أبرز إضافاته الإبداعية. كان الإرهاب قد أخذ يضرب مصر منذ سبعينيات القرن الماضي عندما ظن أنور السادات أن تصالحه مع تيار الإسلام السياسي يؤمنه من ضربات اليسار فإذا بالضربة تأتيه من أحد تيارات اليمين في مشهد مأساوي يتجاوز حدود الخيال. ومع ذلك، وكما يقول محمود قاسم، ظلت السينما لا تقترب من هذه المساحة الشائكة كجزء من عدم رغبة الدولة في تضخيم ظاهرة الإرهاب باعتبارها مجرد ظاهرة فردية تسهل معالجتها، وعندما بدأ يتكون نوع من الاهتمام الرسمي بالظاهرة الإرهابية جرى تصويرها سينمائياً بشكل خفيف يتعامل مع الإرهابيين كثلة من رجال العصابات من دون تركيز على البيئة التي أنتجت الإرهاب ولا على الأفكار التي يعتنقها الإرهابيون، وفي هذا السياق، جاء فيلم “الإرهاب” عام ١٩٨٩ لحُسن شاه وبشير الديك، وفيلم “انفجار” عام ١٩٩٠ لسعيد مرزوق (كاتب الفيلم ومخرجه) ليغرقانا في مطاردات بوليسية بين الشرطة والإرهابيين. ولقد ظل الأمر على هذا النحو حتى كتب لينين الرملي فيلم “الإرهابي” الذي اهتم بالتحليل النفسي والفكري لشخصية الإرهابي، كما اهتم أيضاً بمتابعة التطور الكبير في شخصية الإرهابي بعد معايشته أسرة مصرية طيبة، وكان تناوله مباشراً دون إسقاطات.
***
وإذا كان محمود قاسم اعتبر فيلم “الإرهابي” حداً فاصلاً بين مرحلتين من مراحل المعالجة السينمائية للظاهرة الإرهابية: مرحلة السطحية ومرحلة التعمق، فإنني أعتبر فيلم “طيور الظلام” لوحيد حامد والذي عُرِض في عام ١٩٩٥ حداً فاصلاً بين مرحلتين أخريين: مرحلة تفريغ الظاهرة من أبعادها السياسية ومرحلة معالجتها سياسياً. تجلت عبقرية وحيد حامد في الربط بين الفساد من جهة وانتهازية تيار الإسلام السياسي من جهة أخرى، مع وعيه بتعدد مراتب هذه الانتهازية وصولاً لممارسة الإرهاب بهدف الوصول إلى السلطة. قبل أن يرفع وحيد حامد الغطاء عن هذه الشبكة العنكبوتية من المصالح المتبادلة بين الفساد والإسلام السياسي، كانت هناك عشرات الأفلام التي تناولت الفساد بعد ظهور ما يُعرَف باسم “القطط السمان” في عصر الانفتاح سداح مداح وتوَحّش رجال الأعمال وتضخُم ثرواتهم بوسائل غير مشروعة. من هذه الأفلام ما ارتبط باسم وحيد حامد نفسه مثل فيلمّي “الغول” و”اللعب مع الكبار”، ومنها ما ارتبط بأسماء كتّاب غيره مثل “السادة المرتشون” و”العربجي” وهما فيلمان اهتما بقضية البلوبيف الفاسد التي رجّت المجتمع المصري رجّا في فترة الثمانينيّات. عموماً فإن من يريد إطلالة أوسع على فئة الأفلام التي تناولت مختلف صور الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السينما المصرية عليه بالرجوع للمقال المهم للدكتورة مريم وحيد في مجلة “روزاليوسف” في الأول من كانون الثاني/يناير ٢٠١٧ تحت عنوان “السينما المصرية ومكافحة الفساد”، ففيه الكثير من التفاصيل. إذن كانت هناك أفلام كثيرة اهتمت بالفساد وتتبعت المتورطين فيه كانوا من رجال الشرطة أو المحاماة أو الأعمال أو كانوا من عوام الناس، كذلك كانت هناك عدة أفلام محدودة تتعامل مع الإرهاب على النحو الذي أشار إليه الناقد محمود قاسم قبل فيلم الإرهاب بشكل بوليسي خفيف، أما هو وحيد حامد فلقد بدلوه في هذا المضمار وإن بشكل مختلف من خلال فيلم “الإرهاب والكباب”، فالفيلم كانت فكرته الجوهرية هي كيف يصنع الموقف من إنسان مسالم – إرهابياً مزيفاً وقادراً في الوقت نفسه علي تعرية الكثير من سوءات المجتمع الذي يعيش فيه، لكن ليس قبل “طيور الظلام” عندما تم الربط بين كلٍ من الفساد والإرهاب.
***
في موقف عبقري داخل فيلم “طيور الظلام” يتواجه فتحي نوفل المحامي الفاسد مع علي الزناتي محامي الجماعات الإرهابية فيقول الأول للثاني: إنت ف أمان بسببي، ويرد عليه الثاني: وإنت ف نعيم بسببي. وهكذا تتجسد أمامنا بكل وضوح العلاقة العضوية بين الفساد والإرهاب وحاجة كلٍ منهما للآخر، يحتاج الفساد إلى تشتيت الانتباه عنه حتى يستشري ويتوسع، ويحتاج الإرهاب إلى الفساد الذي يداري عليه ويمرر له مصالحه ويمكّنه من تحقيق أهدافه. وبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من تصادم محتمل بين مصالح الطرفين فيبرز التناقض بينهما وهما يتصارعان على جسد الوطن، وفِي هذا السياق، يأخذنا وحيد حامد إلى مشهد النهاية في فيلم “طيور الظلام” حيث يتسابق المحاميان فتحي وعلي لركل الكرة/ الوطن فيحدث الانفجار المروع، وهو الانفجار الذي وقع فعلاً في كانون الثاني/ يناير ٢٠١١، أي بعد ١٦ عاماً من عرض فيلم “طيور الظلام”، وهكذا هو المبدع الحقيقي الذي لا ينفصل عن واقع مجتمعه ويُكشَف عنه غطاؤه فتتحقق نبوءته السياسية وإذا ببصره حديد. لاحقاً سيتكرر ربط الفساد بالإرهاب في فيلم “المصير” ليوسف شاهين عام ١٩٩٧ فإذا بالخليفة المنصور يعقد صفقة مع إرهابيي الفكر، هو يمرر حرقهم كتب قاضي القضاة وفيلسوف زمانه ابن رشد، وهم يساندونه في معركته مع الأسبان ويحشدون الجماهير من خلفه لينتصر ويثبّت أركان حكمه، وكل انتصار بحلفٍ مع الإرهاب هزيمة.
***
برحيل المبدع وحيد حامد غاب أحد أهم قادة كتيبة التنوير في مصر والوطن العربي التي تضم أمثال دكتور جابر عصفور ودكتور صلاح فضل ودكتور مراد وهبة وابراهيم عيسى وغيرهم كثيرون جداً. هذه الكتيبة التي يحمل أفرادها أرواحهم على أكفهم، فيقضي نَحبَه منهم من يقضي بسلاح الجهل والتعصب (دكتور فرج فودة)، وينجو منهم بحياته من ينجو بمعجزة إلهية (نجيب محفوظ)، ويعاني منهم من الحقد التكفيري الأسود من يعاني (دكتور نصر حامد أبو زيد). وهكذا هو الصراع الدائم بين الخير والشر والتعاقب الأبدي للنهار والليل. حتى إذا دنا الأجل واقتربت ساعته وقف وحيد حامد يحيي جمهوره في مهرجان القاهرة السينمائي خافضاً رأسه ورافعاً عصاه، وكأني به يطرد بعصاه تلك الأرواح الشريرة عن احتفالية تحتشد فيها قيم الجمال والفن وبهجة الروح.
***
الراحل الكبير وحيد حامد، لقد اختلفت معك حول شخصية جمال عبد الناصر في الجزء الثاني من مسلسل “الجماعة “واتفقت معك في ما عداه وهو كثير جداً.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“